1- العلم والقوة:

إن دولة تريد أن تنهض لا بد أن تقوم على العلم الواسع من علوم الدنيا والدين، وأول العلم: العلم بالله ومعرفته وتوحيده والتوكل عليه واستمرار العون والتوفيق منه قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)(محمد: من الآية 19)، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(الطلاق: من الآية 12).

 

 وأما علوم الدنيا فهي مهمة في حياة البشر؛ حيث إن الله فطر الكون على سنن وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50))(طه).

 

وعلوم الدنيا تقوم على التجربة والتخطيط لعمارة الكون، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود: من الآية 61).

 

فيوسف عليه السلام وضع خطة خمس عشرية أنقذ البلاد من مجاعة كانت ستأكل الأخضر واليابس.

 

وذو القرنين صنع سدًّا قويًّا من الحديد والنحاس ليحمي المستضعفين من ظلم يأجوج ومأجوج.

 

وطالوت عليه السلام اختاره الله ملكًا على بني إسرائيل لما يتمتع به من بسطة العلم والجسم.

 

ومن بين العلوم المهمة العلم باللغات؛ لأن الأمة مكلفة بدعوة العالم إلى الإسلام، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104))(آل عمران).

 

وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(إبراهيم: من الآية 4).

 

والعلوم كلها هبه وفتح من الله أولاً وأخيرًا إذا صدقت النية وصحت العزيمة، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15))(النمل)، وقال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16))(النمل).

 

وأما القوة فقد تمثلت في ذلك الجيش القوي المدرب الذي يحمي الحق ويدافع عنه، فلا بدُ للحق من قوة تحميه قال تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)) (النمل).

 

إن الإسلام أمرنا باستمرار القوة حتى ولو لم نستخدمها قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)(الأنفال: من الآية 60)، وفي الحديث: "ألا إن القوة الرمي" (الحديث أخرجه الإمام أبو داود (2514).عن عقبة بن عامر الجهني- رضي الله عنه).

 

2- رسالة وغاية الدولة:

إن أي أمة تعيش بلا رسالة وبلا غاية فهي إلى زوال لا محالة، أين التتار؟، أين الفراعنة؟، أين الحضارات القديمة؟، لقد ذهبت مع موت أصحابها.

 

أما أمة الإسلام فهي باقية إلى قيام الساعة؛ لأن لها رسالة تتمثل في هداية البشرية إلى الإسلام، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعبيد الناس إلى الله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وإقامة العدل في الحياة، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26))(ص).

 

إن الأمم التي أهدافها وضيعة، ورسالتها أرضية، وغايتها استعباد الآخرين لها فهي أمم إلى زوال لا محالة، أين الاتحاد السوفيتي وغيره الآن؟.

 

3– القائد البصير بشئون الرعية:

إن سليمان كان في غاية اليقظة والانتباه، حتى إنه استطاع أن يكتشف خللاً بسيطًا في المملكة وهو غياب جندي بسيط دون إذن من القائد، قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ (20))(النمل).

 

إن القائد البصير يضع العقوبة على قدر الخطأ، فلا يظلم أحدًا، ولا يطبق الحكم إلا بعد أن يسمع حجة المتهم، فهو يتروى حتى تثبت إدانته، قال تعالى: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21))(النمل).

 

أحيانًا قد يكون في الجندي ما ليس في القائد، وفي الطالب ما ليس في المدرس، وفي الابن ما ليس في أبيه، وفي الهدهد ما ليس في سليمان.

 

قال تعالى على لسان الهدهد مخاطبًا سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22))(النمل).

 

4- قيام الأفراد بواجباتهم:

إن دولة سليمان لا تعرف البطالة، ولا الكسل، ولا أن يكون الإنسان عالة على الآخرين وهو بصحة جيدة، فهذا الهدهد البسيط كان له دور هام في الجيش وهو تأمين المياه، وهو يقوم بدوره هذا اكتشف خللاً في حياة الناس، يتعارض مع رسالة الدولة وغايتها، فرفعه سريعًا إلى القائد الأعلى ليعالجه بسلطانه.

 

لقد ركز الهدهد على القضايا المهمة التي رآها:

 

امرأة تدير مملكة، ومعها قوة وجيش وسلطان، وهي وقومها يعبدون غير الله، لقد شَخَّص سبب الانحراف في تزيين الشيطان، ثم تحسر وتأسف على عدم عبادتهم لله- عز وجل- الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ويعلم ظواهر الناس وبواطنهم وخفاياهم قال تعالى: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23))(النمل).

 

أراد سليمان أن يتأكد من صدق الخبر قبل أن يأخذ قرارًا، فحمله رسالة إلى بلقيس قال تعالى: (اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28))(النمل).

 

تلقت بلقيس الرسالة فأثنت عليها؛ لأنه ابتدأها بالبسملة قال تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30))(النمل).

 

شاورت بلقيس رجالها ووزراءها في قضية مصيرية لا تريد أن تستبد برأيها فيها قال تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32))(النمل).

 

ردَّ الوزراء الأمر إليها، لأنهم قوم عقيدتهم مضطربة، فليس لهم رأي حازم، قال تعالى: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33))(النمل).

 

أرادت أن تختبر سليمان هل نبي مرسل، أم حاكم يريد توسيع مملكته، فأرسلت له الهدايا قال تعالى: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35))(النمل).

 

رد سليمان الهدايا لأنه لا يريد دنيا، وعنده ما يكفيه، وتوعدهم إذا لم يسلموا، قال تعالى: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37))(النمل).

 

علم سليمان أنها قادمة مع قومها فأراد أن يختبر ذكاءها وفطنتها للأمور قال تعالى: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41))(النمل).

 

الذي حمل الكرسي أو عرش بلقيس إلى سليمان كان رجلاً صالحًا يعرف اسم الله الأعظم، قال تعالى: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(النمل: من الآية 40).

 

تواضع سليمان أمام ما أعطاه الله من نعم وفضل، فلم يستكبر ويغتر مثلما فعل قارون، قال تعالى: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40))(النمل).

 

نكَّر سليمان لها العرش لينظر ذكاءها فكانت موفقة في إجابتها قال تعالى: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)(النمل: من الآية 42).

 

علم أنها ستدخل في الإسلام فأراها آية من عطاءات الله له عند دخولها الصرح قال تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ)(النمل: من الآية 44).

 

الذي منع بلقيس أن تكون مسلمة قبل ذلك أنها ورثت الحكم عن أبيها الكافر، قال تعالى: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43))(النمل).

 

حينما أسلمت بلقيس كان إسلامها إسلام ملوك وأمراء، قال تعالى: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44))(النمل).

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الأقوياء، وأن يرزقنا هدايته إلى الصراط المستقيم.

 

-----------

*أستاذ الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر، وجامعة طيبة بالمدينة المنورة.