هناك فرق كبير بين الخطيب والداعية.. فالخطيب يقول المحاضرة أو يُلقي الخطبة أو يعطي الدرس أو يؤلف الكتاب ثم في الغالب ينتهي عمله، وجهده يتوقف عند هذا الحد؛ أما الداعية فهو إنسانٌ مؤمنٌ يحمل فكرةً تعيش في دمه وأعصابه وعقله وفكره لا يتحدث إلا فيها ولا يسهر إلا من أجلها، يستريح الناس ويتعب هو، يسعد الناس ويشقى هو، وأخيرًا يموت ويستشهد لتحيا أمته.. هو إنسان ينطق لسانه دائمًا:

أبـي الإسـلام لا أب لي سـواه ..  إذا افتخــروا بقيـسٍ أو تميــم

 

وكما قال الصحابي الجليل خبيب بن عدي رضي الله عنه:

ولستُ أُبالـي حين أُقتـل مسلمًا..  على أي جنبٍ كان في الله مصرعـي

وذلك في ذاتِ الإله وإن يشــأ ..  يبـارك على أوصـال شـلوٍ ممـزعِ

 

هو قريب لكل إنسان يتعامل معه من زاوية الأخوة العامة أو الإيمانية، وقد سُمع صلى الله عليه وسلم وهو يقول في جوف الليل: "وأنا شهيدٌ أن العباد كلهم إخوة"، وكان يأتي بلال لإيقاظه صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر فيجده لم ينم بعد، فيقول: "يا بلال كيف أنام وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ثم لم يتدبرها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)ِ﴾ (آل عمران)".

 

الداعية الذي نطلبه ونريده لا فرق عنده بين العيش في القصور والحياة في الأكواخ، فهو ينشد ما هو أكبر من الدنيا، ينشد مرضاةَ الله، يظل طوال الليل يطرق بابه ودموعه تسيل على خديه، كان الإخوان وما زالوا في فلسطين والقناة وفي السجون والمعتقلات وفي حياتهم العامة والخاصة إذا أُتيحت لهم فرصة يتوضأون ويقفون بين يدي الله تسيل دموعهم؛ شوقًا إلى ربهم، وسعيًا لمرضاته، ورجاء أن يتقبلهم وأن يرفع في درجاتهم هناك في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، شوقهم إلى الله أنساهم متاعب الحياة ومشقّاتها وآلامها؛ لأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وعلى هذا الطريق يعيش الإخوان في السرّاء والضرّاء وفي الضيق والفرج وفي أقبية السجون وظلامها وفي بيوتهم وبين أولادهم ما داموا في طاعة الله، كل شيء في حبّه سبحانه يهون، وكل تعبٍ في سبيله راحة وكل مشقةٍ من أجل رضوانه فهي سعادة، لست أدري ماذا يريد البعض من الإخوان، كيف ينتهي هذا الأمر من المضايقات.. إنهم- والله- لا يكرهون أحدًا ولا يحقدون على أحد ولا يخاصمون أحدًا من أجل الدنيا أو من أجل المال، لقد فرغوا أنفسهم لما هو أجلُّ وأعظم من تراب الأرض وطينها وأحقادها وسمومها، إنهم يريدون السعادة كل السعادة للجميع والاستقرار كل الاستقرار للجميع، إنهم يمضون هذه الحياة القصيرة في رحلتهم إلى الله، حسبهم أن الله يرضى عنهم ويتقبلهم، والحمد الله، رحمته تحيط بهم نقول لهم ولمن على شاكلتهم: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران).

 

إن زادهم الصبر الجميل والطاعة الموصولة بربِّ الأرضِ والسماء والثقة الكاملة في وعدِ الله الحق، والحرص على أداء الأمانة التي ائتمنهم الله عليها، والمسافة بين الدنيا والآخرة قريبة فهي خفْقةُ قلب فإذا بالإنسان بين يدْي ربه مباشرةً يعيش في البرزخ ينتظر يوم الحساب، لقد كان الإمام علي- رضي الله عنه- يقبض على لحيته وهو في الصلاة وتسيل دموعه ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري.

 

وقد سُئل الإمام علي- رضي الله عنه- عن المسافة بين السماء والأرض فقال: دعوة مستجابة.

 

الرحلة إلى الله لا تُقطع بالطائرة ولا بالصاروخ وإنما تُقطع بالقلب المؤمن الذي يحتاج دائمًا إلى الزاد الذي يعينه ويساعده على مواصلة السير إلى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾ (الأنفال).

 

يقول المفسرون في قوله تعالى ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يُذَكَّر بالله في أمرٍ أو نهي فيغشاه جلالة، وتنتفض فيه مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة، أو هي كما قالت أم الدرداء- رضي الله عنها- فيما رواه الثوري قالت: الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قالت: (إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يُذهب ذلك).

 

إنها حال ينال القلب فيها أمرٌ يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقرَّ! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يُذكر بالله في صدد أمرٍ أو نهي فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله وجلاً وتقوى لله.

 

أنصح كل قارئ لهذا المقال أن يرى هذه الحالة رؤيا العين حين يُحضر بنفسه سعفةَ نخيل جافة ثم يوُقد فيها النار سيرى بعينيه هذه الحالة، وكلما سرت النار في السعفة ارتعشت واضطربت واهتزت ثم يحاول مجتهدًا أن يحقق هذا الأمر في نفسه بكثرة خشوعه وخضوعه واستحضار عظمة الله آناء الليل وأطراف النهار في سجوده وفي تلاوته للقرآن وفي رؤيته لآيات الله في الكون حتى يلين هذا القلب ويتجاوب مع آيات الله فيخشع ويخضع، تسيل العيون، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)﴾ (الزمر).

 

ولما كان القلب هو كل شيء في هذه الرحلة، وجميع الجوارح في خدمته بل جميع ملكات الإنسان المؤمن تتعاون معه في الوصول إلى الله جل جلاله، إلى غايته العظمى نجد الاهتمام بسلامة هذا القلب من الأمراض وإبعاد الشيطان عنه هدف من أهداف هذه الرسالة، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يصف الداء والدواء لهذا القلب فيقول: "إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد". قيل: وما جلاؤها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قراءة القرآن وذكر الموت" (أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عمر)، ويقول في حديث آخر يبين فيه ما يُلمّ بهذا القلب "في القلب لمّتان. لمّةُ الملَك ولمةُ الشيطان، فأما لمّة الملك فإيعادٌ بالخير وتصديق للحق، فمن وجد ذلك فليحمد الله عز وجل، وأما لمّة الشيطان فإيعادٌ بالشر وتكذيب بالحق فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم- ثم تلا صلى الله عليه وسلم ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)﴾ (البقرة)". ويقول الصحابي الجليل وابصة بن معبد حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة جئت تسأل عن الخير والشر" قال نعم. قال صلى الله عليه وسلم: "الخير ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك وتردد في الصدر وكرهت أن يطلع الناس عليه وإن أفتوك وأفتوك".

 

جاء في كتاب تذكرة الدعاة: "وتتفاوت قلوب الناس في تقبل أمر الله فمنهم من يمتلئ ويتضلّع ويتقبل الكثير الغزير، الذي يَغمر آفاق نفسه الرحيبة، ومنهم من يقبل دون ذلك، أو لا يتسع لما يتسع له الأول، وعلى هذا تتفاوت أقدار الناس، فأعلاهم قدرًا إنما هو أكثرهم إحاطةً ووعيًا لما أنزل الله وأعظمهم إفاضةً على العباد ونفعًا لهم. وثمرة ذلك أن تيْنع شجرة التقوى في القلب، وتستفيض دائرة الهدى والخير من حوله، وتهوي أفئدة الناس إلى منهاجه والاقتداء به". (للأستاذ البهي الخولي- يرحمه الله-).

 

ومن هنا لا بد للمؤمنين من اليقظة الكاملة للقيام بطاعة الله، ولا بد لألسنتهم أن تكون رطبةً بذكر الله وإلا سقط الإنسان في قبضة الشيطان، قال تعالى: ﴿َوَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)﴾ (الزخرف).

 

يقول المفسرون في معنى هذه الآية: والعشى كلال البصر عن الرؤية وغالبًا ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدّق فيه أو عند دخول الظلام, وكلال العين الضعيفة عن التبّين خلاله، وقد يكون ذلك لمرضٍ خاص، والمقصود هنا هو العماية أو الإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير، وقد قضت مشيئة الله في خلْقة الإنسان ذلك، واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد  الشيطان طريقه إليه فيلزمه ويصبح قرين سوء يوسوس له، ويزين له السوء.

 

جاء في الأثر: "إن الشيطان مادٌ خرطومه إلى قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس الشيطان، وإن نسي التقم قلبه بخرطومه وصرّفه كما يشاء".

 

فاقطعوا خراطيم الشياطين بذكر الله، وأسقطوا مؤامرات الإنس والجن بطاعة الله والحرص على مرضاته، وأقبلوا على الله، وعيشوا برسالتكم ولدعوتكم، وتعلقوا بحبل الله المتين، فهذا هو الطريق وهذا هو الزاد وتلك هي غايتنا.

-----------

* من علماء الأزهر وعضو مكتب الإرشاد.