في رسالة (بين الأمس واليوم) تحدث الإمام الشهيد حسن البنا عن تطورات الفكرة، وأهدافها، ومراحلها، وعرض فيها لمبادئ الإسلام ووسائل الإصلاح، والأهم أنه حدد فيها واجبات الأخ في الأوقات السياسية العصيبة، كالتي نعيشها هذه الأيام، وقد كثر فيها خصوم الدعوة المعادون لصعودها، وهو عندما يحدد هذه الواجبات يصور الواقع تصويرًا دقيقًا كأنه يعيش بيننا الآن رحمه الله رحمة واسعة.

 

1- يذكِّر البنا إخوانه بأهداف الدعوة العامة؛ كي لا يضل أحدهم الطريق، أو ينصرف لأهداف أخرى فرعية غير تلك الأهداف العظيمة التى حددها، يقول: "ماذا نريد أيها الإخوان؟ أنريد جمع المال وهو ظل زائل؟ أم سعة الجاه وهو عرض حائل؟ أم نريد الجبروت في الأرض: (إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) (الأعراف: 128)، ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83) شهد الله أننا لا نريد شيئًا من هذا وما لهذا عملنا ولا إليه دعونا، ولكن اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين: - أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر. - أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها، ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل؛ لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام".

 

2- ويقدم لهم وسائل تحقيق هذه الأهداف، التي تخرج عن نطاق الكلام والظهور الإعلامي والأصوات العالية إلى وسائل تربوية عملية، هي نفسها وسائل الدعوة الأولى التي نشرت الخير وملأت الدنيا علمًا ونورًا، يقول: "كيف نصل إلى هذه الأهداف؟ إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء كل ذلك وحده لا يجدي نفعًا ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف، ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة: 

- الإيمان العميق.

- التكوين الدقيق.

- العمل المتواصل.

وتلك هي وسائلكم العامة أيها الإخوان، فآمنوا بفكرتكم وتجمعوا حولها واعملوا لها واثبتوا عليها. وقد تكون إلى جانب هذه الوسائل العامة وسائل إضافية لا بد من الأخذ بها وسلوك سبيلها، منها السلبي ومنها الإيجابي، ومنها ما يتفق مع عرف الناس ومنها ما يخرج على هذا العرف ويخالفه ويناقضه، ومنها ما فيه لين ومنها ما فيه شدة، ولا بد أن نروض أنفسنا على تحمل ذلك كله والإعداد لهذا كله حتى نضمن النجاح. قد يطلب إلينا أن نخالف عادات ومألوفات وأن نخرج على نظم وأوضاع ألفها الناس وتعارفوا عليها، وليست الدعوة في حقيقة أمرها إلا خروجًا على المألوفات وتغييرًا للعادات والأوضاع، فهل أنتم مستعدون لذلك أيها الإخوان؟".

 

3- وتوقع الإمام الشهيد أن يكون هناك أصناف من الناس، يحاربون الفكرة، ويشككون في جدواها، وينسبون إليها الفشل وعدم مجاراتها واقع الناس وعصريتهم.. يفعلون كل هذا لتيئيس الأفراد وتثبيط همم القادة والمسئولين.. يقول: "وسيقول كثير من الناس: وماذا تعنى هذه الوسائل؟ وما عساها أن تنفع في بناء أمة وترميم مجتمع مع هذه المشكلات المزمنة، ومع استقرار الحال على هذه المفاسد المتعددة؟ وكيف تعالجون الاقتصاد على غير أساس الربا؟ وكيف تصنعون في قضية المرأة؟ وكيف تنالون حقكم بغير قوة؟ فاعلموا أيها الإخوان أن وساوس الشيطان يلقيها في أمنية كل مصلح فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. واذكروا لهؤلاء جميعًا أن التاريخ يقص علينا من نبأ الأمم الماضية والحاضرة ما فيه عظة وعبرة، والأمة التي تصمم على الحياة لا يمكن أن تموت".

 

4- وتوقع أيضًا- رحمه الله- أن الأمور لن تقف عنذ هذا الحد، بل تتعداها- كما يجري هذه الأيام- إلى إسراع الكثيرين بإظهار العداوة للدعوة، حتى لكأنه لم يبق طرف يناصرها ويشد أزرها إلا أبناؤها وحملتها، يقول رحمه الله: "وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة والأيدى الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدّين بأموالهم ونفوذهم: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8).

 

5- أما كيفية التغلب على كل هذه العقبات، أما وسائل مواجهة كل هؤلاء الأعداء وأولئك الخصوم، أما عوامل نجاح الأخ المسلم التى يتسلح بها -دائمًا- فيلخصها الإمام الشهيد في قوله: "ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أمام هذه العقبات جميعًا أننا ندعو بدعوة الله وهى أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوى الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) (البقرة: 138) وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها، وأننا- بحمد الله- براء من المطامع الشخصية بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، وأننا نترقب تأييد الله ونصرته ومن نصره الله فلا غالب له: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 11)، فقوة دعوتنا وحاجة الناس إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله إيانا هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يقف في طريقها عائق: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

 

6- وفي نهاية الرسالة وهذا أمر لم نجده في باقي رسائله التي تزيد على الخمسة وعشرين رسالة- أفاض الإمام الشهيد في توصية الإخوان، وتذكيرهم بأهداف دعوتهم ومراميها، مطالبهم بالاعتزاز بها، والحرص عليها، والثبات على ثغورها  فيما يشبه توصية مودع، يقول: "أيها الإخوان المسلمون، اسمعوا: أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنـظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بيني وبينكم إلى حين؛ فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم، فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم، وأن تجتمعوا عليها، وإن تحت كل كلمة لمعانٍ جمة..

 

أيها الإخوان.. أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًا ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددًا دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن الحق الذى لا غلوّ فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس. إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا ندعو إلى الإسلام الذى جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه سياسة ! فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام..

 

أيها الإخوان.. آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه، وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه. وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات. وكونوا أقوياء بأخلاقكم أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الأتقياء الصالحين وأقبلوا على القرآن تتدارسونه، وعلى السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين؛ فإذا هدى الله قومًا ألهمهم العمل، وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل. وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين، واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم. وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده، والفرصة آتية لا ريب فيها (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4، 5).

 

وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين وأحيانا حياة الأعزاء السعداء وأماتنا موت المجاهدين والشهداء إنه نعم المولى ونعم النصير.