إن من الأمور التي تستحق كثير عناية من العلماء والدعاة والمصلحين، الحرية.. لأن الثورة المباركة قامت من أجل تحقيقها، والإسلام أكد ذلك في قول ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما دخل على كسرى ملك الفرس فقال له كسرى: "ما الذي جاء بكم؟؟"، فقال: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة؛ ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام.." دوت هذه الكلمات في إيوان كسرى، وانطلقت في آفاق الكون نبَّهت الناس إلى العدل والتواضع والقيم الرفيعة التي يدعو إليها الإسلام؛ فتناقلوها وتناقلها الناس بينهم، فكانت الكلمة.

 

هي مقدمة الفتح الإسلامي التي هزت إيوان كسرى وفتحت فارس.

 

لقد جعل الإسلام "الحرية" حقًّا من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخليًّا، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض.

 

مفهوم الحرية:

يقصد بالحرية قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته الذاتية، بعيدًا عن سيطرة الآخرين.

 

هل "الحرية" تعني التحرر من كل قيد؟

الإسلام عندما كفل الحرية، ودعا إلى تحقيقها، وترسيخها في مجتمعاته، بل بين أفراده وجماعاته، وعندما كفلها لغير أتباعه بحكم الاختلاط والتعامل المتبادل، لم يترك لها العنان، ولم يرد بها الفوضى، ولكنه وضع لها ضوابط، تتمثل هذه الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي:

 

أ- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.

ب- ألا تفوت حقوقًا أعظم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.

ج - ألا تؤدِّي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.

 

وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة، كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد، ولكنه وازن بينهما، فأعطى كلاًّ منهما حقه.

 

أنواع الحرية:

- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية.

- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية.

الصنف الأول: الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية، وهذا الصنف يشمل الآتي:

أ- الحرية الشخصية: والمقصود بها أن يكون الإنسان قادرًا على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمنًا من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، على ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره.

 

- والحرية الشخصية تتضمن شيئين:

(1) حرمة الذات: وقد عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان، وعلو منزلته، فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره، قال تعالى:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: من الآية 70)، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30)) (البقرة) وميزه بالعقل والتفكير تكريمًا له وتعظيمًا لشأنه، وتفضيلاً له على سائر مخلوقاته، وفي هذا ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكان حتى إنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: من الآية 32) وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أيًّا كان الشخص رجلاً أو امرأة، حاكمًا أو محكومًا، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين.

2) تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد وأمنه في نفسه وعرضه وماله:

فوضع الإسلام ضوابط كثيرة تضمن حفظ هذا الحق، ومن صور ذلك:حد القصاص للحفاظ على الأنفس، وردع كل متطاول أو معتدٍ على هذا الحق، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾ (البقرة)، ثم أكد على هذه الحرمة، فجعل القصاص في الاعتداء على الجوارح، فقال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: من الآية 45)
وأكد نبي الإسلام هذا الحق وهذه الحرمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".

 

ومنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الولاة من أن يضربوا أحدًا إلا أن يكون بحكم قاضٍ عادلٍ، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم، بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحدًا من الرعية، ووضع عقوبة على مَن يخالف ذلك.

 

ب- حرية التنقل: والمقصود بها أن يكون الإنسان حرًّا في السفر والتنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)﴾ (الملك).

 

- ولا يمنع الإنسان من التنقل إلا لمصلحة راجحة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرِيدُ الشَّامَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ أَنْ يَمْضِيَ، فَقَالُوا: خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَرَى هَذَا الرَّأْيَ أَنْ نَخْتَارَ دَارَ الْبَلاءِ عَلَى دَارِ الْعَافِيَةِ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ غَائِبًا، فَجَاءَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي عِلْمًا مِنْ هَذَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِيبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ لَوْ رَعَى الْجَدْبَةَ، وَتَرَكَ الْخَصْبَةَ أَكُنْتَ مُعَجِّزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا؛ فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَحِلُّ، أَوْ قَالَ: الْمَنْزِلُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (إسناده متصل، رجاله ثقات، على شرط الإمام مسلم).

 

- ولأجل تمكين الناس من التمتع بحرية التنقل حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، وأنزل عقوبة شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل والنهب والسرقة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)﴾ (المائدة)، ولتأكيد حسن استعمال الطرق وتأمينها نهى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن الجلوس فيها، فعَن أَبِي سعيد الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:"إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ"
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا
نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ
حَقَّهُ
"، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى
وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ
الْمُنْكَر
" متفق عليه.

 

 فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها من السفر والتنقل والمرور، وأي استعمال لغير هدفها محظور لا سيما إذا أدَّى إلى الاعتداء على الآمنين، ولأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا ألمَّ به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة، ولو كان غنيًّا في موطنه.

 

ج- حرية المأوى والمسكن: فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه، فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته.

 

روى أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْل ظَهْر فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْر لَهُ, وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْل زَاد فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ, قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَاف الْمَال كَمَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْل" صحيح مسلم.

 

 وقد استدل الإمام ابن حزم بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة والفيء عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حرَّ الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، والدولة هي التي تجمع هذه الأموال وتوزعها على المحتاجين، ولا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم؛ لأن هذا الحق يشترك فيه جميع الناس كاشتراكهم في الماء والنار؛ فيضمن ذلك لكل فرد من أفراد الدولة بغض النظر عن دينه.

 

فإذا ما ملك الإنسان مأوى ومسكنًا، فلا يجوز لأحد، أن يقتحم مأواه، أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكمًا أعلى- رئيس دولة- ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)﴾ (النور)، وإذا نهي عن دخول البيوت بغير إذن أصحابها، فالاستيلاء عليها أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك لمصلحة الجماعة، بعد ضمان البيت ضمانًا عادلاً، وهذه المصلحة قد تكون بتوسعة مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك، وقد أجلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أهل نجران، وعوضهم بالكوفة.

 

- ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، فقال تعالى : ﴿وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ (الحجرات: من الآية 12)، وذلك لأن في التجسس انتهاكًا لحقوق الغير والتي منها: حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره، بل وبالغ الإسلام في تقرير حرية المسكن بأن أسقط القصاص والدية عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه ونحوه، يدل على ذلك حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه" رواه النسائي والبيهقي، وهدرت: أي لا ضمان على صاحب البيت، فعين الإنسان- رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء عليها وتغليظ الدية فيها- لكنها هنا أهدرت ديتها بسبب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق الغير.

 

د- حرية التملك:

لقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، وجعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، ورتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، وصيانته له عن النهب والسرقة، والاختلاس ونحوه، ووضع عقوبات رادعة لِمَن اعتدى عليه، ضمانًا لهذا الحق، ودفعًا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع.

 

كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضًا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء والإجارة والرهن والهبة والوصية وغيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقًا من غير قيد، ولكنه وضع له قيودًا كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا والغش والرشوة والاحتكار ونحو ذلك مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة، وهذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل والمرأة قال الله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ (النساء: من الآية 32).

 

الصنف الثاني: الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية، وهذا الصنف يشمل الآتي:

أ- حرية الاعتقاد: ويقصد بها اختيار الإنسان لدين يريده بيقين، وعقيدة يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك، فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، ويجعل المكره مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه وإذا تأملنا قول الله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الآية 256) نجد أن الإسلام رفع الإكراه عن المرء في عقيدته، وأقر أن الفكر والاعتقاد لا بدَّ أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، أو تخويفه، أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكرة باطل ومرفوض؛ لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، ولا يثبتها في الضمير، لذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾ (يونس) و قال أيضًا ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾ (الغاشية)، كل هذه الآيات وغيرها، تنفي الإكراه في الدين، وتثبت حق الإنسان في اختيار دينه الذي يؤمن به.

 

هذا ويترتب على حرية الاعتقاد ما يلي:

(1) إجراء الحوار والنقاش الديني، وذلك بتبادل الرأي والاستفسار في المسائل الملتبسة، التي لم تتضح للإنسان، وكانت داخلة تحت عقله وفهمه- أي ليست من مسائل الغيب- وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة ورضى وطواعية، بل إن إبراهيم- أبا الأنبياء عليه السلام- حاور ربه في قضية "الإحياء والإماتة"؛ ليزداد قلبه قناعة ويقينًا، وذلك فيما حكاه القرآن لنا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)﴾ (البقرة)، بل إن في حديث جبريل عليه السلام، الذي استفسر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "الإسلام" و"الإيمان" و"الإحسان"و"علامات الساعة" دليل واضح على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية، سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم وبين أصحاب الأديان الأخرى؛ بهدف الوصول إلى الحقائق وتصديقها، لا بقصد إثارة الشبه والشكوك والخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة؛ لأنها لا تكشف الحقائق التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.

 

(2)  ممارسة الشعائر الدينية، وذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية، دون انتقاد أو استهزاء، أو تخويف أو تهديد، ولعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة- أصحاب الديانات الأخرى- من دواعي فخره واعتزازه، وسماحته، فمنذ نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يثرب- المدينة المنورة- أعطى اليهود عهد أمان، يقتضي فسح المجال لهم أمام دينهم وعقيدتهم، وإقامة شعائرهم في أماكن عبادتهم، ثم سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون، فكتب عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- لأهل إيلياء- القدس- معاهدة جاء فيها: "هذا ما أعطاه عمر أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا على أنفسهم، ولكنائسهم وصلبانهم، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من غيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم"، وها هم علماء أوروبا اليوم، يشهدون لسماحة الإسلام، ويقرون له بذلك في كتبهم، قال "ميشود" في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية): "إن الإسلام الذي أمر بالجهاد، متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وهو قد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وقد حرم قتل الرهبان-على الخصوص- لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود عندما دخلوها"، أي مدينة القدس.

 

ب- حرية الرأي: وتسمى أيضًا بحرية التفكير والتعبير، وقد جوز الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، والظواهر المختلفة، ويحاول تجربتها بعقله، واستخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته ومدى قابليته للتفاعل والتأثير، ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر وطول التفكير.

 

هذا ولإبداء الرأي عدة مجالات وغايات منها:

(1) إظهار الحق وإخماد الباطل، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران)، فالمعروف هو سبيل الحق، ولذلك طلب من المؤمن أن يظهره، كما أن المنكر هو سبيل الباطل، ولذلك طلب من المؤمن أن يخمده.

 

 (2) منع الظلم ونشر العدل، وهذا ما فعله الأنبياء والرسل إزاء الملوك والحكام ويفعله العلماء والمفكرون مع القضاة والسلاطين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

 

(3) وقد يكون إبداء الرأي، بتقديم الأمور حسب أهميتها وأولويتها، وهذا أكثر ما يقوم به أهل الشورى في أكثر من بلد، وأكثر من مجتمع، وقد يكون بأي أسلوب آخر، إذ من الصعب حصرها، ولكنها لا تعني أن يخوض الإنسان فيما يضره، ويعود عليه بالفساد، بل لا بدَّ أن تكون في إطار الخير والمصلحة إذ الإسلام بتقريره حرية الرأي، إنما أراد من الإنسان أن يفكر كيف يصعد، لا كيف ينزل، كيف يبني نفسه وأمته، لا كيف يهدمها سعيًا وراء شهوتها وهواها.

 

وباستعراض التاريخ الإسلامي، نجد أن "حرية الرأي" طبقت تطبيقًا رائعًا، منذ عصر النبوة، فهذا الصحابي الجليل، حباب بن المنذر، أبدى رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر، على غير ما كان قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه، وأبدى بعض الصحابة رأيهم في حادثة الإفك، وأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بتطليق زوجته عائشة- رضي الله عنها- إلا أن القرآن برأها، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي كانوا يبدون فيها آراءهم.

 

ج- حرية التعلم: طلب العلم والمعرفة حق كفله الإسلام للفرد، ومنحه حرية السعي في تحصيله، ولم يقيد شيئًا منه، مما تعلقت به مصلحة المسلمين دينًا ودنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، وسلوك السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، وإنما تتحقق به مضرة ومفسدة، فهذا منهي عنه، ومحرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر والكهانة، ونحو ذلك.

 

 ولأهمية العلم والمعرفة في الحياة، نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾ (العلق)، والقراءة هي مفتاح العلم، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونصب عليه الكفار الحرب، وانتصر المسلمون وأسروا من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم، تعليم القراءة والكتابة لعشرة من صبيان المدينة وهذا من فضائل الإسلام الكبرى؛ حيث فتح للناس أبواب المعرفة، وحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وكره لهم القعود عن العلم والتخلف عن قافلة الحضارة والرفاهية والازدهار.

 

 ومن أجل ذلك كان على الدولة الإسلامية، أن تيسر سبل التعليم للناس كافة، وتضمن لكل فرد حقه في ذلك؛ لأن هذا الحق مضمون لكل فرد من رعاياها كسائر الحقوق الأخرى.

 

د- الحرية السياسية: ويقصد بها حقُّ الإنسان في اختيار سلطة الحكم وانتخابها، ومراقبة أدائها، ومحاسبتها ونقدها، وعزلها إذا انحرفت عن منهج الله وشرعه، وحولت ظهرها عن جادة الحق والصلاح.

 

كما أنه يحق له المشاركة في القيام بأعباء السلطة ووظائفها الكثيرة؛ لأن السلطة حقٌّ مشترك بين رعايا الدولة، و ليس حكرًا على أحد، أو وقفًا على فئة دون أخرى، واختيار الإنسان للسلطة قد يتم بنفسه، أو من ينوب عنه من أهل الحل والعقد وهم أهل الشورى، الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير من الأمور، منها: القيام بالاجتهاد فيما لا نص فيه، إذ الحاكم يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة والاختصاص من ذوي العلم والرأي، كما أنهم يوجهون الحاكم في التصرفات ذات الصفة العامة أو الدولية كإعلان الحرب أو الهدنة، أو إبرام معاهدة، أو تجميد علاقات، أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة، أو غير ذلك من التصرفات العامة، التي لا يقطع فيها برأي الواحد.

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم".

 

ومن هنا:

نستطيع أن نقول: إن شريعة الإسلام قد سبقت كل دعاة الحرية، ووضعت لها ضوابط حامية لها وراعية، فحرية الغرب لم تستطع أن تحمي المجتمع بمن يعيشون فيه من الاعتداء على الحقوق، ونهب وسلب الأموال، خير شاهد على ذلك، نسب الجريمة المرتفعة، والانهيار الاقتصادي الأخير، وسقوط النظام الشيوعي وانهياره وفشله في تحقيق السعادة المنشودة، واعتدائه على كلِّ القيم والحريات، والاعتداء على العفة والفضيلة، تحت مسمى الحرية المزعومة التي يروجون لها، هذا في كل دول الغرب والشرق الذين فهموا الحرية تحت مظلات بشرية.

 

هذه الحرية التى ينشدها، اليوم، دعاة العلمانية والماركسية والشيوعية وغيرهم... للأسف الشديد في مجتمعنا الإسلامي والعربي يريدون أن ينقلوا لنا تجارب وتقاليد عفنة أثبتت التجارب فشلها وعجزها عن تحقيق قيمة الحرية بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى.

 

آن الأوان لهؤلاء أن يفيقوا من غفلتهم وغفوتهم، إن كانوا يبغون الحق ويسعون للحصول عليه، ففي شريعة الإسلام بغيتهم وسعادتهم.

 

- ويبقى على أهل الإسلام ودعاته أن يُفَقِّهوا الناس بدينهم، ويحاوروا غيرهم ليدلوهم على خير الإسلام وهديه، وبيان قدرات الشريعة في كلِّ جوانبها، ومن ذلك الحرية.

- وعلى الدعاة والمصلحين: أن يبينوا حدود هذه الحرية، ويفرقوا بين الحرية المنضبطة، وبين الفوضى.

- هذا فهمنا للحرية.. وهذا نهج ديننا، وهذه ثقافتنا، فهل تجمعنا هذه المفاهيم، أم تفرقنا الأجندات.. وكل حزب بما لديه فرح ومتمسك؟!

 

وما أجمل ما قاله مطر في ذلك:

أخبرنا أستاذي يومًا   عن شيء يُدعى الحرية

فسألت الأستاذ بلطف   أن يتكلم بالعربية

ما هذا اللفظ وما تعني   وأية شيء حرية

هل هي مصطلح يوناني   عن بعض الحقب الزمنية

أم أشياء نستوردها   أو مصنوعات وطنية

فأجاب معلمنا حزنًا   وانساب الدمع بعفوية

قد أنسوكم كل التاريخ   وكل القيم العلوية

أسفي أن تخرج أجيال   لا تفهم معنى الحرية

لا تملك سيفًا أو قلمًا   لا تحمل فكرًا وهوية

وعلمت بموت مدرسنا   في الزنزانات الفردية

فنذرت لئن أحياني الله   وكانت بالعمر بقية

لأجوب الأرض بأكملها   بحثًا عن معنى الحرية

وقصدت نوادي أمتنا   أسألهم أين الحرية

فتواروا عن بصري هلعًا  وكأن قنابل ذرية

ستفجر فوق رءوسهم   وتبيد جميع البشرية

وأتى رجل يسعى وجلاً   وحكا همسًا وبسرية

لا تسأل عن هذا أبدا   أحرف كلماتك شوكية

هذا رجس هذا شرك   في دين دعاة الوطنية

ارحل فتراب مدينتنا   يحوي أذانًا مخفية

تسمع ما لا يحكى أبدًا   وترى قصصًا بوليسية

ويكون المجرم حضرتكم   والخائن حامي الشرعية

ويلفق حولك تدبير   لإطاحة نظم ثورية

وببيع روابي بلدتنا   يوم الحرب التحريرية

وبأشياء لا تعرفها   وخيانات للقومية

وتساق إلى ساحات الموت  عميلاً للصهيونية

واختتم النصح بقولته   وبلهجته التحذيرية

لم أسمع شيئًا لم أركم   ما كنا نذكر حرية

هل تفهم؟ عندي أطفال   كفراخ الطير البرية

وذهبت إلى شيخ   الإفتاء لأسأله ما الحرية

فتنحنح يصلح جبته   وأدار أداة مخفية

وتأمل في نظارته   ورمى بلحاظ نارية

واعتدل الشيخ بجلسته   وهذى باللغة الغجرية

اسمع يا ولدي معناها   وافهم أشكال الحرية

ما يمنح مولانا يومًا   بقرارات جمهورية

أو تأتي مكرمة عليا   في خطب العرش الملكية

والسير بضوء فتاوانا   والأحكام القانونية

ليست حقًا ليست ملكًا   فأصول الأمر عبودية

وكلامك فيه مغالطة   وبه رائحة كفرية

هل تحمل فكر أزارقة؟   أم تنحو نحو حرورية

يبدو لي أنك موتور   لا تفهم معنى الشرعية

واحذر من أن تعمل عقلاً  بالأفكار الشيطانية

واسمع إذ يلقي مولانا   خطبًا كبرى تاريخية

هي نور الدرب ومنهجه   وهي الأهداف الشعبية

ما عرف الباطل في القول  أو في فعل أو نظرية

من خالف مولانا سفهًا   فنهايته مأساوية

لو يأخذ مالك أجمعه   أو يسبي كل الذرية

أو يجلد ظهرك تسلية   وهوايات ترفيهية

أو يصلبنا ويقدمنا   قربانا للماسونية

فله ما أبقى أو أعطى   لا يسأل عن أي قضية

ذات السلطان مقدسة   فيها نفحات علوية

قد قرر هذا يا ولدي   في فقرات دستورية

لا تصغي يومًا يا ولدي   لجماعات إرهابية

لا علم لديهم لا فهمًا   لقضايا العصر الفقهية

يفتون كما أفتى قوم   من سبع قرون زمنية

تبعوا أقوال أئمتهم   من أحمد لابن الجوزية

أغرى فيهم بل ضللهم   سيدهم وابن التيمية

ونسوا أن الدنيا تجري   لا تبقى فيها الرجعية

والفقه يدور مع الأزمان   كمجموعتنا الشمسية

وزمان القوم مليكهم   فله منا ألف تحية

وكلامك معنا يا ولدي   أسمى درجات الحرية

فخرجت وعندي غثيان   وصداع الحمى التيفية

وسألت النفس أشيخ هو؟  أم من أتباع البوذية؟

أو سيخي أو وثني   من بعض الملل الهندية

أو قس يلبس صلبانًا   أم من أبناء يهودية

ونظرت ورائي كي أقرأ   لافتة الدار المحمية

كتبت بحروف بارزة   وبألوان فسفورية

هيئات الفتوى والعلما   وشيوخ النظم الأرضية

من مملكة ودويلات   وحكومات جمهورية

هل نحن نعيش زمان   التيه وذل نكوص ودنية

تهنا لما ما جاهدنا   ونسينا طعم الحرية

وتركنا طريق رسول الله  لسنن الأمم السبأية

قلنا لما أن نادونا   لجهاد النظم الكفرية

روحوا أنتم سنظل هنا   مع كل المتع الأرضية

فأتانا عقاب تخلفنا   وفقا للسنن الكونية

ووصلت إلى بلاد السكسون  لأسألهم عن حرية

فأجابوني: "سوري سوري  نو حرية نو حرية"

من أدراهم أني سوري   ألأني أطلب حرية؟!

وسألت المغتربين وقد   أفزعني فقد الحرية

هل منكم أحد يعرفها   أو يعرف وصفًا ومزية

فأجاب القوم بآهات   أيقظت همومًا منسية

لو رزقناها ما هاجرنا   وتركنا الشمس الشرقية

بل طالعنا معلومات   في المخطوطات الأثرية

أن الحرية أزهار   ولها رائحة عطرية

كانت تنمو بمدينتنا   وتفوح على الإنسانية

ترك الحراس رعايتها   فرعتها الحمر الوحشية

وسألت أديبًا من بلدي   هل تعرف معنى الحرية

فأجاب بآهات حرى   لا تسألنا نحن رعية

وذهبت إلى صناع الرأي   وأهل الصحف الدورية

ووكالات وإذاعات   ومحطات تلفازية

وظننت بأني لن أعدم   من يفهم معنى الحرية

فإذا بالهرج قد استعلى   وأقيمت سوق الحرية

وخطيب طالب فيشمم   أن تلغى القيم الدينية

وبمنع تداول أسماء   ومفاهيم إسلامية

وإباحة فجر وقمار   وفعال الأمم اللوطية

وتلاه امرأة مفزعة   كسنام الإبل البختية

وبصوت يقصف هدار   بقنابلها العنقودية

إن الحرية أن تشبع   نار الرغبات الجنسية

الحرية فعل سحاق   ترعاه النظم الدولية

هي حق الإجهاض عمومًا  وإبادة قيم خلقية

كي لا ينمو الإسلام ولا   تأتي قنبلة بشرية

هي خمر يجري وسفاح   ونواد الرقص الليلية

وأتى سيدهم مختتمًا   نادي أبطال الحرية

وتلي ما جاء الأمر به   من دار الحكم المحمية

أمر السلطان ومجلسه   بقرارات تشريعية

تقضي أن يقتل مليون   وإبادة مدن الرجعية

فليحفظ ربي مولانا   ويديم ظلال الحرية

فبمولانا وبحكمته   ستصان حياض الحرية

وهنالك أمر ملكي   وبضوء الفتوى الشرعية

يحمي الحرية من قوم   راموا قتلا للحرية

ويوجه أن تبنى سجون   في الصحراء الإقليمية

وبأن يستورد خبراء   في ضبط خصوم الحرية

يلغى في الدين سياسته   وسياستنا لا دينية

وليسجن من كان يعادي   قيم الدنيا العلمانية

أو قتلا يقطع دابرهم   ويبيد الزمر السلفية

حتى لا تبقى أطياف   لجماعات إسلامية

وكلام السيد راعينا   هو عمدتنا الدستورية

فوق القانون وفوق الحكم  وفوق الفتوى الشرعية

لا حرية لا حرية   لجميع دعاة الرجعية

لا حرية لا حرية   أبدًا لعدو الحرية

ناديت أيا أهل الإعلام   أهذا معنى الحرية؟

فأجابوني باستهزاء   وبصيحات هستيرية

الظن بأنك رجعي   أو من أعداء الحرية

وانشق الباب وداهمني   رهط بثياب الجندية

هذا لكما هذا ركلا   ذياك بأخمص روسية

اخرج خبر من تعرفهم   من أعداء للحرية

وذهبت بحالة إسعاف   للمستشفى التنصيرية

وأتت نحوي تمشي دلعًا   كطير الحجل البرية

تسأل في صوت مغناج   هل أنت جريح الحرية

أن تطلبها فالبس هذا   واسعد بنعيم الحرية

الويل لك ما تعطيني   أصليب يمنح حرية

يا وكر الشرك ومصنعه   في أمتنا الإسلامية

فخرجت وجرحي مفتوح   لأتابع أمر الحرية

وقصدت منظمة الأمم   ولجان العمل الدولية

وسألت مجالس أمتهم   والهيئات الإنسانية

ميثاقكم يعني شيئًا   بحقوق البشر الفطرية

أو أن هناك قرارات   عن حدِّ وشكل الحرية

قالوا الحرية أشكال   ولها أسس تفصيلية

حسب البلدان وحسب الدين  وحسب أساس الجنسية

والتعديلات بأكملها   والمعتقدات الحالية

ديني الإسلام وكذا وطني  وولدت بأرض عربية

حريتكم حددناها    بثلاث بنود أصلية

فوق الخازوق لكم علم   والحفل بيوم الحرية

ونشيد يظهر أنكم   أنهيتم شكل التبعية

ووقفت بمحراب    التاريخ لأسأله ما الحرية

فأجاب بصوت مهدود   يشكو أشكال الهمجية

إن الحرية أن تحيا   عبدًا لله بكلية

وفق القرآن ووفق الشرع  ووفق السنن النبوية

لا حسب قوانين طغاة   أو تشريعات أرضية

وضعت كي تحمي ظلامًا   وتعيد القيم الوثنية

الحرية ليست وثنًا   يغسل في الذكرى المئوية

ليست فحشا ليست فجرًا   أو أزياء باريسية

والحرية لا تعطيه   هيئات الكفر الأممية

ومحافل شرك وخداع   من تصميم الماسونية

هم سرقوها أفيعطوها؟   هذا جهل بالحرية

الحرية لا تستجدي   من سوق النقد الدولية

والحرية لا تمنحها   هيئات البر الخيرية

الحرية نبت ينمو   بدماء حرة وزكية

تؤخذ قسرًا تبنى صرحًا   يرعى بجهاد وحمية

يعلو بسهام ورماح   ورجال عشقوا الحرية

اسمع ما أملي يا ولدي   وارويه لكل البشرية

إن تغفل عن سيفك يومًا   فانس موضوع الحرية

فغيابك عن يوم لقاء   هو نصر للطاغوتية

والخوف لضيعة أموال   أو أملاك أو ذرية

طعن يفري كبدا حرة   ويمزق قلب الحرية

إلا إن خانوا أو لانوا   وأحبوا المتع الأرضية

يرضون بمكس الذل   ولم يعطوا مهرا للحرية

لن يرفع فرعون رأسا   إن كانت بالشعب بقية

فجيوش الطاغوت الكبرى  في وأد وقتل الحرية

من صنع شعوب غافلة   سمحت ببروز الهمجية

حادت عن منهج خالقها  لمناهج حكم وضعية

واتبعت شرعة إبليس   فكساها ذلاً ودنية

فقوى الطاغوت يساويها  وجل تحيا فيه رعية

لن يجمع فيقلب أبدًا   إيمان مع جبن طوية

 

أسال الله تعالى أن يحقق لنا مع نهدف إليه، وأن يبصرنا بالحق، وأن يجمع كلمتنا، ويوحد صفنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

-----------

* عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.