لقد جاء الإمام البنا إلى الدنيا على قدرٍ مقدور؛ فإن العصر الذي ولد فيه كان عصرًا مليئًا بالتيارات الهدَّامة والإلحاد، والتحديات المعادية، وكان العالم الإسلامي يتعرَّض لأبشع أنواع المخطَّطات الاستعمارية؛ نتيجةً لسيطرة الاستعمار الغربي الصليبي، وغارته الفكرية والحضارية على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، وظهر جليًّا الضياع في العالم الإسلامي بعد أن كان المسلمون يقودون العالم فكريًّا وحضاريًّا لعدة قرون.

 

وما يحدث اليوم من تخريب وعدوان هو نفسه ما كان في الماضي، ولعل أبشع وأشنع ما نزل بالمسلمين في تلك الفترة إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924م على يد عصابات اليهود، وتحوَّلت دار الخلافة من رمزٍ لاتحاد المسلمين وقوتهم إلى دولةٍ علمانيةٍ ألغيت فيها الشريعة الإسلامية لتحلَّ مكانها القوانين الوضعية، ووصل وضع المسلمين في العالم إلى الصفر؛ لأن هذه الغارة الشاملة أثَّرت في كل ميادين الحياة الفردية والاجتماعية، وانقلبت جميع الموازين.

 

ويصوِّر الإمام البنا مدى التأثير الذي وقع على المسلمين بقوله: نجح هذا الغزو الاجتماعي المنظَّم العنيف أعظم النجاح؛ فهو غزو محبَّب إلى النفوس، لاصق بالقلوب، طويل العمر، قوي الأثر؛ ولذلك فهو أخطر من الغزو السياسي العسكري بأضعاف الأضعاف (رسالة بين الأمس واليوم).

 

لقد كان المسلمون كالشاة في الليلة المطيرة؛ قُلبت المفاهيم، واستشرى الانحلال، وفشا الإلحاد، وأمجاد الإسلام العظيم شُوِّهت، وعُزلت الشريعة عن حياة المجتمع، ولم يبقَ لهذه الأمة ملجأٌ ولا نصيرٌ وإلا رحمة الله تعالى، ثم نجدة العقيدة، وقوة الإيمان.

 

وجاء دور القائد الذي رفع الراية من جديد، وكان الإمام البنا- رحمه الله- الذي تحرَّك بالإسلام العظيم زادًا للقلوب، وعملاً صالحًا في الواقع، وحركةً رشيدةً في مواجهة الطوفان المندفع، وكانت جماعة الإخوان المسلمين كضرورة بعث وإحياء وإنقاذ، وكان قيامها رحمةً من الله عز وجل، ومن تمام فضله عليها وعلى هذه الأمة، بل على العالم كله، قيام جماعة عالمية كالإخوان؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتربِّي شباب الأمة على الإسلام وتجمع المسلمين حول رايته، وتردُّ كيد الأعداء فريضةً دينيةً، وحتميةً تاريخيةً، وحاجةً بشريةً لصيانة الأمة وإعدادها للجهاد في سبيل الله؛ جماعة الإخوان التي تؤمن بوسطية الإسلام والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

المشروع الحضاري

إن المشروع الحضاري الإسلامي الشامل الذي وضعه الإمام البنا هو الطريق الوحيد لإنقاذ الأمة اليوم مما نزل بها؛ فالإسلام وحده هو الذي يصون هويتها، ويحفظ شخصيتها، ويعمل على استقلالها السياسي والاقتصادي.

 

وهو المشروع الإسلامي المعتدل الذي يقوم على التوازن بين المادة الروح، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77)، كما يوازن بين حيازة أسباب السيادة في الدنيا والعمل بأوامر الدين.

 

إن نظرات الإمام الشهيد يتضح عمقُها وأصالتها في أنه عمل طوال عمره على قيام وبناء هذا المشروع؛ باعتباره سبيلاً لا بديل عنه لنهضة الأمة وإنقاذها، فقد اتجه إلى بناء الأمة بناءً حقيقيًّا كما شيَّدها وأقامها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لقد أعاد الفقه السياسي الإسلامي بعد أن وُضع تحت التراب، وقالوا: "لا سياسةَ في الدين"، وأعاد الاقتصاد الإسلامي البعيد عن لوثة الربا، فأنشأ الشركات والمؤسسات الإسلامية التي نجحت أيَّما نجاح، وكان تلاميذ الاستعمار وضحايا الغزو الفكري- وما زالوا- يقولون: ما للدين والسياسة؟! ما للدين والاقتصاد؟! ما للدين والحياة؟! فردَّ عليهم عمليًّا، وفنَّد أقوالهم، وكشف عن جهلهم.

 

إن المشروع الإسلامي في منهج الإمام مشروع شامل كامل، وهو الوحيد الذي ينقذ الأمة من القعود والجمود والتقليد والتخلف.

 

لقد كان- رحمه الله- يثق في أن نفسه تحمل أطهر دعوة عن حبٍّ وطواعيةٍ واقتناعٍ، فما تردَّد لحظةً فيما أعدَّ نفسَه له، كانت ثقته في نفسه تجعله يقوم على الدور الخطير الذي يهرب منه الكثيرون، وكان يرى أن التربية العملية يجب أن تكون ملازمةً للدروس النظرية، وتطبيقًا لها في برامج التعليم، وأن التربية السلمية الصحيحة الواعية هي التي تجْلِي روعةَ هذا الدين في واقع الحياة.

 

لقد تعلَّمت منه الأجيال استحالةَ الفصل بين العقيدة الراسخة في قلب المؤمن، العقيدة التي تعبَّدَنا اللهُ بها، والشريعة التي تحكم حياتنا، وتنظِّم تصرفاتها في الحياة، كما تعلَّمت منه الأجيال أنه كان يضع عقيدته دائمًا أمامه؛ يستلهمها وينزل على حكمها، وبعد ذلك يأخذ في التفكير وإعمال عقله، مع الطاعة الكاملة لشرع الله، والالتزام بأوامره؛ عقيدته أولاً، ثم عقله ثانيًا، فالحَسَنُ عنده ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع.

 

شمولية الإسلام

وقد حرص أن تكون دروسه وتوجيهاته ومحاضراته مزيجًا دقيقًا متناسقًا بين العبادة والسياسة، والاقتصاد والتربية والجهاد، يقول عنه الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين- يرحمه الله-: "لقد اشتعل رأسي شيبًا، وتحت كل شعرة خبرة وتجارب سنين عديدة، ولكني حين التقيت حسن البنا علمت أنني انتهيت من حيث بدأ هو".

 

وما أحوجَ المسلمين اليوم وغدًا- وقد أحيط بهم- أن يراجعوا مواقفهم من الإسلام، وأن يقبلوا عليه كما عرضه الإمام البنا!!؛ لقد استطاع أن يكشف عن الداء الأصيل في الأمة، وهو قضية الفهم للإسلام بنظامه وشموله وضعف الإيمان والصلة بالله، فأنشأ محاضن التربية، واهتم بالناحية الإيمانية، وأعاد سيرة دار الأرقم من جديد، يقول- رحمه الله-: "هذه المحاضن التربوية تقوم على كتاب الله والمنهج النبوي في إعداد الأفراد.." فكانت اللبنة الأولى هي الأسرة، وحدَّد أركانها: التعارف، والتفاهم، والتكافل، يقول: "فإذا أدَّيتم هذه الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية، فإن أركان هذا النظام ستتحقق ولا شك"، ويقول رافعًا راية التربية ومقدِّمها على ما سواها: "سنربِّي أنفسنا ليكون منا الرجل المسلم، وسنربي بيوتنا ليكون منا البيت المسلم، وسنربي شعبنا ليكون منا الشعب المسلم"، أما العُدَّة في هذا الأمر "فقد أعددنا لذلك إيمانًا لا يتزعزع، وعملاً لا يتوقف، وأرواحًا خير أيامها يوم أن تلقى الله شهيدةً في سبيله".

 

الإمام البنا وقضية فلسطين

إنه شهيد هذه القضية، وقد كانت عنده- وما زالت عند جميع الإخوان في العالم- قضيةَ الإسلام الكبرى، وهي كما قال: "قلب أوطاننا، وفلذة كبد أرضنا، وخلاصة رأسمالنا، وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقَّف عز الإسلام أو خذلانه" بهذا الفهم العميق، كأنه يخاطبنا اليوم، ويعيش معنا رحمه الله؛ فالعصابات الصهيونية- ومن ورائها أمريكا- حوَّلت قضية فلسطين مع عصابات يهود إلى معركةٍ كبرى، وقد تجسَّد الصراع بين قوى الشر والظلم من ناحية، وأهل فلسطين العزَّل من جانب أخرى.

 

ولم يكن الإمام غافلاً عن حجم المتاعب التي ستأتي من التصدي لهذه القضية، وكان يقول: "ريح الجنة تهب من فلسطين" ويقول: "إن الإخوان المسلمين ليعلمون أن دعوتهم عدوة للاستعمار؛ فهو لها بالمرصاد، وعدوة للحكومات الجائرة الظالمة؛ فهي لن تسكت على القائمين بها، وعدوة للمستهزئين والمترفين والأدعياء من كل قبيل؛ فهم سيناهضونها".

 

ولقد اهتم الإمام وإخوانه بقضية فلسطين، فدفعوا بشبابهم لمواجهة الصهيونية، ونازلوهم في كل مكان، وقدَّموا الشهداء الأبرار، وهم دائمًا على استعداد- لو أتيح لهم- أن يواجهوا الصهاينة في فلسطين، ما تخلَّفوا عن هذا الواجب وتلك الفريضة.

 

من أهداف الإخوان

يقول الإمام البنا: اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:

الأول: أن يتحرَّر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

 

الثاني: أن يقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة؛ تعمل بأحكام الإسلام، وتطبِّق نظامها الاجتماعي، وتبلِّغ دعوته للناس.

 

ومن وسائلهم أيضًا التي حدَّدها الإمام: البذل، وتقديم الخدمات، والعطاء من غير حدود، يقول- رحمه الله-: "أيها الإخوان، قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجِّه إليكم هذا السؤال: هل أنتم على استعداد- بحق- لتجاهدوا ليستريح الناس؟ وتزرعوا ليحصد الناس؟ وأخيرًا لتموتوا وتحيا أمتكم؟ وهل أعددتم أنفسكم- بحق- لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟" (رسالة تحت راية القرآن).

 

وقد تحدَّث الإمام البنا عن الاقتصاد ونهضة الأمة فقال: "والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شئونها الاقتصادية، وهي أهم الشئون في هذه العصور، ولم يغفل الإسلام هذه الناحية، بل وضع كلياتها، ولم يقف أمام استكمال أمرها". إن الفقه الإسلامي مملوء بأحكام المعاملات المالية، وقد فصَّلها تفصيلاً دقيقًا.

 

ولقد حدَّد الإمام الغايةَ والهدفَ والوسيلة، والغاية دائمًا هي الأصل: "الله غايتنا"؛ فهذا أصل الأعمال، وهي القوة التي تدفع إلى الطريق، يقول الإمام: "مصدر تحديد هذه الغاية هو الإسلام؛ فهي تتجلَّى في كتاب الله وسنة رسوله، والتزامها بها هو انتسابٌ لأسمى مهمة؛ فهو- سبحانه- غايتنا الأصيلة، وأساس ومحو صلاتنا وأعمالنا، وهذا مصدر عزتنا وقوتنا، وليس بعد ذلك عزة ولا قوة" (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

 

وعن المهمة يقول: "أيها المسلمون.. عبادة ربكم، والجهاد في سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أديتموها حق الأداء فأنتم الفائزون"، ومن أوصاف أصحاب النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "رهبان بالليل فرسان بالنهار" (المرجع السابق).

 

إيقاظ الأمة

ثم يتحدَّث عن ضرورة إيقاظ الأمة من الغفلة التي سيطرت عليها، فيقول: "علينا أن نوقظ الأمة من غفلتها، وأن نقف أمام هذه الموجة المادية الطاغية، ونستعيد مجد الإسلام، ونغزو الدنيا في عقر دارها حتى يهتف العالم باسم النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وينتشر ظل الإسلام على الأرض" (رسالة تحت راية القرآن).

 

ومن هنا نفهم بعض أسرار المطاردة الوحشية والمستمرة للدعاة من المسلمين الذين حدَّدوا أهدافهم بدقة، والتزموا بالنهج الشامل للإسلام، من هنا يبرز السبب الذي يُبطل العجب حين نرى الإمام البنا يُقتل في أكبر شوارع القاهرة، وتتآمر الدولة كلها على ذلك، ونرى الإخوان يُحال بينهم وبين دورهم في إنقاذ الأمة اليوم التي وصلت أحوالها إلى مستوى لم يعد خافيًا على أحد، بينما يتاح السبيل لكل من هبَّ ودبَّ ممن لا غايةَ له ولا هدفَ.

 

إن استمرار هذا الموقف واليهود على الأبواب، وما أقاموا دولتهم الباغية وتجمَّعاتهم إلا على أساس التوراة والتلمود، وما استنفروا شراذم اليهود إلا بدوافع الإيمان.. لهو أمرٌ غريب.

 

إن استمرار هذا الموقف من الحركة الإسلامية ومطاردة رجالها، وأمريكا تعبث بكل شيء في ديار الإسلام؛ تقتل وتسجن وتهدم في العراق وأفغانستان، وتغيِّر وتبِّدل في المناهج، وتأمر وتنهى والجميع ساكت!!؛ كلها وغيرها أمور عجيبة وغريبة، وعليها علامات استفهام.
أفيقوا أيها الناس قبل أن تندموا ولا ينفع الندم.

 

علامات وملامح

لقد استشهد الإمام البنا والدنيا كلها- بمن عليها- أهون شيء عنده؛ إمامٌ قد أضنته العبادة الخاشعة وقيام الليل الطويل والأسفار المتلاحقة في سبيل الله، لقد عرفتْه المنابر في جميع مدن مصر وقراها وهو يسوق الأمة بصوته الرحيم إلى لله، ويجمعها في ساحة الإسلام، ويؤلِّف بين القلوب.

 

لقد واجه المادية والإلحاد والاستعمار بكل ألوانها، وحوله الأبناء من شباب الصحوة واليقظة الإسلامية الذين ملأ قلوبَهم حبُّ الإسلام والاستمساك به؛ ولذلك خرج من الدنيا تشيِّعه الملائكة، خرج محمولاً على أكتاف بناته؛ لم يستطع أحدٌ من شدة الإرهاب أن يبكيَ عليه، ولم يترك تراثًا ماديًّا وهو في الثانية والأربعين من عمره، رحمه الله وأرضاه.

 

وفي ذكرى موكب البطولات والشهداء والرجولة الفذة، نقول: يخطئ من يظن أن وسائل القمع والتضييق وإحصاء الأنفاس تفلح في إبعاد التيار الإسلامي عن الحياة؛ فهذا فهم خاطئ لا ينطبق على هذه الدعوة؛ فهي كلمة الله، والمؤمنون لا خيارَ لهم ولا عذرَ لهم في تركها والتخلي عنها.

 

إن هذه الدعوة لا بد أن تنطلق من حيث لا يحتسب الذين يضيقون عليها، وتمضي إلى غايتها بإذن الله.

 

إن دعوة الإسلام في القرن العشرين رفع لواءها حسن البنا المدرس الفقير تحت قيادة الرسول الكريم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "الرسول زعيمنا"، وأقام جماعة الإخوان المسلمين التي استطاعت أن تقاوم العواصف، وأن يثبِّت الله أقدام رجالها رغم المحن والابتلاءات.

 

يرحم الله الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس هذه الجماعة، وواضع نظريات العمل الإسلامي رحمةً واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، وتقبَّله في الصالحين هناك في ظل العرش، في مقعد صدق عن مليك مقتدر.