يُعد الدكتور جابر قميحة 1934م بحق واحدًا من أهم الأصوات الأدبية والنقدية بوجه عام، والشعرية بوجه خاص، في الفترة الممتدة من نحو نصف قرن تقريبًا داخل الحركة الإسلامية؛ ذلك أنه يصدر فيما يبدعه من شعر ومسرح عن تصور إسلامي حاكم للكون والحياة، وهو ما يمكن التعبير عنه بأنه شاعر متحيز لموقف ومتعاطف مع تصور نبيل، ومنتصر لمبادئ الفكرة الإسلامية في كل ما يبدعه.

 

وتزداد قيمة العطاء الشعري والأدبي للدكتور جابر قميحة عندما نعلم أنه مستمسك بالفكرة الإسلامية منذ مَنَّ الله عليه بإبداع الشعر، لم يتحول عنها لفكرة أخرى، ناضل ولم يزل من أجل انتصارها، وذيوعها، وفرض سلطانها على غيرها من الأفكار.

 

وهو في كل ما يمر بالأمة من أحداث مشتبك بقلمه، صادح بشعره؛ مما كان طبيعيًّا معه أن يفرز إنتاجه الشعري والمسرحي، وأن يتنوع شكل القصيدة عنده، وأن يتنامى بناؤها، ويتعاظم أمر الأفكار والفلسفات الجزئية التي تعالجها أشعاره، وأن يتطور بحكم الخبرة والتخصص أداؤه فنيًّا ولغويًّا وموسيقيًّا.

 

وإذا كان جابر قميحة الناقد والأكاديمي كان أول من صكَّ مصطلح الشاعر الرسالي، والناقد الرسالي بما هما وصفان مشتقان من مصطلحه الرسالية؛ فإنه والحق يُقال أولى مَن يستحق إطلاق هذا النعت عليه، ذلك أنه شاعر رسالي بالمعنى الذي أطلقه وأراده، فهو ابن فكرة ورسالة مؤمن بها متفرغ للتعبير عنها فنيًّا، ساعٍ إلى التبشير بها والدفاع عنها، وكشف ملامح الوضاءة التي تحيط بها، ولا سيما كلما اشتدت رميات المعادين للفكرة الإسلامية، وهذا التعبير طال جوانبها المختلفة أفكارًا ومبادئ وأحداثًا وتواريخ ورموزًا وأعلامًا.

 

والدكتور جابر قميحة مستحق منذ زمان بعيد إلى أن تجمع أشعاره ومسرحياته في ديوان جامع أو في مجموعة كاملة بلغة العصر الذي نعيشه لاعتبارات كثيرة جدًّا مر ذكر بعضها.

 

وقد صدرت أخيرًا مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية لهذا الرائد الذي يمثل إبداعه بحق جزءًا من التاريخ الأدبي للحركة الإسلامية في بابها الشعري والمسرحي بوجه عام، كما أنه يمثل جزءًا أصيلاً من التاريخ الأدبي للإخوان المسلمين إن لم يكن أكثر شعراء هذه الحركة استحقاقًا للدرس والمتابعة والعناية لأكثر من جانب منها.

 

أولاً: التفرغ شبه التام لخدمة الحياة الأدبية المتصلة بالحركة الإسلامية.

ثانيًا: التنوع الظاهر في الأشكال الأدبية مستوى الأجناس شعرًا ومسرحًا.. إلخ، وفي مستوى أنماط الجنس الواحد قصيدة عمودية وقصيدة تفعيلة.. إلخ.

ثالثًا: الغزارة الظاهرة في إنتاجه الإبداعي.

رابعًا: امتداد الفترة التاريخية واتصالها؛ بحيث يمكن أن تكون أشعار الدكتور جابر قميحة إحدى الوثائق المهمة في التاريخ لحادثات الإخوان المسلمين، واستعمال الشعر مصدرًا من مصادر التاريخ مسألة نقدية مرعية.

خامسًا: التعامل مع الدكتور جابر قميحة من منظور يمكن أن يصنفه الشاعر الأول والرسمي للإخوان المسلمين من مجموع علامات لا يمكن أن يخطئها أحد على مستوى الاتصال بالقيادة.

سادسًا: دور الأبوة الشعرية التي استقرت في وجدان شباب شعراء الحركة الإسلامية، وهو ما ظهر من متابعاته وقراءاته النقدية لعدد كبير منهم في دراسات منشورة ومجموعة.

 

من أجل هذه الأسباب متفرقة ومجتمعة، استقبل المثقفون المنتمون المعاصرون الطبعة التي جمعت أشعاره ومسرحياته بالارتياح والرضا.

 

وقد جاءت مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية للدكتور جابر قميحة في ثلاث مجلدات كبار، ضمت شعره ومسرحه الذي سبق نشره في مظانٍ مختلفة ومتنوعة وممتدة على خريطة العالم العربي والإسلامي؛ وهو الأمر الذي سيعين على دراسته وتقييمه فنيًّا وموضوعيًّا، وسيعين على دراسة الإبداع الشعري والمسرحي للحركة الإسلامية؛ مما هو كفيل برد عدد كبير من الاتهامات الظالمة الموجهة لرموزها الأدبية.

 

وفيما عرض بيان لمجمل ما ضمته المجلدات الثلاثة من أعماله الشعرية والمسرحية:

- المجلد الأول: وفيه:

1- ديوان لجهاد الأفغان أغني.

2- ديوان الزحف المدنس.

3- ديوان حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري.

4- ديوان على هؤلاء بشعري بكيت.

5- ديوان حسبكم الله ونعم الوكيل.

 

- المجلد الثاني وفيه:

1- ديوان لله والحق وفلسطين.

2- ديوان حول أسماء الله الحسنى.

3- ديوان الإقلاع في البحور السبعة.

 

- المجلد الثالث وفيه:

1- مسرحية محكمة الهزل العليا تحاكم الأيدي المتوضئة.

2- مسرحية السيف والأدب ومسرحيات أخرى.

3- مسرحية الرؤيا الأخيرة ليوسف الصديق.

 

وقد حرص الدكتور جابر قميحة- وهو أمر بالغ الدلالة- على أمانته ورسالته أن يطلع قارئه على كل ما كتب مهما كانت درجة فنيته، ومع إقراره واعترافه بضعف بعض أعماله وضعف صياغات بعضها الآخر؛ ليتيح للدرس العلمي أن يقف على محطات التطور وملابساته خدمة لتقدم الإبداع في داخل الحركة الإسلامية.

 

- جابر قميحة الشاعر الرسالي:

افتتح المستشار عبد الله العقيل المجلدات الثلاثة بمقدمة كاشفًا النقاب عما يمكن أن نسميه أصول الشجرة الأدبية التي ورثها جابر قميحة، وغذَّت شجرة الإبداع التي سكنت نفسه الكريمة؛ لنخرج وبعض ما يستقر في عقولنا أن جابر وريث شعراء الإسلام الأوائل الذي طالما نافحوا وجاهدوا بأشعارهم في سبيل نصرة الله سبحانه.

 

وهو الأمر الذي يمكننا معه أن نقرر أن جابرًا الشاعر أحد حفوة حسان وكعب بن مالك رضوان الله على الصحابة أجمعين.

 

يقول عبد الله العقيل 1/8 والأستاذ الدكتور جابر قميحة الداعية المجاهد والكاتب الناقد والأديب الشاعر من أبرز الأدباء الذين حملت أعمالهم الأدبية همَّ الدعوة إلى الله، ودافعت عن الدعوة والدعاة، فقد وقف قلمه لله تعالى، وسخَّر كل إمكاناته ووقته لكتابة فنون الأدب المختلفة من شعر ونثر وقصة ومسرحية مجاهدًا بالكلمة، وخادمًا لقضايا الأمة، ومدافعًا عن مقدساتها وحرماتها.

 

وقد أحسن العقيل عندما سلك الدكتور جابر قميحة في زمرة مباركة من أبناء الفكرة الإسلامية على امتداد العصر الحديث الذي خدموا قضاياها بأدبهم وشعرهم من أمثال: مصطفى صادق الرافعي وعلي الطنطاوي ومحمود محمد شاكر وسعيد العريان وعلي أحمد  باكثير ونجيب الكيلاني وغيرهم.

 

وقد رصد الأستاذ العقيل ما سماه بمنطلقات إبداعه الشعري ومرتكزات رؤيته الفنية والشعرية في ثلاثة محاور هي:

أولاً: الإيمان الصادق المتين بالإسلام بمفهومه الشامل.

ثانيًا: حب اللسان العربي والوفاء له بما هو لسان الدين ولسان القومية، وبما هو رمز الاتصال بالتراث، وبما هو لسان غني وافر الميزات.

ثالثًا: الانطلاق من طبيعة التربية الإخوانية بما هي أصل حاكم لإنتاجه الأدبي.

 

جابر قميحة أمام مرآة جابر قميحة

وفي المقدمة التي صنعها الدكتور جابر قميحة بقلمه لأعماله الشعرية والمسرحية؛ وقف أمام مجموعة من العلامات رأى أنها ضرورة للقارئ بين يدي مجموعته الشعرية والمسرحية أوجز فيها، وهو محق رؤية الإسلام العظيم من قبول الشعر وتقديمه لمنجزه في خدمة قضايا الدعوة والجهاد بما يجعله في مرآة نفسه، وإن لم يصرِّح وريثًا شرعيًّا لقائمة طويلة من الشعراء المجاهدين الذين يذكرون؛ فيؤصل بذكرهم للدور العظيم الذي للشعر في معركة الإسلام على امتداد الزمان من أمثال: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وعبيدة بن الحارث، وخوَّات بن جبير، وابن الزبعري بعد إسلامه، وبجير بن زهير بن أبي سلمى ولكثير من دواوين شعرية وصلت إلينا أو جمعت من مصادرها.

 

وتصل الأمانة العلمية والوعي بما من أجله ظهرت المجموعة الكاملة لأعماله الشعرية والمسرحية إلى حد أن يرصد مجموعة من العلامات المهمة على طريق قراءة هذا المنجز الشعري، وعلى طريق تقويمه، وتقويمه الحركة الشعرية المرتبطة بالفكرة الإسلامية وقضاياها وجهادها في الحياة المعاصرة وهو في هذا السبيل يقرر ما يلي:

أولاً: الوعي بتفاوت مستوى أشعره فكرًا وعاطفةً وتصويرًا وأداءً ولغةً، وهو أمر منطقي مع تقدير المدى العمري الذي شمل إنجازه الشعري.

ثانيًا: خضوع ترتيب القصائد في الدواوين المختلفة؛ لترتيب سماه مراعاة المادة الشعرية، وهو ما يمكن أن نسميه ترتيبًا موضوعيًّا، وهو منهج قدم مألوف في غير ميدان علمي؛ بمعنى أن قصائد موضوع ما وضعت في ديوان مستقل على ما ترى في مثل ديوان الجهاد الأفغان أغني، أو ديوان لله والحق وفلسطين.. إلخ، ولم يشذ عن هذه المنهجية إلا ديوانه الإقلاع في البحور السبعة الذي جمع فيه ما تناثر في يومياته من قصائد تفاوت زمان إنجازها.

ثالثًا: جاء عنوانات الدواوين حاملة عنوان القصيدة المركز في كل ديوان.

رابعًا: اشتباك قصائد مع أحداث الوطن العربي الكبرى، وتعرَّضت للفكرة الإسلامية، ومحنها، وأحداثها، ومدنها، وشخوصها، بما يجعل من دواوينه عادة تسهم في عمل المؤرخ، وهو نفسه يقول عن مجموعته هذه 1/ 23: إن هذه الدواوين تصلح أن تكون معجمًا تاريخيًّا صُبغ بلغة الفن الشعري.

خامسًا: ومن ناحية التقدير الكمي؛ فإنه يقسمها ثلاثة أنواع:

أ- مقطوعات "نادر".

ب- قصائد متوسطة الطول.

ج- مطولات ذات طابع ملحمي "الغالب".

 

سادسًا: تُوزع الدواوين على نوعي الشعر الخليلي أو العمودي والتفعيلة أو الشعر الحر، وفيما يتعلق بمسرحه يقرر أنه جاء مسرحًا شعريًّا باستثناء مسرحية واحدة؛ وهي السيف والأدب، ويقرر أنها جميعًا تذرعت بما يسمى الإسقاط السياسي مع تفاوت في تقدير درجته تصريحًا وتلميحًا.

 

ويقرر جابر قميحة في مرآة جابر قميحة، أي في المقدمة التي صنعها بنفسه لمجموعته الشعرية والمسرحية؛ أن ابن وفي لما سماه الرسالية الإنسانية، قاصدًا أنه صدر فيما صدر عن تصور إسلامي في التعامل الفني مع الحياة والكون والإنسان، وهو يتذرع في رؤيته النقدية تلك بما قرره واحد من النقاد الكبار؛ وهو الدكتور محمد مصطفى هدارة رحمه الله الذي ينقل عنه أن التزام الأديب المسلم يُعد جزءًا من عملية الإلهام الفني.

 

إهداءات الدواوين وجه كاشف عن رسالتها

وفي ملمح ربما يكون صالحًا في هذا السياق، فحص مجموع ما أورده في بدايات دواوينه من إهداءات ليكشف لنا عن الفكرة التي حكمت إبداعه الأدبي، وارتبطت به وانطلق منها؛ ففي مقدمة ديوانه "لجهاد الأفغان أغني" 7/ 36 يهديه للشهيد المجاهد الدكتور عبد الله عزام واحد من أهم رموز الجهاد على هذه الأرض المسلمة.

 

وفي مقدمة ديوان الزحف المقدس 1/ 116 يهديه إلى الدماء الكويتية البريئة التي أزهقها نظام صدام حسين البعثي، وإلى كل الشهداء الذين سقطوا بسبب هذا الغزو الفاجر، وفي مفتتح ديوانه لله والحق وفلسطين 2/ 602 يهدي عمله إلى أمير المجاهدين المعاصرين أحمد ياسين رحمه الله، ومثل ذلك تراه في مقدمات مسرحياته إلى واحد من شيوخه وهو أستاذه المرحوم عبد الرحمن جبر.

 

وهذه الإهداءات جميعًا كاشفة عن ملمح ينضاف إلى ملامح أخرى ظاهرة؛ أهمها عنوانات الدواوين والمسرحيات تجنح إلى انتماء معلن ظاهر ورسالية واضحة.

 

مكونات قصائده: شهادة واضحة على انتمائه

إن تحليل قصائد جابر قميحة من خلال بوابة اللغة كاشف عن رؤية واضحة المعالم، حاكمة على رؤيته للعالم، وتصوره للكون، وهو الأمر الذي عكس روحًا إسلامية وإنسانية.

 

وفحص المعجم الشعري موزعة على مجموعة من الحقول الدلالية قائد إلى ما نقرره من التزام ورسالية.

 

فعلى مستوى حقل القصيدة تنتشر تعابير أُعيد تخليقها شعريًّا من مثل: عقيدة في ديوان "حسبكم الله" و"عقدي مع الله" و"الراحلون مع الله" "ويح ووثيقة الولاء".

 

وفي ديوان "على هؤلاء بشعري بكيت" يرد مثل: في موكب الملائكة، في ذمة الله.

 

ويرد معجم آخر ظاهر الدلالة على المذهب الفكري والوجداني المؤسسي في أشعار جابر قميحة محكومًا بطبيعة الصراع المعاصر الذي يواجه الفكرة الإسلامية، وهو معجم الجهاد الذي ظهر ظهورًا مكثفًا؛ حتى إنه طغى عنوانها على بعض دواوين المجموعة الشعرية وظهرت مفردات وتعابير هذا الحقل وقد حققت لنفسها قدرًا من العصرية مثل:

صوت المقاومة، الجندي، والملحمة في ديوان الزحف المدنس، والجهاد والدماء والانتفاضة، والحجارة، وتحرير، والزحف، والدم في ديوان حسبكم الله ونعم الوكيل، وشيخ المجاهدين، وعمر المختار، والشهيد عزام، وهو ملمح عصري تحولت فيه هذه الأعلام إلى الانفتاح الدلالي لتصير أوسع من مجرد أعلام.

 

وهو المعجم الذي طال مناطق كثيرة في مسرحياته كذلك.

 

أما على مستوى حقل الألفاظ الإسلامية العامة فهي كثيرة جدًّا، وموزعة توزعًا عجيبًا وشاملاً، فلا ينسرب في كل القصائد والمسرحيات ليغطي مساحات شاسعة جدًّا من الحفاظ بالظاهرة الإسلامية بملامحها المختلفة على مستوى الأفكار والموضوعات والأحداث والوقائع والأشخاص والمدن.. إلخ.

 

فانعكست هذه الملامح على مستوى الألفاظ؛ لتتراقص أمامنا علامات الانتماء الإسلامية الفكرة في المولد النبوي، وأبي أيوب الأنصاري، والإسراء، والإمام الشهيد حسن البنا، وعودة مصعب بن عمير، وشهيد من أرض الحرم.

 

والحق قاضٍ بأن نقرر أن العصرية التي وعاها جابر قميحة، وبنى شعره ومسرحياته وفق بنود، ترعاها، وتتداخل، وتتشابك معها؛ كان له تجلياته وحضوره؛ ولكن أعلى ما يمثله هو التغني للمقاومة وللحرية بشكل واضح جدًّا، وهو ما استجلب حضورًا طاغيًا للتعابير والمفردات التالية:

الحرية، إلى الإخوان وراء القضبان، وصرخة من وراء الأسوار، والحاظر المفتري للمحظور المظلوم.

 

ولم يقف الأمر عند حدود دلالة المعجم الشعري على انتماء جابر قميحة وانطلاقه من بوابة واضحة، تعلن وعيه الجارف بكيفية خدمة فكرة الشعرية عبر أهم بوابات العمل الفني والخلق الشعري وهي اللغة.

 

بل ظهرت أبعاد فنية تجعل من جابر قميحة قامة شعرية راقية، بما حققه فنيًّا؛ فقد جاء التصوير الفني والشعري رائعًا وراقيًا مع تناغمه مع القضايا الفكرية الإسلامية، ومن الصور الظاهرة التي تؤسس لنفسها اعتمادًا على ينابيع إسلامية وتصور إسلامي حاكم على وظيفة الكلمة، أو الجهاد اللساني، أو الشعر في الوجود الإنساني فيقول:

إن الكلمة عرْض الشاعر

فإذا مالت نحو الدرك الأدنى السافل

في مستنقع مدح داعر

بنفاق السلطان الجائر

كانت لعنة

تطرد صاحبها مذمومًا

من فردوس الله الأعظم

وأنا عشت لقلمي شاعر

عشت لقلمي.. ليس بقلمي

عشت عزيز النفس أبيًّا.. عاتي الضرم

حتى في ظلمات الألم

عشت أنيس صوت الله

من عزته أجني الجاه

وبإحساسي وبأعماقي كنت أراه

 

ففي هذا المقطع من قصيدته لجهاد الأفغان أغني تتضافر مجموعة من الصور الشعرية المتنوعة تشبيهًا في (الكلمة/ عرض)، وفي (مدح السلطان/ مستنقع)، واستعارة (أجني العزة من شجرة عزة الله)، ولم يقف الأمر عند حدود هذه الصور الشعرية الخلابة، وامتد بفضائها عن طريق التكثيف المحيط بها.

 

وتتألق الصورة الشعرية لتحقق الغرض الذي من أجله صممت القصيدة؛ ففي رثاء أحمد ياسين في قصيدته ياسين في موكب الملائكة يقول:

 فإلى أن أنت ماضٍ سعيدًا          وحواليك هالة بيضاء

موكب من ملائكة الله يشدو         وعلى الأفق بهاها بهاء

 

فقد خلق بهذه الصورة الشعرية المركبة جوًّا نفسيًّا، يحبب إلى المتلقي الشهادة، ويغمره بما يمكن أن يسمى بشعرية النور التي تهب النفوس سكينةً وأمنًا ورضا، فالعالم يتألق ويزدان ويعلوه البهاء.

 

وفي قصيدة الإسراء والأطفال والحجارة يقول:

وسبح في جبين القدس

من أطياب لقياه

جبال هش شامخها

وزيتون وأمواه 

 

ففي هذه الصورة الشعرية يحول الشاعر الجبال الشوامخ والزيتون والأمواه؛ ليكونوا عبادًا مسبحين طائعين.

 

إن إسلامية الصورة الشعرية ذات دلالة داعمة لمفهوم الالتزام والرسالية الإنسانية المنطلقة من روح الإسلام؛ وهو الأمر الذي سيتيح نشر الأعمال الشعرية والمسرحية لجابر قميحة على فحصها وتأملها في هدوء ومتابعة، واستجلاء للجذور والمنابع الأولى.. مع ملاحظة علامات التطور مع الزمن التي تحققت لشاعرية جابر قميحة.

 

وجابر قميحة من جانب آخر واعٍ من الناحية الفنية بدستور عصرية القصيدة، واعٍ بما تفرضه هذه العصرية فنيًّا، وهو ما يمكن رصده من خلال تأمل جزء أصيل، أسهم في معمار القصيدة في مجموعته، وهو ما يُسمى بالتناصي أو بتداخل النصوص؛ وهو الأمر الذي استدعاه جابر قميحة ليغذي نهره الشعري.

 

وهو الأمر الذي يدعم ما ورد في سيرته الذاتية من أخبار عن ذائقته الشعرية وحافظته الأدبية؛ ذلك أن جابرًا استطاع في براعة ظاهرة أن يستثمر عددًا ضخمًا من النصوص، واستطاع أن يعيد تخليقها وتوظيفها وتعشيقها في بنية قصائده.

 

وكان القرآن الكريم بسبب من أمورٍ كثيرة هو النص صاحب الحضور الظاهر في تشكيل قصيدة جابر قميحة وبنائها، يقول في قصيدة إلى الشعراء المريدين في ديوانه الزحف المدنس:

يا حسرةً على العباد

والتاريخ والعرب

 

- ويقول كذلك في حسبكم الله ونعم الوكيل:

يا حسرتا يا مصر يا كنانة

 

- ويقول في مفتتح قصيدته: ياسين في موكب الملائكة:

قضى الأمر لا يرد قضاء

فهو الله فاعل ما يشاء

 

- ويقول في ديوان لجهاد الأفغان أغني:

ستركب خليل ابن القاسم

ونعانق نصرًا وشروقا

قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا

 

- ويقول في الإسراء والأطفال والحجارة:

وها قد هلت الذكرى

عبير فائح رياه

محمد يا ربي يسري

فسبحان الذي أسرى

 

ففي كل التداخلات ظاهر جدًّا استثمار وتوظيف آيات الذكر الحكيم فيما مرَّ من أمثلة شاهدة على هيمنة النص العزيز على بناء القصيدة عند جابر قميحة؛ وهو الأمر الذي ظهر ظهورًا جليًّا في عدد الآيات الكريمة الذي استُثمر في الشواهد السابقة.

 

وقد ظهر التأثير القرآني في بنية القصيدة عند الدكتور جابر قميحة في صوت تنامي استعمال المفردة القرآنية والتعابير الموصية المقتبسة من الذكر الحكيم؛ وهو الأمر الذي يحقق مستوى عميقًا من الفكرة ومستوى عاليًا من الشعرية، وخلق حالة متقدمة من الجمالية، وهو ما تمتلئ به صفحات المجموعة الشعرية والمسرحية في مثل:

أنا لن أبرح المحراب

حتى يأذن الله

هنا قد خر للأذقان

رسل الله: رباه

 

وهو يفرض على ذهن المتلقي استدعاء قصة إخوة يوسف من جانب، ويستدعي قوله تعالى ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ﴾ (الإسراء: من الآية 109) (17/ 107).

 

وقد تخطى الأمر بالدكتور جابر قميحة إلى ظاهرة جديدة تحسب له صحيح أن لها سوابق في الشعر المعاصر؛ لكنها ظهرت فنيًّا بشكل جيد عند جابر قميحة، وهو ما يمكن أن نسميه التناص الإيقاعي، بمعنى أنه استثمر بعض تراكيب القرآن الكريم المميزة مما لا يملك القارئ إزاءه إلا استدعاء النص العزيز بما تحققه وحققته عبر الزمان من إيقاع مميز ثابت من مثل:

باح السعيد المنكتم

فرمى المظالم والجبابرة الغشم

بالعاتيات القادحات

من الرجم

فهوى الغوى المستبد

ولات ساعتها الندم

 

ففي هذه القطعة، وفي سطرها الثالث يلح على ذهن المتلقي فواتح سورة العاديات بإيقاعها الفخم المنسجم من الأغراض والغايات المرادة من وراء السورة الكريمة.

 

وهو الأمر الذي يدل على فنية رائعة، حقَّقها جابر قميحة طالما حاول النقد الحديث إهدارها بالإهمال؛ بسبب من رسالية الشاعر الكبير وانتمائه وموقعه الفكري، وهو بعض ملامح ما أسميه منذ فترة بتوحش العلمانية.

 

طغيان الأمل وتواصل الأمة

وفي واحد من أهم الملامح المحققة لعصرية القصيدة الجابرية، يظهر استدعاء الشخصيات التراثية، وإسهامها في معمار الشعر عند الدكتور جابر؛ ليحقق به- وهو قضية فنية عصرية محتفى بها من دستور النقد الشعري في العصر الحديث- عددًا ضخمًا من العلامات الفنية والموضوعية في أعماله التي خرجت إلينا بعد زمان طويل من الانتظار.

 

وهو الملمح الفني الخادم للخيط الموضوعي والفكري المنسرب في كل دواوين المجموعة ومسرحياتها إجمالاً وتفصيلاً على مستوى عنوانات الدواوين والمسرحيات والقصائد والمشاهد.

 

وهو الأمر الذي يسهل رصده بشكل كبير في مثل:

ظننتهم فيلق المصطفى          لنشر الحقيقة قد أشرقوا

 

ويقول:

أحمد يسين سمي المصطفى شرفت           العروبة واخضرت بوادينا

 

وهو الاستدعاء المهم على طريق السمو بالشخص المرثي- رحمه الله تعالى- ولا سيما في إثبات ملامح تشريفية مستمرة من الشخصية المستدعاة، وهي شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وهو أمر مستقر فنيًّا في بنية القصيدة المعاصرة على ما يظهر مثلاً عند أحمد شوقي رحمه الله تعالى

أبا الزهراء قد جاوزت قدري       بمدحك بيد أن لي انتسابا

 

وهذا الانتساب المشار إليه في بنية البيت هو أنه تشرف باسم متفق في رسمه من اسم المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 

والمجموعة الشعرية والمسرحية مزدحمة ازدحامًا موظفًا فنيًّا بأسماء من مثل: جعفر الطيار في شهيد مؤتة، ومصعب بن عمير في شهيد الحرم، ومحمد الفاتح في سراييفو الدماء والأعراض.

 

وهو في كل ذلك وغيره يحقق تناغمًا وانسجامًا ووعيًا بطبيعة الشخصية التراثية "الدينية" المستدعاة؛ حيث يُظهر وعيًا بعوالق ذلك الاستدعاء في إطار خدمة الموضوع الذي تطرحه القصيدة في مجموعة الدكتور جابر قميحة.

 

ويذهب الأمر بقصيدة الدكتور جابر قميحة إلى مدى أبعد من توظيف الشخصيات التراثية ليطال المكان والحادثات بما هي شخصيات اعتبارية لها وجود وتعين مادي مؤثر، وهو ما يظهر في تواتر استعمال مصطلح الشخصية في الدراسات الجغرافية والعمرانية والحضارية والإستراتيجية على ما يظهر مثلاً في رائعة جمال حمدان شخصية مصر، وهو الذي نراه في استدعاء بدر وخيبر وعين جالوت وحطين.

 

وهذه الملامح الفنية تحقق تعميقًا لأفكار المجموعة التي غطت مساحات الاهتمام الإسلامي المعاصر أفكارًا ورجالاً وأحداثًا.. إلخ.

 

وتحقق فوق ذلك كله واحدًا من أهم ما يجب أن تحرص عليه الرموز الأدبية الشعرية والقصصية والمسرحية المنتمية، وهو عصرية العمل الأدبي؛ وهو الأمر الذي تحقق لجابر قميحة بشكلٍ رائع يجعله شاعرًا كبيرًا بالمقاييس الإبداعية والفنية.

 

5- إطلالة على مسرح جابر قميحة

من الملامح المهمة التي تحققت في قصائد جابر قميحة، وهي بعض العناصر التي تُسهم في خلق القصيدة العصرية هو الحرص على ما يُسمَّى بدرامية القصيدة، وهي تقنية عابرة من جنس القصة والرواية إلى القصيدة، وهو ما يعني بناء القصيدة وتصميم معمارها من خلال صناعة الأزمة والعقدة والتدرج نحو لحظة تنوير وإضاءة طلبًا لتفاعل الجمهور وسعيًا لتحقيق اتحاده مع القصيدة، وهو الأمر الذي نلمسه في عددٍ من القصائد ذات الروح الملحمية والدرامية.

 

وقد كانت هذه الروح الدرامية باعثًا لظهور عددٍ من ألأعمال المسرحية، ولا سيما الشعري منها تطويرًا بعيد المدى للملمح الفني الذي ظهر في بنية عدد ضخم من قصائد المجموعة.

 

ومن ثَمَّ فإن المسرح عند جابر قميحة يمكن أن يعد في صوره صورة تتطور منطقيًّا وطبيعيًّا لدرامية القصيدة في دواوينه المختلفة.

 

ومثلما كان الشعر حريصًا بمنطلق الرسالية والالتزام على الاشتباك مع قضايا الإسلام المعاصر في مناطق العالم المختلفة، بما أن الفكرة الإسلامية فكرة عالمية برباط العقيدة الجامعة للجسد الإسلامي الممتد، فقد جاءت المسرحيات لتحقق الأمر نفسه، وهو الأمر الذي بدا واضحًا على حدٍّ التصريح في محكمة الهزل العليا الذي ينعى فيه الانهيار الذي تمارسه الأنظمة في مواجهة جيلٍ من الفرسان النبلاء من صفوف أعظم الحركات الإسلامية المعاصرة.

 

وهو الملمح الذي نراه في الإهداء المفتتح الذي صنعه لمسرحيته الشعرية "محكمة الهزل العليا":

يا سامح

يا ولدي الأصغر معذرةً

معذرة يا ولدي الطيب.. سامحني

فمع الأيام ستصبح رجلاً

وستدرك أن أباك الشيخ

قد عاش بعصر خنقته محكمة الهزل العليا

وأنا آملُ إلا تجعل ذلك سببًا

يُنقص من قدركَ في نظري

أو يُضعف من حبك لي

حين أعيش خريف العمر

وشفيعي عذرٌ يا سامح

أني وأنا في عصر المهزلة المأساة

لم أحنِ جبيني للظالم

لا تسجد جبهتي الشماء لغير الله

هل تقبل عذري يا ولدي

اقبله ولا تفجع أملي

يرعاك الله

 

وهنا يصح أن نقرر أن جابر قميحة في قصائده التي تشكَّلت وفق برنامج الشعر الحر صوت متميز جدًّا، فلما التفت إليه أحدًا، وهو لا يقل مطلقًا إن لم ينوعه على عددٍ من الأصوات الشعرية ذائعة الصيت في ظل هيمنة الإعلام العلماني مع أبواق الثقافة الرسمية في مصر والعالم العربي.

 

وتتضافر مجموعة من التقنيات مع المستوى الموضوعي من مثل تقنيته السخرية والتهكم بما هو أمر مناسب لطبيعة القضية الفكرية التي تطرحها أمثال مسرحية محكمة الهزل العليا.

 

وكثيرًا ما تأتي نهائيات المسرحيات كاشفة في الخطاب تنوير كاشفة أو فاضحة في بعض الأحيان؛ مما يصح معه اعتبار مسرحيات جابر قميحة تفسيرًا لعدد ضخم من الأحداث المعاصرة وتفسيرًا لعدد ضخم من الشخصيات المعاصرة التي طالما زيَّف تاريخها في الوجدان المعاصر، وهو ما يظهر في ختام مسرحية محكمة الهزل العليا عندما تعلوا هتافات مرددة:

لا تتنح                لا تتنح

الشعب ألح            لا تتنح

الوطن ألح             لا تتنح

الحب ألح               لا تتنح

 

وعلى ما يفجره هذا الهتاف المتماوج من الفرد، ثم من الجمهور يحقق مستوى إيهاميًّا، يمرر القصيدة بما يخلقه من المراوغة في استعمال الحادثة التاريخية المتعلقة بحادثة تنحي عبد الناصر تاريخيًّا، مع أن المسرحية تعاين حادثة تاريخية بتخطي الواقع التاريخي الناصري إلى الأيام الراهنة.

 

وينفجر العمل المسرحي بدلالة عمومية تضمن الارتباط بالجمهور، وتفتحه على عدم انغلاق الأزمة الراهنة وأعيان محددة لتطورها وتجعلها منهجًا ومبدأً يكسب قدرًا من التعاطف والتلاقي.

 

وهو الأمر الذي يظهر في حديث التاريخ بعد لحظة صمت معبرة عندما يقول:

ما زلت تسائل يا ولدي

عن اسمه زمان الأحداث

عن اسم العصر

ما زلت مصر.. فلتعلم

ذلك عصر البشر الوثن

عصر الإنسان الساجد للإنسان

 وإذا ما عبد الإنسان الإنسان

كان المعبود هو الشيطان

والعابد في الدرك الأسفل كالحيوان

 

وهذه الروح الدامية المتذرعة بروح (أوبرالية) تجعل للغناء والتراقص وانفتاح المدى اللغوي للكلام وعموميته ملمحًا ظاهرًا في المسرح الشعري المعاصر عند صلاح عبد الصبور في مأساة الحلاج وعند عز الدين إسماعيل في محاكمة رجل.

 

المجموعة الشعرية والمسرحية لجابر قميحة تتعدى حدود كونها أعمالاً كاملة دالة على حالة من الحضور والشاعرية والتكريم لصاحب المجموعة إلى حدود أبعد مدى على اتهام العصر النقدي الراهن في تجاوزه، وممارسته الاغتيال بالإهمال لقامة كجابر قميحة.

 

وتتعدى حالة استحقاق الشاعر جابر قميحة في الوعي الأدبي المعاصر على اختلاف توجهاته والأفكار الحاكمة له إلى حالة تتطلب فتح آفاق أرحب من دراسة الحالة الشعرية والأدبية المنتمية عند رموز كثيرة طمرتها مياه التنكر للفكرة الإسلامية.

 

وهو الأمر الذي كان جابر قميحة أول من أخلص لتركيز الضوء عليه في عمله المرجعي المهم: "التاريخ الأدبي للإخوان".

 

خالص التحية للشاعر الكبير الدكتور جابر قميحة، وخالص التقدير لمن فكَّر وأسهم وأعان ونفَّذ هذه التجربة التي تأخرت كثيرًا، ألا وهي تجربة صدور الأعمال الشعرية الكاملة لواحد من أهم الأصوات الأدبية الإسلامية.

---------

* كلية الآداب- جامعة المنوفية