مدخل

لم يكن الذي وقع في يوم الخامس والعشرين من يناير عام 2011م وأبهر الجميع حدثًا عاديًّا، ولن يكون في أي تحليل ولا في أية قرأة ولا في أي تاريخ حدثًا غائبًا أو يسيرًا؛ لأنها ثورة شعب خرجت من رحم النبل.

 

ومن آكد حقوقها على أبنائها أن يديموا قراءتها وتحليلها، واستلهام نقاط القوة فيها، ودراسة أبعادها المختلفة.

ومن الواجب أن يقف الجميع، كلٌّ في مجال اختصاصه، متأملين أحداثها وأفكارها ومساراتها، تأريخًا، وتحليلاً، واستثمارًا، وصيانةً، واستلهامًا للمستقبل.

 

في هذا السياق يبدو معجم شعارات الثورة فخرنا مكتنزًا بالحكمة والوعي النبيل، والتَّحَضُّر البالغ في الدرجة والنوع والظهور.

 

والمعجم ليس مجرد قائمة مشروحة إلا في التصور العابر السطحي، ولكنه نظام وخطاب موسع، ونص يحوي داخله تاريخًا حاملاً للأفكار والروح التي سكنت ثقافة اللسان الذي ينطق به وعنه.

 

وفيما يلي محاولة أولية للدلالة على ما يمكن أن يسهم به درس شعارات الثورة بما هي مخزن مُعبِّر عن أفكارها وطموحاتها، وبما هي معبرة عن مطالب الذين فجروها وغذوها بدمائهم وتضحياتهم.

 

منهجية ممتدة في عمق التاريخ

كان من أسلحة هذه الثورة استصحابها جهازًا إعلاميًّا شديد البساطة، شديد القدرة على حمل مضامينها ورسائلها في وقت واحد، تمثَّلت أدوات هذا الجهاز الإعلامي فيما رفعه أبناؤها من شعارات لخَّصت مطالبها وأفكارها.

 

ومما يلزم ابتداء ضرورة جمع هذه الشعارات من مظانها ومصادرها المختلفة من أرض الميدان في البقاع المختلفة أو مما رصدته وسجلته الأوعية المعلوماتية المختلفة، وما صاحب هذه الشعارات من افتتاحيات الصحف والفضائيات المتنوعة.

 

ويقترح هذا المقال أن تُرتب هذه الشعارت وفق المنهجية الهجائية الألفبائية على أوائل الشعارات، وتحرير مجموعة من المعلومات تحت كلِّ شعار بما هو مدخل معجمي يُقترح أن تضمن هذه المعلومات تاريخ إطلاق هذا الشعار أو ذاك، ومعناه العام الذي أراده وقصده الثوار.

 

وهذه المنهجية المقترحة قديمة معروفة في تاريخ المعجمية العربية في فرع التصنيف المعجمي، فقد انتهجته مجموعة كبيرة من معاجم الأمثال والحكم العربية التراثية، ومما ورد إلينا من ذلك مع تقدير الاختلافات في بعض عناصر الترتيب الداخلي:

أ- الأمثال لزيد بن رفاعة، توفي سنة 373هـ.

ب- جمهرة الأمثال للعسكري، توفي 400هـ.

ج- مجمع الأمثال للميداني، توفي سنة 514هـ.

د- المستقصي في الأمثال للزمخشري، توفي سنة 538هـ.

هـ- فرائد الجرائد في الأمثال للخوبي، توفي سنة 549هـ.

و- تمثال الأمثال للعبدري، توفي سنة 837هـ.

ز- زهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي، توفي في القرن 11هـ.

 

وقد استمر تطبيق هذه المنهجية التيسيرية حاكمًا في بناء المعاجم التي جمعت الأمثال والتعابير السائرة حتى العصر الحديث، وهو ما نجد مثالاً عليه في مثل:

أ- معجم الأمثال العامية: مشروحة ومرتبة حسب الحرف الأول من المثل لأحمد تيمور باشا، توفي سنة 1348هـ =  1930م.

ب- معجم الكنايات العامية لأحمد تيمور باشا، توفي سنة 1348هـ = 1930م.

 

(2)

معجم شعارات الثورة: خريطة الوظائف وآفاق الاستثمار

وهذه القائمة التي تمثِّل شعارات الثورة المصرية المعاصرة تفتح الباب واسعًا لما يمكن أن تقدمه من إسهام في خدمة الحياة المصرية في المجالات المختلفة، من خلال فحص عدد من الوظائف الممكن ظهورها والعناية بها من وراء جمع هذا المعجم المهم.

 

ولعلَّ أهم الوظائف الممكن الوقوف أمامها سعيًا إلى فتح آفاق جديدة لاستثمارها  واستلهامها تتمثل فيما يلي:

أولاً- الوظيفية التأريخية

ونقصد بهذه الوظيفة قدرة هذا المعجم عن طريق فحص شعاراته على أن تكون بمثابة وثيقة تُسهم في التأريخ للأحداث المصرية التي فجَّرت هذه الثورة وصاحبتها، ذلك أن القول بأن حقبة ما قبل الثورة اتسمت تاريخيًّا بظهور علامات كثيرة دالة على الفساد السياسي والمالي والأخلاقي يبدو مدعومًا بعدد من شعارات هذه الثورة من مثل:

- ارحل ارحل  يا جبان.. يا عميل الأمريكان.

- يا سوزان قولي للبيه.. كيلو العدس بعشره جنيه

- يا مبارك يا طيار.. جبت منين 70 مليار

- أحمد عز باطل، مجلس الشعب باطل، أحمد شفيق باطل

 

وهو ما يعمل على حفظ نواتج الثورة وظروف اندلاعها.

 

ثانيًا: الوظيفة الحضارية

وتعكس هذه الشعارات ابتداءً مجموعةً مهمةً من الدلالات يمكن أن تعكس ما تواتر عليه المتابعون لأعمال ثوار مصر، مِن وصف الثوار بالمتحضرين، وهو ما يمكن أن نلمسه جليًّا في مجموعة العلامات التالية:

1- الوعي الجمعي الذكي بكليات الأمور والمطالب، وهو وعي ناتج عن رصيد من القدرة الكامنة، والوعي الكامن الذي أنتجه خدمة فقه المقاصد من خلال كتابات رواد الصحوة الإسلامية منذ زمن محمد عبده، والأفغاني، ومحب الدين الخطيب، وحسن البنا، وسيد قطب، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وهو ما يمكن أن نلمسه في الشعارات التالية:

- الشعب يريد إسقاط النظام

- ثورة ثورة حتى النصر.. ثورة في كل شوارع مصر

- الشعب خلاص أسقط النظام

- لا مبارك ولا سليمان.. دول عملاء الأمريكان

- تغيير حرية.. عدالة اجتماعية

 

2- المنظومة الأخلاقية الراقية

وهو أمرٌ ظاهرٌ جليٌّ في كلِّ شعارات الثورة، ذلك أنه لم يحدث أن جاءت شعارات غير أخلاقية، وهو ما يعكس عمل المنظومة الأخلاقية للثقافة الإسلامية المتجزرة في التكوين العقلي والوجداني لعموم الجماهير المصرية، فضلاً عما ترسَّب في الشخصية المصرية على امتداد التاريخ مِن أثر الفعل الحضاري الممتد زمنيًّا، وهو رصيد الحضارة الكامن الذي يُستدعى عند اللزوم، وهو ما صبغ الشخصية المصرية بالتسامح والتعاطف مع القيم النبيلة، وهو ما ظهر في مثل الشعارات التالية:

- سلمية.. سلمية

- مصر يا أم.. ولادك أهم

 

دول علشانك.. شالو الهم

وقد عكست مجموعة من هذه الشعارات ما سكن في الضمير المصري تعاطفه مع مفاهيم الوحدة، وحنينه وجدبه على مفاهيم الشهادة، وهو واحد من ملامح هذه الأبعاد الحضارية التي فعلت فعلها في تاريخ بناء الذات المصرية، وهو ما تبرهن عليه أمثال الشعارات التالية:

- إحنا مين إحنا مين.. إحنا كل المصريين

- الجيش والشعب.. إيد واحدة

- يا مبارك يا خسيس.. دم المصري مش رخيص

 

كما عكست مجموعة أخرى من الشعارات رفض المصريين للتبعية بمفهومها الواسع، وهو أثرٌ مهمٌّ جدًّا من آثار استقلال المصريين وارتباطهم بالفكرة الإسلامية العامة التي تبني نموذجًا متمايزًا عن غيره اعتقاديًّا وعباديًّا وأخلاقيًّا، وهو ما تجليه أمثال الشعارات التالية:

- ارحل ارحل  يا جبان.. يا عميل الأمريكان

- لا مبارك ولا سليمان.. دول عملاء الأمريكان

 

كما أظهرت الشعارات نفور المصريين الطبيعي من الظلم والاستبداد، وكراهية رموزه وعلاماته، وهو ملمح حضاري دال على حيوية الشعوب، ونقاء فطرتها الجماعية، وهو ما أبرزته الشعارات التالية:

- يا جمال قول لأبوك.. الشعب المصري بيكرهوك

- قالوا بيقول ست شهور.. خد راتبهم روح وغور

 

ومن الملامح الحضارية المهمة جدًّا التي أظهرتها وكشفت عنها بعض الشعارات وهم ما أسميه وعي المصريين بالمؤسسات الوطنية الداعمة لنضاله وجهاده وحضارته على ما تمثَّل في شعارات التعاطف مع مؤسسة الجيش الوطني في مثل:

- الجيش والشعب.. إيد واحدة

- واحد اتنين.. الجيش المصري فين

 

ثالثًا: الوظيفة اللسانية والبلاغية

ومن الوظائف المهمة جدًّا في هذا السياق هو ما أكدته شعارات الثورة من قدرة اللسان العربي الذاتية على التعاطي مع أفكارها وقضاياها الكلية في عبقرية تعبيرية جمالية ظاهرة.

 

لقد تنبَّه الثوار في صياغة شعارات الثورة إلى ما سكن اللغة العربية من قدرة تعبيرية وموسيقية وتصويرية كشفت عن بعض ملامح عبقرية اللسان العربي مما تكشفه العلاقات التالية:

- وظيفة السجع في تثوير اللغة ودعم بلاغة الرفض وبلاغة التحريض وبلاغة الاحتجاج.

- كثافة استعمال حروف المد واللين بما هي مخزن للنغمة الصوتية المرتفعة الذي يتيح لها في أجواء الثورة الوصول سمعيًّا لعدد كبير من الجماهير.

- كثافة استعمال الأصوات المجهورة بما هي ذات قمم إسماعية عالية.

- كثافة استعمال الأصوات الانفجارية والتكرارية والصفيرية للغرض نفسه.

 

كما ظهرت بعض التقنيات المعرفية المهمة التي تدل على روح اللسان العربي الساعي نحو الحرص على الوضوح والتفهيم؛ لدرجة أن الوعي الثوري تنبه لاستعمال تقنية المعجم نفسه للتواصل مع أفكار الثورة والتعبير عنها، وتأمل الشعار التالي دال على أقرره:

- ارحل يعني إمشي.. ولا ما بتفهمشي

 

وهذا الشعار في تصحيحه يعكس تقنية معجمية داخلة تتمثل في المدخل اللفظ (ارحل) ثم في شرحه والتعليق على معناه (يعني إمشي)

 

على ما يسكنها كذلك من روح مرحة ظاهرة.

 

ومجموع هذه العلامات والملامح تقود إلى إعادة فحص قدرة اللسان العربي البديعة في حمل المضامين والأفكار بطاقات تعبيرية وفنية وجمالية.

 

وهي أبعاد تقرر بوضوح أن قدرة العربية تتجاوز بمراحل بارزة آفاق شعرية وفنية وجمالية مؤثرة ومحرضة معًا.

 

هذا وجه واحد مما يمكن استثماره في مثل هذه الثورة الجبارة، وعاشت مصر عزيزة أبية.

-----------

* كلية الأداب- جامعة المنوفية.