كان الأستاذ عمر التلمساني منذ نشأته صاحب خلق ودين ومنذ أن التحق بجماعة الإخوان المسلمين برزت فيه هذه الصفات مما كانت سببًا لحب الناس له والاجتماع عليه؛ حتى إن جنازته اجتمعت فيها كل طوائف الشعب من وزراء ومفكرين وعلماء وأقباط وطلاب وعمال، بل شاركت وفود كثيرة من الخارج مما دلَّ على تمكن حبِّ الرجل في قلوب كل الناس؛ وذلك بسبب اهتمامه بقضايا الناس ومشاكلهم ومعاناتهم، وسياسته المعتدلة في التعامل مع الآخرين والتسامح الذي تحل به.

 

وقد برزت هذه الصفات في مواقفه العملية على مدار حياته، وهذا ما سقنا بعضه في مقالات مواقف تربوية، كما أن هذه الصفات برزت في كتاباته والتي أصبحت نبراسًا وعلمًا للرجل، كما أصبحت نبراسًا لمَن جاء بعده من الإخوان للسير على سياسته المستقيمة.

 

1- التلمساني والقضايا السياسية:

لقد آثر عمر التلمساني المحاماة على النيابة والقضاء لأنه وجد فيها وسيلةً للدفاع عن المظلومين، غير أنه لم يدافع عن المظلومين فحسب بل دافع أيضًا عن قضايا المجتمع، واقتحم معترك السياسة ليثبت أن الدين الذي يعيش به يعصم السياسة من الزلل ويحميها من الخطأ ويصونها من الانحراف، وأن السياسة إذ لم يوجهها الدين فإنها تميل مع الهوى وتنحرف مع الغرض، كما أنه نظر إلى أن الزعيم الذي لا يرعَى حقوق الله كيف يرعَى حقوق الشعب.

 

ومن ثم كان انطلاقه في عالم السياسة من هذا المعترك، فيقول التلمساني: "التشريعات الوضعية يراعى فيها على الأعم الأغلب، مصلحة واضعيها، فإن كانوا من أثرياء القوم، دعموا عن طريق التشريع أوضاعهم، وإن كانوا من العامة، حرصوا كل الحرص، على تقليم أظافر غيرهم، وحرموهم من كل ميزة، لينفردوا وحدهم بالسلطان الذي حرموا منه السنين الطوال ذوات العدد، إذا كان الحكم فرديًّا، وضع الفرد الحاكم من القوانين، ما يكفل له بقاء حكمه، وعدم المنازعة فيه، والنيل منه، والتطاول إليه وعليه، كل هدفه من القوانين التي يشرعها إلزام الأمة بالنزول عند رأيه راضيةً أو راغمةً، والالتزام بنوع الحكم الذي يقوم هو على رأسه، سواء أعاد هذا الحكم على الأمة بالحرية أو العبودية، نفعتها أساليبه أو طحنتها وسائله، أما التشريع السماوي، في عمومياته وخصوصياته واسع شامل محيط، تستقي كل حاجات الإنسان، دون تزيد ولا انتقاص، فيه مصلحة الناس جميعًا، حكامًا ومحكومين، يسير فيه ضبط الحكم واستقراره مع مصلحة الفرد والمجتمع".

 

2- التلمساني وحب الوطن:

لقد عمل الأستاذ التلمساني على غرس معاني حب الوطن الولاء له في قلوب إخوانه ومريديه بل والشعب كله، وكان ذلك من منطلق أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- علمنا كيف نحب أوطاننا التي نولد فيها فقال عند الهجرة وهو ينظر إلى مكة "إنك لأحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، فيقول الأستاذ عمر: "وليس معنى حب الوطن التنكر للمسلمين في العالم كله، أو أننا لسنا أمة واحدة، لا، فإن المسلمين على اختلاف أفكارهم أمة واحدة كما يقول القرآن الكريم (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)) (الأنبياء)، إننا يجب أن نحب وطننا وليس معنى هذا الحب أن نتعصب للوطنية، أبدًا، يجب أن نعلم تمامًا أن المسلمين جميعًا أمة واحدة، فعاطفتي مع المسلم الباكستاني والمسلم الإندونيسي مثل عاطفتي مع المسلم المصري، أحس إحساسه، أتألم لألمه، أفرح لفرحه.

 

إن الكلام عن الوحدة الوطنية، أمر ليس له معنى، ودردشة غير ذات موضوع، ذلك لأن المقيمين على أرض وطن واحد مفروض فيهم أنهم جميعًا يحافظون على كرامة هذا الوطن، الوحدة الوطنية التي يحرص عليها كل مواطن مخلص، تجد لها في ظل الشريعة الإسلامية دعائم راسخة وضمانات واسعة، توقف كل مسلم عند حده إذا ما اعتدى على غير المسلم أو انتقصه حقه أو كلفه ما لا يطيق أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس.

 

وحب الوطن ليس معناه أن أعين قومي على الظلم ولكن أبصرهم بعاقبة الظالمين، إن الإسلام يفضل نجاة الأرواح على الأسلاب والغنائم وللحرب في الإسلام شرف ونبل وأمان، فقد رسم رسول الله لأسامة بن زيد الأسلوب الذي يأخذ به في معركته التي قادها فقال له: "أسرع السير، وتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فلا تحلل اللبس فيهم وخذ معك الإدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك".

 

إن الفرد ليس عضوًا سلبيًّا في المجتمع ولكنه عامل فعال يؤدي ضريبة الإنسانية التي تجعله شيئًا له كيانه وفائدته الأمر الذي يدفع المجتمع كله ليهتم بالفرد ويوليه عنايته ورعايته في كل ما يرفع من شأنه في الحياة".

 

3- التلمساني وقضايا الشباب:

لم يقبل الشباب على داعية من الدعاة مثلما أقبل على عمر التلمساني في هذه الآونة من الزمان، فلقد أعطى الأستاذ عمر الشباب اهتمامًا كبيرًا من حياته العملية والتربوية كما خصهم بالكتابات الكثيرة وفي ذلك يقول: "أيها الشباب احذروا من يريد أن يباعد بينكم وبين تعاليم الله في معاملة المحكوم للحاكم والحاكم للمحكوم وفي معاملة الناس بعضهم البعض وإذا غم عليكم فهم أو أشكل عليكم أمر فارجعوا إلى من تثقون بدينه وعلمه وتقواه فهل فهمتم أن هدفكم الوحيد هو أن يسود شرع الله في هذه البلاد، إن أهون ما في رسالتكم أن يظل الإسلام منتشرًا يعرفه المسلمون ولا تطغى عليه تعاليم الغرب والشرق ولن تذوي أغصانه بين أيديكم وسيتمسك به عن طريقكم من بعدكم من أجيال وأنتم بهذه المثالة حفظه دين وحراس رسالة لمن بعدكم وإلا فلو تركنا الأمور دون أن تعملوا من أجل نشر دعوتكم فإن يأتي الجيل الثالث أو الرابع بعدكم إلا وقد طمست معالم هذا الدين تحت نظر الكثير من المسلمين فلا تستهينوا بما تعملون فمهمتكم غاية في الضخامة ومسئوليتكم غاية في الثقل يوم الحساب إن لكم هدفًا وإن لكم طريقًا واضحًا للعمل وكلاهما مبين في كتاب الله وسنة رسوله.

 

أيها الشباب، إننا ندعوكم لتكونوا معنا على خير حال، بفضل الكبير المتعال، إننا ندعوكم إلى ما فيه عزكم ومجدكم وأمنكم وحياتكم، ندعوكم إلى الطهر والفضيلة ومكارم الأخلاق وكمال العقيدة، لا نطالبكم بأجر، فأجرنا هدايتكم، ولا نمنيكم بالأحلام والأضاليل، فما عند الله خير وأبقى، فهيا ضعوا أيديكم في أيدينا، وشبابكم في شيخوختنا، وحماسكم في خبرتنا، عيشوا لها، وورثوها من بعدكم، فلله عاقبة الأمور (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)) (التوبة).

 

دينكم، دينكم يا شباب فاعتصموا بحبل الله وحببوا الناس فيكم ولا تنفروهم منكم ولم يكون ذلك إلا بأسلوب التعامل معهم في دعوتهم إلى الله وما دخل اللين في شيء إلا زانه وما دخل العنف في شيء إلا شانه، إن من أهم واجبات الشباب ألا يفكر اليوم في الحكم والحكومة لا لأنها ليست مطلوبةً منا كمسلمين، أبدًا، نحن مطالبون بألا يكون الحكم إلا لله وعلينا أن نضع ذلك في برنامجنا، ولكنه لن نصل إلى تحقيق ذلك في يسر وسهولة إلا إذا ربطنا الشعوب المسلمة بدينها.

 

أيها الشباب أنتم الأداة الفاعلة ذات الفاعلية الكبرى لإنقاذ هذا الوطن مما تردى فيه، إن الذين أحاطوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانوا من الشباب، فنصيحتي لكم أن تتمسكوا بهذه الدعوة لآخر قطرة من دمائكم إلى آخر نبضة من نبضات قلوبكم.

 

أنصح الطلبة منكم خاصةً أن يكونوا على مستوى رفيع من الأدب مع أساتذتهم في الكليات لا يتناولوا أستاذًا بسوء ولا يخرجوا عن حدود اللياقة حتى ولو خالفوهم في الرأي، فهذا شيء وهذا شيء. التطاول على الأساتذة، رمي مباني الجامعة بالحجارة، والتكسير والتخريب، فهذا ليس من خلق دعاة الإسلام، الدعاة إلى الله دعاة سلم وأمان".

 

4- التلمساني ومعاهدة السلام:

في نوفمبر عام 1977م أعلن الرئيس السادات مبادرته بزيارة القدس لإنهاء الحرب مع العدو الصهيوني الذي يحتل فلسطين والقدس وأعقب ذلك الاتفاق على توقيع معاهدة كامب ديفيد في 17/9/1978م ثم معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" يوم 26/3/1979م، فانتفض الأستاذ التلمساني بدافع من دينه وعقيدته بمعارضة اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام وأخذ يكتب دون خوف أو وجل غير أنه لله يفند هذه الاتفاقية فيقول: "ولقد تم بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة ما صرح به السيد رئيس جمهورية مصر العربية "إننا لم نصل إلى اتفاق سلام ولكننا اتفقنا على إطار للتفاوض" الأهرام 20-9-1978.

 

وبعيدًا عن التجريح والتأثيم والإحراج وفي ظل حرية الرأي لكل مواطن لا يريد إلا أن يقول ما يعتقد أنه الحق، وأملنا كبير ألا يضيق أحد بما نقول، فالله وحده يعلم أننا لا نهدف إلا إلى إرضاء الله تعالى والتمسك بشرع الإسلام الحنيف وهذا ولا شك ما يحقق صالح الوطن الإسلامي وأبنائه حكامًا ومحكومين.

 

وإذا كان الذي تم عليه الاتفاق ليس اتفاق سلام ولكنه إطار للتفاوض ففيم كانت هذه القيود وهذه الشروط؟ وإذا كانت هذه صورة إطار للتفاوض فكيف إذن ستكون صورة المعاهدة النهائية؟‍!!

 

إن رأينا الذي نقوله وسنقوله إيمانًا بحقنا، أنه مما لا يتفق وقواعد القوانين السماوية أن نعترف لغاصب بحقه في اغتصاب أرضنا، ولئن كان قرار 242 لمجلس الأمن يعتبر هضمًا كاملاً لحقوق المسلمين بمن فيهم الفلسطينيون، فإنه قرار صادر من هيئة دولية، وليس بصادر منا، رغم إقرارنا له نتيجة وطأة الظروف التي لابسته، إن إسرائيل ستنعم بالاعتراف الكامل وإقامة العلاقات الطبيعية التي تتسم بحسن الجوار والتمثيل الدبلوماسي وإنهاء المقاطعة الاقتصادية وكل ما كانت تطلبه، ونسأل: هل بقي شيء ليتم الاتفاق عليه في المعاهدة النهائية؟ لا.

 

إننا يجب ألا نخاف الحرب مهما كانت نتائجها حتى يظل عنصر الإكراه مبطلاً لكل تصرف من تصرفات اليهود وذلك خير من أن ينالوا كل هذا في مفاوضات بيننا وبينهم، اللهم إلا إذا كان اليهود يعتبرون تجنب الحرب عطاء منهم.

 

أما عن الوثيقة الثانية فهل لنا أن نتساءل: أين الانسحاب الكامل إذا كنا لا نتمتع بحرية إقامة المطارات المدنية والعسكرية في سيناء كلها؟ وكيف لا تستطيع قواتنا حرية التصرف إلا في حدود خمسين كيلو مترًا شرق القنال؟ وحتى هذا الشرط لم تترك لنا فيه حرية التنقل والتصرف، بل علينا ألا نشغل هذه المساحة إلا بفرقة واحدة؟ وأما باقي سيناء فقد ترك للقوات الدولية تجول فيه كيف تشاء، وكلنا يعرف صلات الدول كلها بإسرائيل تعاطفًا ومصالح مشتركةً وأهواء موحدة.

 

القدس..

وأهم ما يجعلنا نقف عند ما تم أن القدس قد أغفل شأنها، فلم يرد لها ولا لوضعها إشارة من قريب أو بعيد، مما يدعم قول بيجين بأنها عاصمة إسرائيل ما بقي اليهود.

 

ما الذي يمكن أن يفسر به الناس هذا الموقف من القدس؟ أول قبلة اتجه إليها المسلمون؟ القدس التي أسرى إليها برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وعرج منها إلى السماء وما فوق السماء، وصلى فيها إمامًا بالرسل والأنبياء، ما كنا نظن أن يكون هذا حظها في الاتفاق ونحسب أنه أمر لا يحوز رضا المسلمين، ونسأل الله مخلصين أن يكون في عزم المسئولين، أن ينقذوها مشكورين مأجورين.

 

لقد استقبل اليهود هذه الاتفاقية بكل استبشار وفرح وفي ذلك ما يدل على أنها حققت لهم كل ما كانوا يبغون.

 

وأقول: إذا سألت عن البديل، فإنني أضع نفسي، وأعتقد أن كل مسلم حر في مصر وغير مصر على استعداد أن يضع نفسه تحت أمر رئيس الدولة اليوم وغدًا إذا نادى بكتاب الله، وطالبنا بالتقشف الذي تستلزمه طبيعة الموقف وأعددنا عقيديًّا وخلقيًّا وعسكريًّا للموقف الفاصل لا نساوم ولا نطلب ثمنًا، لأننا نجند أنفسنا للجهاد في سبيل الله لأن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الوحيد لوضع كل معتد علينا في حجمه الطبيعي.

 

إن عزة الأمم وكرامتها غالية عزيزة تتطلب التضحيات والفداء والتحمل والصبر، وترك كل نعم الحياة في سبيل العيش الكريم والحياة النبيلة، ولن نجد قومًا يؤمنون بالله ورسوله، يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوتهم أو عشيرتهم لأنهم انحازوا إلى جنب الله، وأولئك هم حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون".

 

ولقد ذكر الأستاذ التلمساني الوسائل لإرجاع القدس فقال:

"1- مؤتمر إسلامي يضم كل حكام المسلمين في جميع بقاع الأرض يقتصر كل أعماله على بندين: قضية القدس والالتزام بقرارات المؤتمر ثم التنفيذ الفوري.

2- حملة إسلامية دعائية واسعة بشتى وسائل الإعلام مع إرسال مندوبين يوفدون إلى مشارق الأرض ومغاربها لتوضيح القضية وفضح أكاذيب اليهود ودعاواهم.

3- اتخاذ خطوات إيجابية فعالة تشعر المتآمرين على الإسلام أن أصحابه غير عابثين وأنهم جادون في الوصول إلى حقوقهم كائنة ما كانت التضحيات جسيمة أو خطيرة فسلعة الله الجنة غالية الثمن.

4- العزم الحاسم بالنية الخالصة وبالإرادة الصامدة في القضاء على كل عوامل الفساد والإفساد في بلادهم.

5- يتنادى حكام المسلمين فيما بينهم بالجهاد المقدس. وهذا أوانه، بعد أن أدركه إبانه، وعندهم كل مقومات الجهاد، العقيدة، القوة البشرية، المال، الرجولة الإسلامية التي تدفع للقتال والصبر، وغير هذا كثير، وميسور لو أرادوه، موفور لو استيقنوه".

 

5- التلمساني ودعوة الإخوان:

لقد كان الأستاذ عمر التلمساني مرشدًا للدعوة فلم يقبل في لحظة من حياته أن تهان دعوته أمامه، فقد كان عزيز النفس بها وفي ذلك يقول: "لقد مرت المحن بالإخوان كالحةً معربدةً فما زادتهم في دينهم إلا يقينًا، وما زادتهم بدعوتهم إلا تمسكًا واستبسالاً ولماذا تتوالى عليهم المحن؟؟ إنها سنة الدعوات الصادقة التي لا ترضى هنا ولا هناك، لماذا لا ينتصرون في كفاحهم؟ وهل بعد إقبال الشباب الطاهر على دعوة الإخوان المسلمين، هذا الإقبال المنقطع النظير، من نصر وانتصار؟ إننا لا ندعو الناس لكي نصل إلى الحكم على أكتافهم، ولا نبصرهم بدينهم لمغنم دنيوي هزيل عن طريقهم، إننا ندعوهم ليقيموا أمةً قويةً عزيزةً طاهرةً، وها هم اليوم يأخذون بأطراف الدعوة من كل حدب وصوب، فما بالنا لا نحمد الله أن نصر دعوته، ورأينا الناس يدخلون تحت لوائها أفواجًا؟ لماذا لا نحارب من حاربنا، ولا نقابل الشر بالشر، ونتحمل الضربات القاسية في صبر واحتساب؟ ذلك لأننا لو أردنا شرًّا لاستطعناه، فما أيسر تخريب جسر هنا أو قنطرة هناك!! وما أسهل النسف لمن أراد فسادًا، وما أقرب الاغتيال لمن أراد ضلالاً! إننا لا نلقَى الشر بالشر ولا نؤمن بقول المبطلين إذ يقولون إن تلقى الشر بالشر ينحسم، ولكننا نريد أن نقيم قاعدةً إسلاميةً راسخةً، ونريد أن نوجد رأيًّا إسلاميًّا عارمًا يقول فيستمع له، ويصمت فينتظر منه القول. نريد أن نوجد أمة قوية الشأن، عالية المقدار، عزيزة الجانب، موحدة الصف، ونريد أن نقيم ذلك كله على أساس من الحكمة المستبصرة، والموعظة المنتجة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا نريد أن نصل إلى تحقيق أهدافنا عن طريق القهر والغلبة، وانتصار فريق على فريق، فيوم أن جرى النيل روافد ونهيرات، لم يجر عن طريق التفجير النووي، ولا الإعداد الذري، ولكنها قطرات الماء الرقيقة المرهفة تتوالى طرقاتها على جبال القمر الأصم، ومن حوله من الرواسي الشمم، فتفتتها الهوينا، ذرةً بعد ذرةً، ثم تتدفق سيلاً يحمل الخصب والري والنماء، إلى كل أخدود يتقبله، وإلى كل سهل يتلقاه، ومن قال إن الإسلام قام على السيف والمدفع، فقد افترى على الله الكذب، ولكنه قام على الفهم، وانتشر عن طريق الإقناع والاقتناع، وتلقته الملايين من البشر في سهولة ويسر، لما وجدوه فيه من عدالة وأمن وسلام، وهذا ما نريد، وهذا ما بدأنا نلمس بوادره، وعما قريب نجني ثماره، إننا نتعثر، ولكننا لا نكيد، إننا نتئد الخطى ولكننا لا نتوقف إننا نحتمل ولكننا لا نضجر ولا نضيق، إننا نحتسب ولكننا لا نشهر آلة حرب في وجه مسلم، ليقل أعداء الدعوة عنها ما يقولون، فلن نلقي إليهم بالاً، ولن نصيخ السمع لالتقاط ما يقولون، ولا نلتفت لاتهاماتهم لأننا على الطريق سائرون، ولن تثبطنا معوقاتهم، لأننا لها متخطون ومجتازون، إننا كلمة الله على الأرض، وخلفاؤه فيها، فما أنزل آدم من الجنة مطرودًا، ولكنه نزل تحفه الكرامة تحقيقًا لصدق قول العلي الكبير (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: من الآية 30).

 

إننا لا ندل على أحد، فما التعالي من خلق الإخوان المسلمين، ولكنه التحدث بنعمة الله الكبرى علينا، إذ هدانا سواء السبيل وأمرنا أن نعلن للناس فضل الله علينا (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) (الضحى).

 

لا ندعي أستاذية:

وليس في ذلك من امتياز على أحد، وليس لنا فيه من جهد نادر، ولكن ذلك الفضل من الله إننا لا ندعي أستاذية لأحد، ولكننا نحمل المصباح كما تحمله المشكاة ينير للدارسين، ويهدي الحائرين، آخذًا بيد المكفوفين العاجزين، ليقبل الناس علينا أفواجًا، فما لذلك عندنا من اعتداد (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (الأعراف: من الآية 178)، أو ليغض الناس عنا انغضاضًا، فما لذلك عندنا من نكوص (قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (الأنعام: من الآية 91)، من أجل هذا اعتدى علينا طلاب الدنيا، ومن أجل هذا تآمر علينا أعداء الإسلام، ومن أجل هذا جنى علينا كل من ليس في قلبه ذرة من إيمان: ولو أن الله أراد بهؤلاء وأولئك خيرًا، لأرهفوا السمع، ولفتحوا العيون، واستمعوا إلى نداء الله الكريم (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)) (الأحقاف).

 

هذا غيض من فيض من بعض القضايا التي تكلم عنها الأستاذ التلمساني، ولو تتبعنا ما كتبه الرجل لوجدناه أفاض في السياسة وشئون المجتمع وتزكية النفس والتعامل مع الشباب، كما لم يهمل جانب الأمة الآخر وهم الأقباط فتحدث عن حسن معاملتهم والتعاون معهم لأنهم من نسيج المجتمع، كما لم يهم الأستاذ التلمساني جانب النصيحة للحاكم ولم يخش يومًا في الله لومة لائم، كما أعطى قضايا التطرف جانبًا كبيرًا وندد بها وشدد على الشباب في حسن تفهم الإسلام وأنه ليس دين يدعو إلى التطرف والمغالاة لكنه دين يدعو إلى التسامح وحسن التعامل مع مقتضيات الأمور، كما ركز الأستاذ التلمساني على تكوين الشخصية الإسلامية وكيف تكون.

 

لقد كانت حياة التلمساني مليئةً بالأحداث وقد رحل وما زالت بصماته واضحة في جوانب المجتمع.

--------

* للمزيد راجع:

1- عبد الرحيم بن محمد الجوهري: عمر التلمساني مجاهدًا، مفكرًا، كاتبًا، المؤسسة الإسلامية الدولية للطبع والنشر والتوزيع، 1406هـ- 1986م.

2- مصطفى العدوي: عمر التلمساني بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ، دار الأقصى للكتاب، 1407هـ- 1987م.

----------

** باحث تاريخي- [email protected]