كل عام وأنتم بخير، أيها الأخوة الأعزاء، قصدت أن أتحدث إليكم ونحن على عتبات عام هجري جديد، نسأل الله تعالى أن يجعله عام خير ونصر وعزة وتمكين لأمتنا الإسلامية، وأن يحقق لكم جميعًا ما تتطلعون إليه.

 

يقبل علينا عامٌ هجري جديدٌ وقد تنسَّمت الأمة نسيم الحرية وعبير الكرامة، وباتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافها وإنجاز طموحات شعوبها.

 

عاشت أمتنا حينًا من الدهر تتألم صباح مساء، تتوجع من أحوالها وعجز أبنائها وتسلط حكامها وتخلف دولها حتى باتت مطمع أمم الأرض بعد ما كانت تنصر بالرعب مسيرة شهر لما لها من هيبة ورهبة في نفوس الآخرين، عاشت الأمة الإسلامية فترة من الزمن بعيدة عن مواقع التأثير ومراكز القيادة البشرية وتقدم عليها آخرون ممن عاشوا على أنوارها قرونًا طويلة.

 

وما فتئ الزمان يدور حتى        مضى بالمجد قومٌ آخـــرون

وآلمني  وآلم   كل  حــر       سؤال الدهر: أين المسلمون؟

 

وشاءت إرادة الله تعالى أن ينتهي الليل الطويل، وأن يبزغ الفجر الجديد، وأن تشرق شمس أمتنا على الوجود، وها نحن نرى العافية تدب في أركان وأوصال شعوب أمتنا، وبدأت تقف على قدميها، وتنهض من كبوتها، وتصحو من غفوتها، وتستأنف مسيرتها من جديد، وتقديري أن هذا العام سيشهد نهضة الأمة ونماءها، وقوتها وعافيتها.

 

ونحن نستقبل العام الهجري الجديد يطيب لي أن أتحدث عن شهر الله المحرم وعن يوم عاشوراء وهو يومٌ طيب من أيام الله تعالى.

 

شهر الله المحرم

 ومن يُمن الطالع أن الله تعالى افتتح السنة بشهر حرام (المحرم) وختمها بشهر حرام (ذي الحجة )، وليس هناك شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله تعالى من شهر المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه، كما قال الحسن البصري (رضي الله عنه). روى الإمام النسائي عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أي الليل خير؟، وأي الأشهر أفضل؟ فقال: "خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم".

 

ويسن فيه الصيام، بل صحت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صيام شهر المحرم أفضل الصيام بعد شهر رمضان، ويؤيد ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل".

 

فهذه دعوة لكل الأحباب الكرام أن يُحسنوا ضيافة هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم،وأن يكون سيرهم فيه سيرًا حسنًا، وأن يعمروه بالطاعة، ويزينوه بالعبادة، ويغتنموا فيه الحسنات، ويجتنبوا السيئات، وأن يحققوا في أنفسهم معاني الصلاح التي يدعون الناس إليها، حتى يمتلكوا إرادة الإصلاح والتغيير، وهم بذلك يسايرون السنن الكونية فالتغيير للأفضل والأصلح (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11).

 

يوم عاشوراء

وفي هذا الشهر الكريم يوم طيب مبارك كثير البركة وله منزلة عظيمة وحرمة قديمة وكانت الأنبياء تصومه، ولم يعرف يوم صامه الأنبياء مثل يوم عاشوراء، وما ذلك إلا لفضله ومكانته، فهو يوم التوبة، يوم تاب الله تعالى فيه على سيدنا آدم (عليه السلام)، وتاب الله تعالى فيه على قوم يونس (عليه السلام)، كما أشار إلى ذلك حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنّ النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن كنت صائمًا شهرًا بعد رمضان فصم المحرم؛ فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين" أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه (كتاب الصوم).

 

وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): ويتوب على آخرين؛ حث للناس وتشجيعهم على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء رجاء المغفرة والرحمة، وأملاً أن يتوب الله تعالى عليهم فيه كما تاب فيه على آخرين من قبلهم.

 

ندعو الله تعالى أن يتوب علينا جميعًا وأن يغفر لنا ويرحمنا، ونردد معًا:

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23)) (الأعراف).

 

وهو يوم النجاة الذي أنجى الله تعالى فيه سيدنا نوحًا عليه السلام من الغرق واستوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح عليه السلام؛ شكرًا لله تعالى على نجاته هو ومن معه من المؤمنين.

 

وهو اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه سيدنا موسى عليه السلام وقومه من فرعون ومَلئه، فصامه موسى وقومه شكرًا لله تعالى. روى الإمامان البخاري ومسلم (رضي الله عنهما) عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه".

 

وفي مسند الإمام أحمد (قالوا هذا اليوم الذي نجى الله- عزّ وجل- موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وأغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى عليهما السلام؛ شكرًا لله عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم، فأمر أصحابه بالصوم".

 

وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم عاشوراء كما أخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان" (رواه البخاري ومسلم).

 

وقد ثبت أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صامه وحرص على صومه، وأمر أصحابه بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان، وصامه كذلك بعد فرض صيام شهر رمضان، وأنه صامه حتى العام الذي مات فيه.

 

صوم يوم عاشوراء يُكفِّر ذنوب السنة الماضية

وحين سأله أصحابه عن فضل الصيام يوم عاشوراء قال: "يكفر السنة الماضية"، وفي رواية: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (رواه مسلم في صحيحه)، وبلغ حرص السلف الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عاشوراء أنهم كانوا يصومونه ولو كانوا على سفر، ومنهم عبد الله بن عباس والإمام الزهري التابعي وقال: رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت، ونص الإمام أحمد على أن يصام عاشوراء في السفر.

 الصورة غير متاحة

أسامة  جادو

 

مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاث؛ أكملها: أن يُصام يومٌ قبله ويوم بعده، وهو بذلك يصيب الأجر الأوفى إن شاء الله تعالى.

 

الثاني: أن يُصام قبله يوم أو بعده يوم، فيُصام التاسع والعاشر من شهر المحرم، أو يُصام العاشر والحادي عشر؛ وبذلك يحقق ما أراده النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من مخالفة اليهود وتحصل الإجابة لأمره بصيام عاشوراء وصيام يوم قبله أو بعده.

 

الثالث: الاقتصار على صيام يوم عاشوراء فقط. ويحصل بذلك على فضل صيام يوم عاشوراء الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يكفر السنة الماضية.

 

تعويد الأطفال وتمرينهم على صيام يوم عاشوراء

رضي الله عن أصحاب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا أسرع استجابة؛ للنداء وأكثر حرصًا على الطاعة والثواب، ولم يكتفوا بتلبية الأمر وحدهم بل حرصوا أن يشركوا أولادهم وصبيانهم في صيام يوم عاشوراء، روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الربيع بنت مُعوّذ رضي الله عنها قالت: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائمًا فليتمّ صومه ومن كان أصبح مفطرًا فليتمّ بقية يومه".

 

فكنا بعد ذلك نصومه ونُصوّمُ صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار"، وفي رواية:

ونصنع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يُتموا صومهم".

 

وفي هذا الحديث إشارة بليغة إلى أن الصحابة الكرام أدركوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة صوم يوم عاشوراء وفضله ومنزلته، وعلموا عظيم الجزاء المترتب عليه؛ لذلك حرصوا على صومه وأن يصوموا صغارهم وفي الحديث دلالة واضحة على مسئولية الأبوين عن تربية أبنائهم على الإيمان والطاعات والعبادات، وتعويدهم على ذلك وتمرينهم حتى يشبوا على الطاعة ويتعود عليها، ولا يجد مشاقة في فعلها حين يكبر، رغم أن الصغير غير مكلف حتى يبلغ الحلم؛ لكنه يُعود على الطاعة ويُمرن على العبادة فيعان عليها حين البلوغ والتكليف.

 

فهذا الحديث رسالة بينة إلى كل أب و أم يخشيان الله تعالى ويرغبان في نيل الثواب والأجر، ويطمعان أن يشب صغارهما على طاعة الله، يدك بيد طفلك إلى رحاب الطاعة، إلى المسجد، إلى العمل الصالح، اجعله يسير في ظلك وأنت ذاهب إلى ربك، وليكن حرصك على تربية صغار على الإيمان والطاعة كما تحرص على تربية الأجسام وتنمية العقول وتحصيل العلوم.

 

رتل معنا قول ربنا العظيم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)) (الفرقان).

 

تقبل الله منا ومنكم، وأعاننا جميعًا على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم الناس الخير.

------

* عضو مجلس الشعب السابق والمحامي بالنقض والدستورية العليا.