وليد شلبي

 

إعداد: وليد شلبي*

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد

نستعرض اليوم شرحًا لرسالة المؤتمر السادس، والذي سنتاوله على مرحلتين: المرحلة الأولى وهي الحديث عن الخطوط العامة للرسالة ثم المرحلة الثانية والحديث فيها عن كيفية إدارة الصراع السياسي الذي ألمح إليه الإمام البنا في مضمون رسالته.

 

والمعروف عن رسائل الأستاذ الإمام البنا أنها عملٌ يخاطب الواقع.. ويمليه الواقع كذلك.
وهذا المؤتمر له خصوصية غير المؤتمرات التي سبقته، حيث إنه آخر مؤتمر أقامه الإخوان، وبعد ذلك تداعت الأحداث، وكانت الحرب العالمية الثانية في أوجها في ذلك الوقت، هذا غير الأحداث الداخلية التي حدثت في مصر وأدَّت في النهاية إلى حل جماعة الإخوان بعد مقتل الخازندار ومقتل النقراشي ثم مقتل واستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

 

وكان المؤتمر الأول الذي عقده الإخوان قد تكوَّن فيه مكتب الإرشاد وتكوَّن فيه قسم الأخوات، ثم المؤتمر الثاني في نفس العام 32/33، ثم المؤتمر كان الثالث في عام 34 وفي هذا المؤتمر قُدمت ورقة هامة رغم أن الجماعة في ذلك الوقت لم يمر عليها أكثر من ستة أعوام، فالجماعة أُنشئت سنة 28، وهذا المؤتمر الثالث كان في سنة 33؛ أي بعد مرور خمس سنوات فقط على الجماعة، ورغم ذلك قُدمت في هذا المؤتمر الورقة بعنوان (إلى أي مدى وصل الإخوان المسلمون وماذا يعوزون؟)، وكانت تُعتبر نقلةً نوعيةً في هذا المؤتمر؛ لأنه لأول مرة يحدث ما يُعرف بالمصطلح الحديث (النقد الذاتي).

 

ثم كان المؤتمر الرابع، ثم المؤتمر الخامس، وهو أيضًا من المؤتمرات الهامة جدًّا وأُعدت فيه ورقه هامة عُرفت بعد ذلك بـ(رسالة المؤتمر الخامس)، ومن نتيجة هذا المؤتمر الدعوة إلى البحث عن الوسائل العلمية التي تُحقق للإخوان غايتهم، ومن أجل ذلك تكوَّنت عدة لجان؛ لجنة دستورية لبحث الدستور وموافقته الشريعة، ولجنة قانونية للنظر في إعادة الأحكام التشريعية القضائية وموافقتها للشريعة الإسلامية، ولجنة علمية تدعو إلى كتابة الفقه بصورةٍ ميسرةٍ والتي صدر عنها كتاب (فقه السنة)، ولجنة علمية أيضًا للبحث عن أهم الوسائل التي تُحقق للإخوان غايتهم.

 

ثم كان بعد ذلك المؤتمر السادس الذي تكلَّم فيه الإمام البنا كما هو بين أيديكم عن محورٍ هامٍ نستطيع أن نقول إنه يهم العمل الإسلامي المعاصر، ولعل من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ذلك الاضطراب الذي يعاني منه العمل الإسلامي المعاصر تنبَّأ بها الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة؛ رسالة المؤتمر السادس، ألا وهو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة.

 

وكما يحكي الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه (أحداث صنعت التاريخ) أن هذا المؤتمر حدث في ظروفٍ عصيبةٍ خارجية وداخلية؛ أما الخارجية فكانت أحداثًا عالميةً وفيها انفجر مخزن البارود وكان أوج الحرب العالمية الأولى، وهي تجربة كما يروي المؤرخون أنها تجربة كارثية أصابت العالم أجمع.

 

أما الأحداث الداخلية فكانت بعض الانشقاقات التي حدثت في صفوف الإخوان، وكان أهمها خروج جماعة شباب محمد عن الإخوان المسلمين، وهذه الجماعة كان يرأسها المحامي محمود أبو زيد عثمان في صعيد مصر، وهو الذي ادَّعى أن وسائل الإخوان لا تُحقق الغايات، ودعا إلى الاستعجال والتطرف، وقد كتب مقالاً بعنوان الإسلام (يدعو إلى التطرف)، وادَّعى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى التطرف، والمعروف أن هذه الجماعة دخلت على الإمام البنا- كما سمعتُ من الأستاذ حامد أبو النصر يحكي لنا هذا التاريخ-؛ حيث دخلوا على الإمام البنا في المركز العام في مكتبه وأشاروا إليه بالسلاح على أن يترك الجماعة وطالبه أن يستقيل.. لكن الإمام رفض وفتح لهم صدره وقال: "خيرًا لي أنْ تستقرَّ هذه الرصاصات في صدري لكني لا يمكن أن أتخلى عن الأسلوب الذي أُومن به والطريق الوحيد الذي يؤدي إلى المقصود؛ عظيم الأجر وجزيل المثوبة من الله عز وجل"، وفتح لهم خزنة المركز العام وقال: "هذا المال خذوه وانتفعوا به"، ودعا لهم بالتوفيق.

 

 

وكانت هذه أحداث الانفصال، ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث والظروف العصيبة التي كُتبت فيها الرسالة (رسالة المؤتمر السادس) أظهرت موقع جماعة الإخوان ومكانتها في المجتمع المصري بصورةٍ فريدةٍ؛ مما لفت الأنظار إليها وإلى خطواتها أيضًا، كما يقول الأستاذ محمود عبد الحليم: "إن الأستاذ البنا قبل أي مؤتمر كان يُكوِّن فريقًا من الإخوة يقرأ عليه العناصر ومضمون الرسالة التي كان يتكلم فيها، أما بالنسبة لرسالة المؤتمر السادس فكوَّن عدة لجان وأخذ وقتًا طويلاً جدًّا في الإعداد لهذه الورقة؛ لأنها ناقشت المجتمع المصري من الداخل فكشفت الواقع المصري في هذه الفترة في أمرين هامين جدًّا، وهما الانهيار الداخلي من ناحية؛ حيث انتشار التحلل والإباحية وصور الجهل والفقر والمرض والتخلف والتشرذم، ومن ناحيةٍ أخرى الانقسام والفرقة في المجتمع المصري، وهو ما يهدد بانهيار كيان الأمة من داخلها، كما ذكر في بعض كلماته.

 

 

والجانب الآخر ما يهدد كيانها الخارجي من غلبةِ الأجنبي على خيرات البلاد، وكان لأول مرة يعرف الناس وكثيرٌ من المصريين حتى الوزراء ومَن هم في سدة الحكم هذه الإحصائيات التي قدَّمها الإمام البنا عن وجود عددٍ ضخم جدًّا من الشركات الأجنبية، التي استولت على خيراتِ البلاد، بالأرقام والإحصائيات والتاريخ، وكان صعبًا جدًّا في ذلك الوقت أن يُقدَّم بهذه الدقة؛ مما لفت النظر إلى خطورةِ ما يعرفه الإخوان عن الواقع المصري من داخله الذي لخصه الإمام عندما قال: "الخطر الذي يهدد كيانها الداخلي من فقرٍ وانقسامٍ والفرقة وفي أخطر صوره من الاستعمار والاحتلال".

 

 

مما لا شك أن الرسالة لفتت النظر إلى خطورة ما يعرفه الإخوان، وهذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة عن الواقع المصري في ذلك الوقت؛ وما يهدد كيانه الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء؛ ولذلك تسارعت الأحداث فيما بعد والتي أدَّت إلى المحن التي واجهتها جماعة الإخوان وانتهت باستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

 

الغايات والوسائل

لعل أهم شيء توضحه الرسالة وتتحدث عنه هو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة، كما يُقال في بعض الأقوال المأثورة "لا تذكر الغاية ولكن اذكر الوسيلة".. قل لي ما هي الوسيلة وأنا أحكم على الغاية؛ لأن الغايات دائمًا حسنة رفيعة، والذي يؤكد هذه الرفعة هي الوسيلة، كما قال الإمام البنا "الغاية أصل والأعمال فروعٌ لها"، وهناك قول مؤثر "اذكر لي الوسيلة أعرف لك غايتك".

 

 

ولذلك أراد الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة أن يعالج الجانبين معًا (الغايات والوسائل)؛ ليزيح الغموض عن الجماعة، مما أشار به بقول "نحن قوم غامضون ولا يزال بعد مرور 19 عامًا بين النصح والدعوة والإرشاد لا يزال أناسٌ كثيرون لا يعرفون غاية الإخوان"؛ لذلك ظهرت جماعة شباب محمد التي كان كل احتجاجها على الدعوة أنها غامضة ولا تنادي إلى الهدى، ويجب استخدام القوة والتطرف وأن السنة النبوية سنة تطرف.. فجاء الإمام البنا في هذه الرسالة ليزيل الغموض عن الجميع.. وتكلَّم عن ما يميز الدعوات الصالحة التي هي غير سواها من دعوات السوء التي قال عنها "رائدة السوء عالية البوق".

 

 

وإنْ دلَّت هذه الرسالةُ على شيء فإنما تدل على وفرةٍ أخلاقية تحكم هذه الغاية؛ فقد تكلَّم عن التجرد والتضحية والإخلاص والجهاد والعمل والإخوة والثبات، والفهم على أساس كل دعوة صالحة؛ لأنه بغير الفهم ستضطرب صور السير، وهذه من الأمور الغامضة على كثيرٍ من الناس؛ لأن البعض أحيانًا يبرر بالإخلاص كل ما يقوم به من عمل، فالفهم قبل الإخلاص، والعمل ثمرة الفهم والإخلاص؛ ولذلك قدَّم الإمام البنا الفهم على الإخلاص والعمل.

 

البساطة والواقعية

وأراد الإمام البنا أن يُوصِّل الأمور بصيغةٍ بسيطةٍ واضحةٍ، كما يُقال البساطة في أي دعوة، وكان هذا أسلوب الإمام كما يقال "تستطيع أن توصل أي شيء بالبساطة"، وإن دعوة الإخوان ارتطبت بالبساطة التي تمنحها المهابةَ، وقد لخَّص الإمام الدعوة في خمس كلمات "البساطة، التلاوة، الصلاة، الجندية، الخلق".

 

 

فأي دعوة تريد النجاح يجب أن تتسم بأمرين (البساطة والواقعية)، وهذه طبيعة الإسلام، والبساطة مرتبطة بحقائق الحياة التي لا يستطيع أحد أن يقاومها أو يجحدها، وإذا تكلمنا عن الإسلام، فالبساطة هي التي منحته المهابة وحقائقه الواقعية هي التي أعطته المهابة، كما جاء في القران ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾ (الغاشية)، وهذا ما يميز دعوة الإخوان، فلا يستطيع أحد أن يجحدها.

 

 

وارتبطت أيضًا بالواقعية التي منحتها التطور؛ لأنها كانت مرتبطةً باللحظة التاريخية الراهنة، والمثل الذي جاء على ذلك حادثة الرق فعندما جاء الإسلام ينهى عن الرق لم ينههِ بصورةٍ صارمةٍ؛ بل بالتدرج في ذلك معتمد التغيير، ومن أجل هذا المناخ مناخ الحرية لينهى عن الرق فقد اعتمد الإسلام التغيير، ولكن لم يتم فعلاً الانتهاء من قضية الرق إلا بعد 13 قرنًا من نزول القران الكريم ليخاطب الواقع الذي كان موجودًا ويُكرِّس معاني الرق فكرةً.. إنها عملية التغيير الهائل الاجتماعي الذي يحدث في العالم، والقرآن يضع الجذور الأولى للتحرير، ويأتي ذلك بعد قرونٍ، بعد الحروب التي تمَّت في أمريكا من أجل تحرير العبيد، وأُعلن الإعلانُ الأخيرُ في أوروبا بتحرير العبيد وحقوق الإنسان.

 

 

والواقعية تعني التطور؛ لأنك مرتبط باللحظة التاريخية، ولأمرٍ ما قدَّم أيضًا الإمام رسالةً سنة 40 بعد عام من رسالة المؤتمر السادس مباشرةً بعنوان: (دعوتنا في طورٍ جديد)؛ لأن ارتباطه باللحظات الراهنة دخلت الدعوة في طورٍ جديد جعلت الناس تسأل عن الوسائل التي تتحقق بها الغايات والتطبيق لهذه الغايات فكانت هذه هي المحور الأساسي التي قدمت إليه الرسالة سنه40.

 

 

فكل دعوه ناجحة تتسم بالبساطة التي تمنحها المهابة، والواقعية التي تمنحها التطور، والموافقة على التغيير؛ أي اعتماد التغيير ثم الموافقة ضمنيًّا بعد ذلك عليه.

 

 

ويُوضِّح الإمام البنا- رحمه الله- الغاية التي نريدها في هذه الرسالة حتى يكون الأمر واضحًا؛ لأن وضوح الغاية يؤدي إلى قابلية الاستمرار؛ حيث إن غموض الغاية يؤدي إلى تبعثر الجهود وتوزع القوى والتصدي إلى تزعزع القيم إذًا تسقط الدعوة، وإنه إذا غمضت الغاية لا تُعرف الوسائل، فقابلية الاستمرار في الدعوات المجاهدة المستبسلة كدعوتنا التي تكون في تلك الظروف العصيبة تكون الغاية منها إحداث التغيير الشامل، فإنه ليس أمرًا محدودًا بل غاية بعيدة كما ذكر الإمام البنا- رحمه الله- أنها تنظيف رواسب قرون عدة سار فيها الفساد في مجموع المسلمين.

 

 

فعندما تتضح الغاية يسهل السير وتكون فيها قابلية للاستمرار؛ فلذلك حرص الإمام البنا على وضوح الغاية من دعوتنا وتقرير العلم لعمل الهداية، فقدْر فهمه للضلالة يكون فهمه لعمل الهداية المعروف بالمشروع الإسلامي لمعالجةِ التحلل والإباحية والتحرر، ومن ناحيةٍ أخرى وقف نهب الثروات من الأجانب.

 

 

فذكر الإمام رحمه الله الغاية: "نحن نريد حكومةً مسلمةً تؤيدها أمةٌ مسلمةٌ، وتنظم حياتها شريعةٌ مسلمةٌ"؛ أي نظام مسلم، ثم ذكر في حديثٍ آخر نتائج النظام الذي كان موجودًا، وهو انتشار الجهل الذي كان متفشيًا في ذلك الوقت حتى القلائل المتعلمين لم تستكمل المؤهلات الناجحة في حياتها، فالجهل يؤدي إلى تقدم الظلم، بالإضافةِ إلى أن الأمة الجاهلة هي التي قادت الاستعمار إلى هنا، فجهلها يجعلها تتنازل عن حقها في تقريرِ مصيرها بفساد الحاكم.. فكان نظر الإمام بعيدًا، فكما ذكر ابن خلدون في مقدمة معاني الظلم "أن الحاكم إذا كان قاهرًا لشعبه باطشًا بالعقوباتِ شغله الظلم والخوف وراوغ من حوله بالمكر والخديعة والكذب؛ ففسدت البصائر والأخلاق، وخذلته في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النياتِ فتفسد الدولة"؛ مما أشار إليه من القهر من الخارج في صورةِ الاستعمار أو من الداخل من الحاكم الظالم.

 

 

وهذا ما جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول عندما جاء رجل يسأله وهو يضع رجليه في الغرس يا رسول الله: "أي الجهاد أفضل" قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كلمة حق عند سلطان جائر".

 

 

وهذا ما نراه من انعكاس الظلم على الشعوب والجماعات حيث يؤدي إلى فساد البصائر والأخلاق.

 

 

كما يقول أيضًا الإمام البنا: كيف يشعر بمعنى العزة والكرامة من عرَّى جسده وجاع بطنه، إنما يشعر بالعاطفة القومية من شبع بطنه واستغنى بدينه، ليشعر الإنسان بعزته وكرامته وانتمائه، فمَن لا يجد القوت في بلده لا يشعر بانتمائه.

 

 

علل سقوط الأمم

وتكلَّم الإمام البنا في علل سقوط الأمم كيف أنها تتداعى أمام عدوها، وهو الأجنبي الغاصب وتتنازل عن حقها في تقرير مصيرها.. فذكر الداء والدواء، كما دلل عليه في المؤتمر الخامس والذي تمَّ في المؤتمر السادس، وقال: "إن داء الأمة ضعف الأخلاق وفقدان المثل العليا وإيثار المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة والجبن عند مواجهة الحقائق والهروب من التبعات والعلاج ثم الفرقة- قاتلها الله- التي هي أصل الداء".

 

 

فشخَّص العلل التي أدَّت إلى تداعي الأمم، فالأمم تدخل التاريخ إذا كانت كريمةَ الأخلاق وإن كانت ندرة في الأشياء، وعندما تنزل من التاريخ تكون وفرة في الأشياء وندرة في الأخلاق؛ ويتضح ذلك من حديث أم عطية ومذكورٌ في السنن أنها عندما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النساء أن يخرجن لصلاةِ العيد فقالت أم عطية إن إحدانا لا تجد لها جلبابًا- أي ندرة في الأشياء- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "فلتقرضها أختها جلبابًا"- أي وفرة في الأخلاق-، وهذا ما جعل أمة الإسلام تدخل التاريخ، وهذا توضيح الإمام البنا في أصل الداء فعندما تضيع الأخلاق تضيع الأمة، والرجوع إلى المثل العليا وغلبة المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة وعدم الهروب من تبعات العلاج وعدم الجبن من مواجهة الحقائق أي عكس الفساد تزكية النفوس والأخلاق، كما فعل من قبل آخرون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل وعبد العزيز الجاويش عندما صاروا بالأمة إلى التعليم وتهذيب النفوس، فلو صارت مصر في طريقهم لأصبحت في التاريخ ووصلت إلى ذروتها، فمن أعمالهم إنشاء وزارة المعارف والذي أنشأها مصطفى كامل، وإنشاء المدارس الليلية للتهذيب؛ حيث أنشأها عبد العزيز جاويش، وعبد الرحمن الرافعي عندما تحدَّث عن حقوق الأمة، فكان الإمام يعلم جيدًا أن الخروج من هذا السقوط هو التهذيب الأخلاقي.

 

 

 

وفي وصفِ الجائر لم يتكلم فقط عن الحاكم كما يفعل آخرون، ولكن قال الإمام- رحمه الله- في وصف المعتدي الغاصب هو حاكم عني بنفسه أكثر من عنايته بقومه ووطنه، ومحكوم رضي بالذل وغفل عن الواجب وخُدع بالباطل وفقد الإيمان وفقد الجماعة، غير ذلك من التشرذم والتفرق والفرقة والظلم.

 

 

وذلك الشعور بروحِ التجمع والجماعة، قال: إن من طبيعة دعوتنا هي رُوح التجمع والشعور بالآخرين؛ أي أن تشعر بمسئولتك تجاه قومك ومجتمعك؛ أي معرفة مسئوليته الفردية، فقد أشار القرآن إلى أنَّ الفرد المخطئ تجاه نفسه ومذنب يعاقب في النهاية، أما المخطئ تجاه الآخرين يكون عقابه عاجلاً في الدنيا، فهذا حكم الله فينا، وعندما سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أنهلك وفينا الصالحون" فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"نعم، إذا كثُر الخبث": ، فيسرع المنقذون بالأعمال فليصعد المسيء في المجتمع الصالح.

 

 

فإذا أردنا أن ندخل البداية الحقيقية للنهوض فلا بد من وفرةِ الأخلاق وإن صاحبها ندرة الأشياء، وبذلك أوضح الإمام البنا الغموض عن الغاية حتى تتضح للجميع، وكل ما يريده من الحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة تنظم حياتها شريعة مسلمة، وبذلك عندما اتضحت الغاية نستطيع أن نتقبل النتائج بارتياحٍ وجلدٍ.

 

 

صلاح العالم

وأذكر قصة حدثت معي في السجن الحربي؛ حيث كان معي أخ لبَّان اسمه إسماعيل عبد العال فقير غلبان، من قرية بسيطة في دمياط تعلمتُ منه أشياء كثيرة مع أنني كنتُ أرى في نفسي أني على قدرٍ كبيرٍ فكنت تعلمت الكثير وقرأت 40 كتابًا كلها من كتب الإمام ورسائله وكُتب الأستاذ محمد قطب منها "نحن مسلمون"، و"شبهات حول الرسول".. ومع ذلك تعلمتُ من هذا الأخ ما يجعلني أحمل التبعات.. فسألت الأخ إسماعيل: "تفتكر هل الأحكام ستكون قاسية؟"- قلت له ذلك لأطمئن على نفسي- فردَّ عليَّ الأخ وقال: "اللي دفع قرش زي اللي ضرب قنبلة"، فكان هذا تقييمه وإحساسه بما قام به، وكان الأخ إسماعيل في ذلك الوقت نقيب أسرة في الفلاحين، ولكن كان هذا إحساسه بنظرةِ الخصوم إليه فلا تُهوِّن على نفسك فقد قال: "القضية التي دخلت فيها عملت أو لم أعمل فهي طريقي فإنهم إذا حكموا علي بسنة أو اثنتين لا أستطيع إن أُري الناس وجهي.. فهل نحن سرقنا "معزة"، إنما نُريد صلاح العالم".. هذا هو مثقف الفكر.

 

 

الرجل صدق الله فصدقه وحُكم عليه بـ25 سنةً مع أنه لم يفعل شيئًا فإنه نقيب أسرة فلاحة صغيرة زملاء في الطريق، ولكن كان موقفه في المحكمة وإحساسه بالمسئولية ومكانته حول رسالته والدور المهيئ نفسه عليه، هذه هي القمة.. هذا ما جعل خصومه يحكمون عليه.
فعندما تتداعى أمة تتداعى عن الحقائقِ الواقعية فتفقد حقَّها في تغيير مصيرها، وتعجب بالخصم جدًّا لدرجة أنها تُؤيده وتُقلده في كل شيء صدر عنه خطأً كان أو صوابًا، فتوجد قله قليلة تُمثِّل المثل العليا لتنهض بالأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء وتدعو للعدل والإحسان وصوت ضميرها يُعلن أنه (لا أفعل الشر)، مثل لذلك الصحابي بلال في رسالته لقريش "أحد أحد" أي مهما أكرهتموني لن أشرك عن عبادة ربي أبدًا، فعندما تُدرك الدور الذي ينتظرها لتقوم به والمكانة التي رُشحت لها صوت ضميرها ينادي أن لن أجعلك تفعل الشر أبدًا ما حييت، فهي تنشد صلاح العالم.

 

 

فالخصم يحاول تغييبك بقدر ما يستطيع عن المكانة والعمل الذي تريد أن تقوم به والدور الذي ينتظرك والفاعلية التي رُشحت لها فقد هيئوك لأمر لو عملت له تنجو بنفسك وأعمالك، فالبساطة والواقعية تعطي الأمة المهابة والتكيف في الأزمات التي تواجهها.

 

 

هذه المعاني التي أراد الإمام البنا أن يزيح الغموض عن غايته.. "نحن نريد أن نستبدل بذلك النظام الاجتماعي الفاسد بنظامٍ خيرًا منه تحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وشعبها، يؤيدها شعب متحد الكلمة قوي الإيمان متوقد العزيمة".

 

 

وهكذا ببساطة يشرح الإمام الغاية التي يسعى إليها، وكما قال إن قوة التنفيذ جزءٌ من تعاليم الإسلام التي عبَّر عنها في رسالة (بين الأمس واليوم): "وإذا قيل لكم إلامَ تدعون..؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه".

 

 

ووضح صورة الواقع الأليم فقال إنه "بقي النظام وزال الإمام- لأن النظام يحتاج إلى إمام يحميه-، واستمرَّ الدين وضاعت الدولة وازدهر التشريع وذوي التنفيذ.. أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان؟!".

 

 

وأشار الإمام البنا إلى أن قوة الأمة في مواجهة الظلم يجب أن تستبدل نظامًا بنظام وحكومةً بحكومة، فالحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة وحكومة مسلمة حازمة تهب نفسها لوطنها وقومها يؤيدها شعبٌ متوقدُ العزيمة قوي الإيمان متحد الكلمة.

 

 

وذلك لإزالة الغموض عن الغاية لكل مَن يعمل في حقل العمل الإسلامي، فالغاية حسنة رفيعة لكن الوسائل هي التي تؤكد ذلك فأراد أن يزيح الغموض عن الغاية حتى تتحقق قضية الاستمرار وتحمل التبعات وعذابات الطريق ونتائجه.

 

 

وعندما تحدَّث الإمام البنا عن باقي الجماعات الموجودة التي تعمل في الساحة قال ليس بيننا وبينهم أي اختلاف أو لا يُفرِّق بيننا وبينهم أي اختلاف فقهي أو خلاف مذهبي، فكلنا يدعو إلى الإصلاح وعدم التشرذم والتفرق، ثم بدأ يتكلم بعد ذلك عن وسيلة تحقيق هذه الغاية، وكما ذكرنا أنه قال: "ويوجد بعض الوسائل لا نفصح عنها الآن ولكن في وقتها"، فالواقعية والارتباط باللحظة التاريخية الراهنة تعطي كل وسيلة حقَّها في التطور، فكان الإمام البنا حريصًا أن لا يحدث خطأ ما ندفع له الثمن باهظًا؛ لأن الحقائق المتفق عليها أن الإسلام له ثقله التاريخي والاجتماعي في منطقتنا هذه، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك، والكل يحتمي فيه سواء الدعاة أو الخصوم أو الرجل العادي وهو رجل الشعب؛ وبالتالي أي منا وكل مَن يريد أن يعمل للإسلام لا يستطيع أن ينسلخ من ذلك التاريخ، وتصبح التجربة محسوبة عليه، وخاصةً ليس هناك أحد يبدأ من الصفر.

 

 

وكما قال الإمام إنه استفاد من تجارب كلِّ مَن سبقه بالعمل للإصلاح من السنوسية بالمغرب، والوهابية في جزيرة العرب، والدهلوية في الهند، والمهدية في السودان.. إلخ.

 

 

وحركات الإصلاح التي سبقت الجماعة في عالمنا الإسلامي من حركات التجديد محسوبة عليك، فأي تجربة سابقة أنت محاسب عليها وتكرار الخطأ يعني مقتلاً سريعًا، فلا تستطيع أن تنسلخ منها، والتعصب الكبير الذي يواجهه العمل الإسلامي المعاصر الآن وعدم القدرة على تحقيق النتائج وابتعاده، وبينه وبين العواقب والنتائج بون شاسع؛ وذلك كله يرجع إلى أن الجميع يعمل محتميًا بالإسلام، فبالنسبة للدعاة يعملون للإسلام وحقوقه، والخصوم يعملون للإسلام، فالخصوم من سلطاتٍ وأنظمة يعملون للإسلام ويحاربون كل مَن يخرج عنه- من وجهة نظرهم-؛ لذلك يصف الخصومُ العاملين للدعوةِ بالخوارج، وهذه الكلمة موجودة من أعوام، ففي الستينيات كان يسمون الإخوان الذين قُبض عليهم بالأزالقة الخارجين من وجهتهم هُم؛ لأنهم خارجون عن غايتهم ووسائلهم في العمل للإسلام.

-----------------

* مشرف قسم الدعوة في (إخوان أون لاين)