رسالة من: أ.د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، ومن والاه، وبعد..

تأخذنا الغيرة، وتستبدّ بنا الحمية، ويحرق قلوبنا الأسى والغضب؛ ونحن نرى ونسمع سهام التطاول والبذاءة، وألسنة السوء والفحش تمتد إلى أطهر إنسان، وأعظم نبي، أرسله الله للعالمين، خاتمًا للنبيين وإمامًا للمرسلين ورحمةً للعالمين، صاحب السيرة العطرة، والمنهج العظيم، والخلق الكريم.

 

ويزداد هذا الأسى ويتعاظم الحزن حينما ندرك أن العالم كله الآن في مسيس الحاجة لمن ينقذ البشرية كلها من طغيان المادية الجارفة، والانحلال الأخلاقي، والخواء الروحي، والظلم الاجتماعي، والتمييز العنصري، ومن اختلال القيم والموازين والأعراف والقوانين؛ مما أدى إلى تعاسة الإنسان وانتهاك حقوقه وامتهان كرامته، والتي وصلت إلى التعذيب والاغتصاب وسفك الدماء وقتل النساء والأطفال بلا وازع من دين أو خلق أو ضمير.

 

لا ينقذ البشرية الضائعة من كل هذا إلا وحي إلهي، وهدي نبي مرسل ومؤيد من السماء، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم هو ذاك النبي، خاتم النبيين، وآخر المرسلين من الله تعالى إلى كل العالمين.

 

لقد تتابع نزول الوحي وإرسال المرسلين- منذ بدء الخليقة ونزول آدم وحواء إلى الأرض- لهداية الناس إلى منهج الله تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاي فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123).

 

ولقد كثرت أعداد الأنبياء والمرسلين رحمةً من الله تعالى بخلقه، حتى إنه كان يوجد في بعض الأوقات أكثر من نبي في زمان واحد؛ لتباعد الأقطار وصعوبة التواصل، كبعثة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولوط في زمان واحد، ثم يعقوب ويوسف، ثم موسى وهارون، وزكريا ويحيى وعيسى، عليهم جميعًا وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكلهم كان يبعث إلى قومه خاصة فقط.

 

وقد كان عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد جاء مصدقًا لشريعة موسى عليه السلام، ومخففًا الأغلال التي ضربت على بني إسرائيل لظلمهم وعدوانهم، ومبشرًا في الوقت نفسه بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وتميز بأنه للناس كافةً بشيرًا ونذيرًا (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَي مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف: 6)، بل إن كلمة (إنجيل) نفسها تعني بالسريانية (البشارة) أو (البشرى)، وقد جاء في إنجيل يوحنا على لسان عيسى عليه السلام: (وأما متى جاء ذلك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية) يوحنا (12:16) ويقول برنابا: (سيأتي مسيا (أي الرسول) المرسل من الله لكل العالم،.. وحينئذ يُسجد لله في كل العالم وتنال الرحمة) (82: 16-18).

 

وقد كانت أطول فترة بين نبي والذي يليه هي تلك الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.. (576 سنة)، كما قال رب العزة جل شأنه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (المائدة: 19).

 

فجاء محمد صلى الله عليه وسلم.. النبي الخاتم بالكتاب الخاتم والرسالة الخاتمة.. وصدق الله العظيم، فقد مضى منذ بعثته أربعة عشر قرنًا ولم يأت نبي آخر؛ مما يقطع ويجزم ويصدق الوحي أنه النبي الأخير، والخاتم لرسالات الله قبل قيام الساعة، وأن مَن ينتظرون غيره واهمون.. فليس بعد رسول الله نبي، وليس بعد القرآن كتاب.

 

هذا من ناحية الثبوت التاريخي والمنطق العقلي.. أما من ناحية المضمون الروحي والمعنى الرسالي.. فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت لتتم الناموس الإلهي وتتمم مكارم الأخلاق التي شارك في بنائها كل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، جاءت ومعها كل أسباب الخلود والبقاء والانتشار، بعد أن تيسَّر اتصال العالم كله بعضه ببعض، وقد بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الانتشار العالمي "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار"، "لن يترك هذا الدين بيت مدر ولا وبر ولا حجر إلا دخله" بذاته، وها هو الإنترنت يحقق هذه النبوءة، وبعد أن ضمن الله تعالى لتلك الرسالة الخاتمة، وهذا الكتاب الأخير.. كل ضمانات الصيانة والثبوت (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42)، وبعد أن تكفَّل الله تعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وهذا ما لم يحدث لكل الكتب والرسالات السابقة؛ حيث إنها جاءت لزمان محدود، ولأقوام محدودين، فنالها قسط كبير من النسيان والتحريف.

 

ولقد عاش النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم- بعد بعثته في عمر الأربعين- ثلاثًا وعشرين سنة أخرى يُطبِّق المنهج الإلهي على نفسه أولاً، ثم على أهل بيته، ثم على صحابته والناس أجمعين.. يعيش معهم ويعلمهم كيف يعيشون على الأرض بمنهج السماء؛ يصحح العقيدة، ويُوضِّح العبادة، ويقوّم الأخلاق، ويرتقي بالسلوك، ويُطبِّق الشريعة ويُصحح المعاملات.. ليحقق العدل والمساواة للبشر جميعًا؛ كي يسعدوا في الدنيا والآخرة معًا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وهو النبي الوحيد الذي سجلت كل كلمة قالها وكل فعلٍ فعله، بل كل إقرار أقرَّ به.. على مدار ثلاث وعشرين سنة كاملة.. لتبقى سنته- مع كتاب الله المنزل- هديا خالدًا للبشرية كلها إلى قيام الساعة (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى يُوحَى (4)) (النجم).

 

استطاع النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أن يحيي أمة من العدم، وأن يرتقى بها في مدارج الكمال.. حتى انتشر نورها وعم خيرها وسادت مبادئها وتوطد سلطانها في قارات ثلاث.. في أقل من ثلاثين سنة، وامتدَّ نورها بعد ذلك ليعم البشرية كلها شرقًا وغربًا- ووصل النور إلى (أوروبا) ليخرجها من ظلمات القرون الوسطى إلى نور الحضارة والتمدن من خلال (الأندلس) عاصمة الحضارة الإسلامية في بلاد الغرب كما شهد بذلك كل المنصفين من علماء الغرب والشرق على سواء.لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم توازنًا عادلاً بين الروح والجسد ليحقق السلام النفسي للإنسان، ففي الوقت الذي حثَّ الناس على العمل للدار الآخرة أمرهم ألا ينسوا نصيبهم من الدنيا (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، وحقق السكن والطمأنينة في المجال الأسرى فأمر بالزواج تلبيةً لحاجة الفطرة وإعفافًا للنفس وتطهيرًا للمجتمع وإعمارًا للأرض، وأضفى قداسةً على عقد الزواج حتى سمَّاه ميثاقًا غليظًا، ونظَّم العلاقة بين الزوجين من حيث المسئولية والنفقة ورعاية الأبناء والإرث وغير ذلك من التشريعات المنظمة، وأقام توازنًا بين الإنسان والبيئة يُوفِّر للإنسان الاستفادة من ثروات الكون ويحافظ في الوقت نفسه على سلامة البيئة ونظافتها، وحقوق الأجيال فيها فينهى عن الإفساد في الأرض (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف: 56)، (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)، ويأمر بإعمارها وتنميتها (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 66) فحضّ على الزرع وإحياء الأرض الموات حتى ولو قامت القيامة "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها". الفسيلة هي النخلة الصغيرة.

 

وأمر بالرحمة والحفاظ على العمران ولو في حالة الحرب "اغزوا باسم الله، لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا شيخًا مسنًّا، ولا تهدموا بيتًا، ولا تقطعوا شجرة"، وتعدت هذه الرحمة الإنسان ووصلت إلى الحيوان "غفر الله لرجل سقى كلبًا كان يأكل الثرى من العطش"، "إنَّ لكم في كل كبد رطبة أجرًا" أي حيوان أو كائن حي.

 

ولذلك قال المؤرخ الإنجليزي (وليام موير) في كتابه (حياة محمد): (لقد امتاز محمد صلى الله عليه وسلم بوضوحٍ كلامه، ويسر دينه، ولقد أتمَّ من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد).

 

وقول الروائي والفيلسوف الروسي الكبير (تولستوي): "إن محمدًا هو مؤسس ورسول، كان من أعظم الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والمدنية).

 

ويقول الفيلسوف الفرنسي (ووالتر): (إن السنن التي أتى بها محمد كانت كلها قاهرةً للنفس ومهذبة لها، وقد جلب جمالها للدين الإسلامي غاية الإعجاب ومنتهى الإجلال، ولهذا أسلمت شعوب عديدة من أمم الأرض، حتى زنوج أواسط إفريقيا، وسكان جزر المحيط الهادي).

 

ويقول العالم الأمريكي (مايكل هارت): (إن محمدًا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا في المجالين الديني والدنيوي، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا).

 

ويقول الكاتب الإنجليزي المعروف (برناردشو): (ما أحوج العالم اليوم إلى رجلٍ كمحمد صلى الله عليه وسلم كي يحل مشاكله المعقدة ريثما يتناول فنجانًا من القهوة)، ويقول: (إن أوربا الآن بدأت تحس بحكمة محمد صلى الله عليه وسلم وبدأت تعشق دينه، كما أنها ستبرّئ العقيدة الإسلامية مما اتهمتها به من أراجيف رجال أوربا في العصور الوسطى، وسيكون دين محمد هو النظام الذي يؤسس عليه دعائم السلام والسعادة، ويستند على فلسفته في حلِّ المعضلات وفك المشكلات المعقدة)، بل يبالغ في البشرى فيقول: (وإن كثيرين من مواطنيّ، ومن الأوربيين الآخرين يقدسون تعاليم الإسلام، ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول: إن بوادر العصر الإسلامي قريبة لا محالة).

 

هذه بعض أقوال الكبار والقمم من رجالات الفكر العالمي، يشهدون لنبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بالعبقرية والعظمة والتفرد في رسالته الإلهية لإنقاذ العالم الحائر، وإخراجه من الظلمات إلى النور.. فما يضير محمدًا صلى الله عليه وسلم تلك البذاءات والإساءات التي لا تخرج إلا من أناس تافهين، ملأ قلوبهم الحقد ضد الصحوة الإنسانية، واليقظة الروحية، وبزوغ (الربيع العربي) الذي يؤذن بعودة الإسلام من جديد.. منهاج حياة، ورسالة نور.

 

فعلى العالم الغربي أن يستمع لكلمات حكمائه وإقرار فلاسفته، وأن يتعرف إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وفق منهجٍ علمي وتمحيصٍ حضاري.. بدلاً من السباب والشتائم.. ليعلم أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الوحيدة التي تستطيع أن تزين حضارتهم المادية بالرقي الروحي والسمو الأخلاقي؛ لتضمن لهم سعادة الآخرة ورفاهية الدنيا في توازن وانسجام مع اطمئنان القلب وراحة الضمير.

 

وعلى العالم العربي والإسلامي.. أن يحوّل غضبه من سبِّ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إلى صحوةٍ عارمةٍ وطاقة حية، تدفعه كي يعود إلى المكانة التي رفعهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اتبعوا منهجه، وساروا على سنته، فتحولوا- في بضع سنوات قلائل- إلى (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).. سمو روحي، ورقي أخلاقي، وتقدم مادي، وقوةٍ لا يُستهان بها.. فتحت العالم كله بنور الإيمان قبل امتداد السلطان.

 

وعلى كل محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل رسالته بحق، ويبلغ دعوته بأمانة إلى كل الباحثين عن الحقيقة.. في عالم صار كالقرية الواحدة.. تطورت فيه وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي.. إلى درجةٍ تمكننا من نشر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل اللغات إلى كل بقاع العالم.. لينتشر نوره فى العالمين (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108).

 

أما هؤلاء الشتامون المسيئون- سواء أكانوا أفرادًا أم منظماتٍ أم دولاً وهيئات- فإننا نحذرهم من معاداة رسول كريم.. هو رسولهم كما هو رسولنا؛ لأنه رسول الله للناس كافةً (يَا أَيُّهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) (الأحزاب: 45، 46) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، والله أكبر ولله الحمد.