رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن شهر رمضان يودعنا ونودعه وقلوبنا به متعلقة، وأرواحنا إليه مشدودة، وتتمنى أن تطول الأيام الباقية، وألا تنفد لياليه الأخيرة؛ حتى ننعم بما يتنزل فيها من رحمات، ونزداد بها قربًا من الله، ونفوز بعتق رقابنا من النيران.. بأن ننال مغفرة من الله ورضوانًا، فعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضى الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِي قَبْلِي، أَمَّا وَاحِدَةٌ: فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ نَظَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ خُلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أُطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: اسْتَعِدِّى وَتَزَيَّنِى لِعِبَادِى أَوْشَكَ أَنْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِى وَكَرَامَتِى. وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ غَفَرَ لَهُمْ جَمِيعًا". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَهِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ: "لَا، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْعُمَّالِ يَعْمَلُونَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا أُجُورَهُمْ؟".

 

الصيام مدرسة

إن شهر رمضان مدرسة عامة، مدة الدراسة فيها شهر، يجدد فيها المسلم والمسلمة إيمانه، ويقوي صلته بربه، فيصير خلقًا آخر، لا يميل إلى الإخلاد إلى الأرض، ويرفرف إلى آفاق الملائكة، ويكتسى بخصائص ثلاث: الربانية، والإنسانية، ونشر الخير ومجاهدة الشر.

 

أما الربانية فتتمثل في صيامك لله وحده إيمانًا واحتسابًا، وصيامك على هذا الوجه سر بينك وبين مولاك.. وفيه تجرد وإخلاص، وتسامٍ على الضرورات الجسدية، ومن أمسك بزمام نفسه وفطمها عما تهوى فقد قهر أعدى عدو له ألا وهو نفسه التى بين جنبيه؟ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِي الْمَأْوَى (40)) (النازعات).

 

وبغير إصلاح النفس لا يتغير حال الأمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11).

 

ومن ثَمَّ هتف الشاعر:

أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا                    فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

 

إن الصيام مدرسة للتربية الروحية؛ ولقد كان السلف العظيم يجعلون من رمضان دورة إيمانية للروح الإنسانية ومعهدًا خاصًّا للتربية النفسية، فكانوا يتجردون عن آدميتهم الطينية إلى حين، ويتخففون من مطالبهم المادية التي تكبّل الروح بأغلال ثقال، وتعوق القلب الإنساني عن التحليق في آفاق الملأ الأعلى.. فأما نهارهم فصيام وذكر، وأما ليلهم فقيام وتلاوة وفكر، وأما نظرهم وخواطرهم فعبرة وعظة وإلهام.. حديثهم قرآن وخُلُقهم قرآن.. وقد سُئلت أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".

 

وأما الإنسانية المكتسبة من الصيام، فإنها تكون مع إصلاح النفس والارتقاء بها إلى الربانية، وتحقيق التقوى، التي هي ثمرة الصيام، وأثر ذلك في إحياء الشعور والوجدان، وتزكية النفس، وتفجير ينبوع الحنان والعاطفة في أعماقها، ودفعها إلى الجود والبذل، والتوجه بالخير إلى الإنسانية وكذلك كان رسولنا أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان! وبذلك يلتقى الأغنياء والفقراء على مائدة الإنسانية الواحدة.

 

فشهر رمضان شهر التواصل الاجتماعي، وتقديم الخير وبذل المعروف وكل ذلك من عوامل الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك مما تحتاج إليه الأمة في مثل هذا التغيير الذي يحدث الآن على الساحة العربية والإسلامية.

 

وأما نشر الخير ومجاهدة الشر والباطل فهو الغاية من بعث هذه الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية 110)، وما يتدرب عليه في رمضان علمًا بالقرآن وعملاً بالإحسان هو تطبيق عملي لهذه الغاية وهذا الهدف.

 

التقوى سر الإصلاح وأساس النهضة

إن التقوى ثمرة الصيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) (البقرة)، وما أمرنا الله بما تعبّدنا إلا من أجل التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (البقرة)، بل إن ما فرضه الله من القصاص جعل غايته التقوى: (وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (البقرة).

 

والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه، والمتقون هم الذين يعترفون بالحق ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه، ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية.

 

المتقون هم الذين يعملون بكتاب الله فيحرمون ما حرّمه ويحلّون ما أحلّه، فهم لا يخونون في أمانة، ولا يرضون بالذل والإهانة، ولا يعقّون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم، يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون، لا يغتابون ولا يكذبون ولا ينافقون، ولا ينمون ولا يحسدون، ولا يراءون ولا يرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكر ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًّا الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.

 

ومما أثر عن السلف أن من علامة التقوى أنك ترى لها قوة فى دين، وحزمًا فى لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا فى علم، وعلمًا فى حلم، وقصدًا فى غنى، وخشوعًا فى عبادة، وتحملًا في فاقة، وصبرًا فى شدة، وطلبًا فى حلال، ونشاطًا فى هدى، وتحرجًا عن طمع.

 

عَلَيْكُم بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُوْنَهَا           فِإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وأَوْلَى وأَعْدَلُ

 

أيها المسلمون في كل مكان.. أيها الناس أجمعون:

إن الدين بكل تشريعاته حرَّر نفوس المسلمين من المطامع والأهواء والشهوات، وربط نفوسهم بالله خالق الكون والحياة، وقيد إرادتهم بإرادته وحده، والله هو الحق، وهو عنوان الخير والحب والرحمة، فمن أحبّ الحقّ واستحوذ عليه حب الخير والرحمة، كان متحررًا من كل ما عداها من صفات مذمومة، وهؤلاء يختارهم الله عز وجل بفضله كما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن لله عبادًا اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم في الخير وحبب الخير إليهم، هم الآمنون يوم يفزع الناس".

 

وإذا كان لا بد للإنسان من أن تسيطر عليه فكرةٌ، أو نزعة، أو خلق، فالذين استولى عليهم حب الحق خيرٌ وأكرم ممن يستعبدهم الباطل، والذين تشبعت نفوسهم بحب نزعة إنسانية كريمة، تستمد سموها من الله، أكرمُ ممن تستعبدهم نزعة شهوانية يمتدُّ نسبُها إلى الشيطان، والذين يخضعون لله، ويمتثلون أمره ونهيَه أفضلُ وأكمل وأعقل ممن يخضعون للشهوات والأهواء، بل وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من باع آخرته بدنياه هو أحمق الناس، وإن أحمق منه هو مَن باع آخرته بدنيا غيره".

 

ولكن يا أخي المسلم ألا ترى أن هؤلاء يستحقون منك الإشفاق والرثاء، أكثر مما يثيرون في نفسك السخط والاستنكار؟

 

إن أوسع الناس حرية أشدُّهم لله عبودية، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكَّم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مال، ولا تُضيِّع شهامتَهم لذة، ولا يُذِل كرامتَهم طمعٌ ولا جزع، ولا يتملكهم خوفٌ ولا هلع، لقد حررتْهم عبادةُ الله من خوف ما عداه: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ (64)) (يونس)، صدق الله وصدق رسوله الكريم الذي قال "مَن خاف الله خوّف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خوّفه الله من كل شىء"؛ فقد انقطع هؤلاء بعبوديتهم له عن كلِّ خضوع لغير الله، فإذا هم في أنفسهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي أخلاقهم نبلاء، وفي قلوبهم أغنياء، وذلك- لعمري- هو التحرر العظيم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس"، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبح وهمّه همّ واحد، وهو الله والدار الآخرة، جعل الله غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة".

 

وما أجملَ قولَ ابن عطاء الله: أنت حر لما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع! وبهذا المعنى تفهم تلك الحكمة البليغة، التي قالها أحمد بن خضرويه: "في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية".

 

أيها المسلمون..

إن المسلم الذي يقيم شعائر الدين ويحافظ على ما فرضه الله عليه من عبادات، يكون أكثر الناس حبًّا لمَن حوله، يبذل لهم الخير طاعةً لله وتقربًا، ويسهر على راحتهم ليرضى الله عنه، يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه إلف مألوف" بل قال عليه الصلاة والسلام: "لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"؛ لأن "خير الناس أنفعهم للناس"، ومن صفاته أيضًا أن يكف شره وأذاه عن الناس خوفا من الله وخشية عقابه، فهذه الرقابة أهم وأقوى من رقابة القوانين والسلطات، كما تراه أشد الناس إخلاصًا لوطنه، وتفانيًا في خدمته، والعمل المتواصل المتقن في سبيل نهضته، كما تجده أسرع الناس في الدفاع عن أمته والذود عن حياضها ويقدم نفسه فداءً لوطنه وأمته.

 

أيها المسلمون..

اعتزوا بدينكم، واعملوا جاهدين للإسلام لتظلكم رايته، فتنعموا بالحرية والعدالة الاجتماعية، والرحمة والمساواة، ولتسعدوا بالأمن والأمان في أوطانكم، وليهدأ العالم ويسكن ويتخلص من ويلات الحروب والتعذيب، وليعم الأمن ربوع العالم وكافة البشر دون تفرقة بلون أو جنس أو عقيدة، ومع ذلك تكون الأخرى التى تحبونها، يفتح الله لكم أبواب الخير من السماء والأرض: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)) (الأعراف).

 

ونهنئ المسلمين جميعًا بعيد الفطر المبارك يوم الجائزة في ختام عبادة، فعباداتنا دائمًا تكون شكرًا على تمام النعمة وجائزة لإحسان العمل، ونصافحهم بأيدينا وقلوبنا، سائلين الله- عز وجل- ألا يأتي رمضان المقبل إلا وقد مكَّن الله لدينهم الذي ارتضاه لهم، ومنحهم الحرية في أوطانهم، والسيادة على أرضهم، والتخلص من وصاية غيرهم، وإعلاء راية الإسلام خفاقةً على ديار المسلمين: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).