تعرَّفتُ على الأستاذ الدكتور جابر قميحة منذ العام 2001م؛ حيث كنت قد كتبت قصيدةً بعنوان "الكل باطل"، تمجِّدُ المقاومة الفلسطينية، وتنقضُّ على الخنوع العربي الرسمي والشعبي، ففوجئت- قَدَرًا- أنها مُدرجة في أحد الكتب- أدبيات الأقصى والدم الفلسطيني- مصحوبة بتحليل فني لناقد كبير هو الدكتور جابر قميحة، وقال في قصيدتي كلامًا طيبًا، رأيته كبيرًا على شاب في مثل سني لم يشتد عوده الإبداعي بعد، غير أن التحليل رأى في قصيدتي ما لم أره، واستنطقها بما لم أتوقعه، فاتصلت به أشكره على مثل هذا الاهتمام، فقال لي يا بني أنا لا أعرفك، ولم أجاملك فيما كتبت، وإبداعك تحدث عنك، فكان حكمه فيَّ بمثابة شهادة اعتراف بشاعريتي من ناقد بصير.

 

وتوثَّقت علاقتنا من خلال الهاتف أو بعض الزيارات المعدودة التي- على قلَّتها- كانت عظيمة الأثر في نفسي ونفوس أصدقائي من شباب الباحثين على اختلاف تخصصاتهم، وتمر الأيام، وخاطبني الزميل الدكتور نعيم عبد الغني في أمر مهم؛ حيث أبلغني أن الدكتور جابر قميحة يجمع إبداعات الشباب عن القدس لدراستها ونشرها في إحدى المجلاَّت، فأعطيته ما لدي من إبداع شعري لي عن القدس، وبالفعل، لم تمر إلاَّ شهور قليلة حتى رأيت دراسة الدكتور جابر قميحة عن قصائدي منشورة في إحدى المجلاَّت التي تهتم بشئون القدس، وهي مجلة القدس، التي تصدر عن مركز الإعلام العربي بالقاهرة، وتم جمع الدراسات المتعددة التي عكف عليها الدكتور جابر لتصدر في كتاب بعنوان: "فلسطين مأساة ونضالاً في شعر الشباب"، وبينها كانت الدراسة التي نُشِرَت من قَبْل.

 

ثم تمر الأيام ويقدِّر الله أن يكون الدكتور جابر قميحة مناقشًا لي في رسالتي للماجستير، وقد كانت المناقشة شاقَّة على باحث مثلي في مُقْتَبل حياته البحثية، من ناقد قدير مثله، لكن هذه المشقَّة لا تساوي شيئًا إذا قستها بما استفدته من علم ومعرفة، حتى إنني ما زلت أتذكر بعض الدقائق اللغوية والأسلوبية التي أرشدني إليها، أتذكرها عندما أكتب فأستحضر صوابها، مما علمني إياه الدكتور جابر، ومن ثَمَّ أستحضر صورته أمام عيني، على الرغم من أنه لا يغيب عن بالي.

 

في كلِّ ذلك تعرَّفتُ أكثر وأكثر على الدكتور جابر، فإن حكيتُ عن علمه وسعة معرفته فلا أكون مبالغًا إذا قلتُ إنه من الأقلام القليلة التي نستمتع بالقراءة لها، ونتعلَّم منها، تمامًا كما نتحاور معها أو نسمعها، فلمستُ في كتاباته وحواراته سلامة اللغة، وروعة البيان، وجمال الأسلوب، والروح المرحة الساخرة، والذهن الحاضر الوقَّاد، والبديهة السريعة.

 

الدكتور جابر قميحة شاعر، له إبداع متميز، حمل لواء الدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، شعره يدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، وينتصر للمظلومين والمضطهدين، حاثًّا إياهم على الثورة وعدم الاستكانة، إنه شاعر للدعوة الإسلامية، وَهَبَ حياته لمبادئه، ويمثِّل قلمه خط دفاع متقدم، يحرس به ما يعتقده من أفكار، فملأ مكانًا لم يهتم به أصحاب الدعوة التي ينتمي إليها كما اهتمَّ به مؤسسها الأول، فاستحقَّ عن جدارة لقب شاعر الدعوة.

 

أما الدكتور جابر قميحة الناقد، فقد رأيت فيه حرصًا على الجَمْعِ بين الأصالة والمعاصرة، وربما كان لدراسته في دار العلوم دورٌ ما في ذلك؛ حيث لم تنجرف أدواته النقدية إلى ما انجرف إليه نقَّاد كبار من إغراق في المعميات النقدية التي تجعل القارئ ينفر من النقد والأدب معًا.

 

ولعلَّ الدكتور جابر كذلك من النقاد المعدودين الذين اهتمُّوا بتقديم شباب المبدعين لجمهور القرَّاء، وأنا أحد هؤلاء، وتناول أعمالاً إبداعية متميزة لهؤلاء الشباب، منها ما فاز بجوائز إبداعية كبيرة، كجائزة البابطين، وذلك مؤشر على مدى حساسية الذائقة النقدية للدكتور جابر في اكتشاف المواهب وتقديمها.

 

والدكتور جابر قميحة الكاتب المثقَّف يتميز في طريقته عن كثيرٍ من أقرانه ممن يهتمون بالشأن العام، فهو يكتب في القضايا الحياتية بوصفه خبيرًا بمجتمعه، يشعر بمعاناة الناس حوله، كلُّ ذلك بأسلوب الأديب المبدع، فيصبح المقال الاجتماعي أو السياسي ثريًّا بالاستشهادات الشعرية، والطرائف الأدبية ذات المغزى الرمزي؛ ما يجذب القارئ مهما اختلف مستواه الفكري أو المعرفي.

 

ومن الميزات التي كثيرًا ما وقفتُ أمامها معجبًا بقدرة الدكتور جابر على التوثيق، على الرغم من بُعْدِ العهد بالمصادر التي يوثِّق منها كونها صحفًا يومية أو أسبوعية، فروح الباحث العلمي لم تغب عنه في مقالاته العميقة أو الخفيفة؛ حيث كثيرًا ما يستدعي نصوصًا من مجلاَّت وصحف مرَّت عليها سنوات، حتى إن أصحاب الكلام أنفسهم ربما لا يتذكرونه، ونجد الدكتور جابر يستدعي نصوصًا من الماضي؛ ليضعها جنبًا إلى جنب مع الحاضر، فتُظهر المقارنة تصريحاتٍ زائفةً لمسئول من الثقلاء أو وعودًا وهمية لكبير من الكبراء أو كذبًا صراحًا لكاتب من الأُجراء.. إلخ.

 

أما الدكتور جابر قميحة الإنسان فالحديث عنه لا ينقطع، ولولا أني أعلم أن هناك أشياء إن ذكرتها فسوف يغضب منها لذكرت ما أعلم مما رأيته، وما أعلم مما رواه الثقات القريبون منه، لكن يمكن إيجاز السمات الإنسانية التي لمستها عن قُرب في الدكتور جابر في أن لديه قبولاً يجذب المحيطين به إليه، وتواضعًا يتآزَّر مع القبول؛ ليضفي على شخصه الكريم محبةً من عند الله، فهو يتصل بتلاميذه؛ ليطمئن عليهم، حتى لو قصَّروا هم في السؤال عنه، بالإضافة إلى صفات الوفاء والكرم، إنه رجل من الزمن الجميل؛ حيث لا مكانَ بين الناس إلا للودِّ والرحمة والرفق والتواصل والكلمة الحسنى.

 

ولا أنسى أبدًا أنه عند مناقشتي للدكتوراه غلبت إرادتُهُ سطوة المرض، وحضر مُلبِّيًا دعوة تلميذٍ من تلاميذه بصحبة نجله الأكبر م. ياسر، قبل كل المدعوين من الأهل والأصدقاء، بل قبلي أنا صاحب المناقشة.

 

لو أنفقت عمري في سرد مناقبه والحديث عن مآثره فلن أوفيه حقه، فرضي الله عنه، وأصلح باله، ورزقه الصحة والعافية.

----------

* شاعر وناقد مصري.