الإنسان أحد ثلاثة:

مستكبر عن العبادة

عابد له قصد غير وجه الله

متجرد خالص لوجه الله

الأول: مستكبر طغت نفسه فانصرف عن ربه مع إسباغه النعم عليه؛ فهو داخل في النار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: من الآية 60).

 

أي أذلاء مقهورين؛ لأنه جل شأنه ندبهم إلى عبادته ودعائه، قال أول الآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: من الآية 60).

 

فلما استكبروا عن ذلك كان هذا جزاءهم.

 

والناس كل الناس راجعون إلى ربهم يوم القيامة، فكيف يتصور حال المستكبرين هناك، قال تعالى يوضِّح لنا صورتهم: ﴿وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: من الآية 172).

 

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (173)﴾ (النساء).

 

وهم محرومون لا يهديهم ربهم إلى طريق هدى ما داموا سادرين في غيهم قال تعالى:

﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146)﴾ (الأعراف).

 

الثاني: عابد له قواصد أخرى، غير الإخلاص لوجه الله، أو شكره على أنعمه، أو رجاء جنته، وخوف ناره، وهو مفسد لها بانصرافه عن قصد التجرد لوجهه وحده سبحانه وتعالى.

 

أولئك: عبدوا بقصد تجريد النفس وتصفيتها من الشواغل؛ لتكون أهلاً للاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ولتكون أهلاً لنيل الكرامات والحصول على العلم اللدني.

 

وأولئك: أنكر عليهم الراسخون في العلم وقالوا: إنه خرج عن التجرد لوجهه سبحانه.. وقالوا: إنه داخل تحت قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ (الحج: من الآية 11).

 

وحال هؤلاء: إن وصلوا فرحوا وصار ما وصلوا إليه هو قصدهم، فيقوى عندهم الاستشراق إلى مزيد، ويضعف الاستشراق لرضا الله فيهلكون.

 

وقف أحدهم مع حديث ذكره ابن رزين في كتابه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو: (من أخلص لله أربعين يومًا تفجَّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)، فلما أتم الأربعين، ولم يجد حكمة تنكب الطريق، وقد قيل عنه: "إنه أخلص للحكمة ولم يخلص لله".

 

الثالث: عابد جرَّد عبادته لوجه ربه، وهو المستفيد من عباده في الدنيا والآخرة ﴿.... فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه).

 

وأولئك على درجتين، إحداهما أرقى من الأخرى:

فالدرجة الأولى وهي الأقل؛ من يعبد ربه رجاء الجنة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)﴾ (البروج).

 

وهم في نظر العارفين الواصلين أجراء لا يعلمون إلا في تقابله الأجر، فإن قيل: لم يقبضوا أجرًا في الدنيا على الظاهرة، لقيل: إن مما يميزهم ويرفع من قدرهم ثقتهم بوعد ربهم سبحانه.
والدرجة الثانية وهي الأعلى.

 

فهي حال من أحب ربه لذاته، حبًّا فلق منه الكبد، فكابد الشوق آلامه، فأقض ذلك مضجعه، فأسهر عينه، وبكى من لوعة الاشتياق، يرجو لحظة رضا من رب الأرباب..

 

وهو على حال من الرجاء تارة والخوف أخرى لا يطمئن إلى هذه إلا أفزعته تلك، فهب واقفًا بباب الرحمن يدعوه ويرجوه.

 

أولئك وأمثالهم لهم أحوال.. يرقبون فيها حالاً من بعد حال ورتبة من فوق رتبة حال رؤية الحق، وحال قرار العين بأنس الرب، وحال الاحتياج والفقر الذي يلزم المحتاج الفقير بالباب.

 

1- أما حالهم مع رؤية الحق، فهم أصحاب فطر سليمة وعرفوا..

سواء كان علمهم من لزوم قراءة كتاب الله المقروء، أو المنظور يتأملون، ويتدبرون، أو كانوا من أهل مدارس العلم كما نرى من أهل الشرق والغرب الذين أتيحت لهم فرص البحث والتنقيب، أولئك حين يصدقون مع أنفسهم، ويستجيبون لفطرهم السليمة يرون علومهم شذرات من إشارات القرآن الكريم مثال:

كالذي سمع من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ (النور: من الآية 35)، فخر في الحال ساجدًا لله مطيعًا يشهر إسلامه؛ لأنه يعلم من دراسته أنه أحسن أنواع الزيتون وأصفاه زيتًا ما تم غرسه بين جدارين يحجبان شمس الشروق والغروب أن تطل عليه.

 

هؤلاء وأولئك يعيشون حقيقة قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)﴾ (سبأ).

 

2- وحال قرار العين بأنس الرب:

حين يرون الحق واضحًا فيما أنزل من عند الله تعالى، وحين يسلمون له منقادين يضيء ذلك قلوبهم، فتنير وتنبت فيها شجرة إيمان قائمة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتحمل أفرعها أطيب الثمرات، كلم طيب على اللسان، وعمل صالح على الجوارح وصدق الله العظيم: ﴿.... ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم)، ﴿وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: من الآية 25).

 

وهؤلاء تقر بهم عيون كل الخلائق وتفرح.. الحفظة عن اليمين والشمال بهم يغتبطون، ولهم يفرحون، وملائكة الرحمة في طرقاتهم يلقونهم يحيون، وأماكن سجودهم من الأرض لهم يشهدون، وعلى فراقهم يحزنون، ولله در القائل: (من قرت عينه بالله قرت عيون كل الخلق بالنظر إليه).

 

3- حال المحتاج الفقير إليه سبحانه:

والذين يغرس الإيمان في قلوبهم شجرًا طيب الثمرات هم الذين يدركون حقيقة ألوهية ربهم، فيخشعون وربوبية ربهم فيركعون، ويسجدون ويخرجون من خط أنفسهم منه وإليه هو خالقهم ورازقهم وهاديهم على صراط.

 

وأولئك: ينكرون أولهم تراب ونطفة، ويعلمون آخرتهم جيفة عفنة، وحقيقة وجودهم على الصورة المحسنة رب قدير هو أول قبل كل شيء، وآخر بعد أي شيء، وظاهر على كل شيء، وباطن لا يكون دونه شيء ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)﴾ (الحديد).

 

هم له جل شأنه مفتقرون يلوذون به لواذ العائذ المستجير وهم على وصال دائم مخبت منيب.

 نتيجة:

وما وصل الواصلون إلا بحسن اتباع نبيهم رسول ربهم صلى الله وسلم إمام العارفين، وقدوة الواصلين من اقتدى به سلك، ومن خالفه تتكبت به الطريق، قال الجنيد كل الطرق مسدودة إلا طريق من اقتفى أثر النبي محمد، وفي الحديث القدسي: "وعزتي وجلالي لو أتوني كل الطرق، واستفتحوا من كل باب، لما فتحت لهم حتى يدخلوا من خلفك".

صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه وسلم.