الدعوة إلى الله شرف لا يتأهل للوصول إليه إلا العاملون المخلصون؛ فهي مهمة الرسل، الذين هم خيرة الله من عبادة، وسفراؤه إلى خلقه، وهي مهمة خلفاء الرسل ورثتهم من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين. وهي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾ (فصلت).

 

والداعية رجل صَفَتْ نفسه، ورقَّ قلبه، وخشعت جوارحه، ولان فؤاده، فهو دائم التلقي من ربه، شديد التوجه إليه، عظيم الرجاء فيه، يرجو رحمته ويخشى عذابه، وهو بين الخوف والرجاء، دائم الأمل في وجهه أن يقبل منه عمله، وأن يبارك له سعيه، وأن يفتح له قلوب الصالحين من عباده، ولسان حاله يردد: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: من الآية127)، راجيًا أن يسلكه ربه في مقام المصلحين الذين قال فيهم: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)﴾ (الأعراف).

 

والداعية الذي نقصده شيء غير الخطيب، فإذا كان الخطيب خطيبًا وكفى "فالداعية مؤمن بفكره، يدعو الناس إليها بالكتابة والخطابة والحديث العادي، والعمل الجدي، في سيرته الخاصة والعامة، وبكلِّ ما يستطيع من وسائل الدعاية، فهو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة يؤثِّر في الناس بعمله وشخصه.

 

والداعية أيضًا طبيب اجتماعي يعالج أمراض النفوس، ويصلح أحوال المجتمع الفاسدة، فهو ناقد بصير، يقف حياته على الإصلاح إلى ما شاء الله، وهو رفيق وصديق، وأخ للغني والفقير، والكبير والصغير، ومن هذه الصفات تشيع المحبة في قلبه، وتتدفق الرحمة من عينيه، وتجري المواساة على لسانه ويديه، وهذا ضروري جدًّا للداعية.. ودعوته فيض من مواهب الروح والجنان، لا من صفات البلاغة وملكات اللسان، والداعية قائد في محيطه، وسياسي في بيئته، وزعيم لفكرته ومن يتبعه في ناحية، وكل هذا لا تنهض الخطابة وحدها بحقوقه، فلا بدَّ له من التأثير النفساني، والهيمنة الروحية، والاتصال بالله، واستعانة العقل بما حصل من تجارب التاريخ، وأحوال الناس(ا).

 

والداعية رجل يعيش هموم أمته، شاعرًا في نفسه أنه المسئول وحده عن أمنها واستقرارها، وحراسة عقيدتها وصيانة كيانها، إنه يشعر أن كل خطر عليها هو خطر عليه، وكل بأس يصيبها فإنه نازل به، إنه منها بمنزلة الراعي الشفوق على غنمه، والأب الحاني على بنيه.

 

وكما يكون الداعية مهمومًا بأمته، غيورًا على عقيدتها، مشفقًا على مستقبلها، وحريصًا على أمنها واستقرارها فهو يرى ببصيرته ما تعجز بصائر الكثيرين عن رؤيته، ويدرك بخبرته وفطانته ما يحاول الخبثاء الماكرون تمريره بحذقهم ومرانهم، وكثرة إتقانهم لفنون الدس والتمويه والتضليل والخداع، كما أن الداعية ينبغي أن يكون بصيرًا بأحوال أصحاب الأقلام، فطنًا لأساليبهم، واعيًا لما تضمره النفوس الملتاثة من خبث وما تضمره من كيد، يخفى على البسطاء والعوام، ويدركه ذوو البصائر والأفهام.

 

وهذا الصنف من المشككين والمرجفين قديم قدم الدعوة ذاتها، ومن أجل ذلك خاطب الله نبيه بقوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)﴾ (محمد).

 

ولا يكفي في الداعية أن يكون مؤمنًا بدعوته مخلصًا لفكرته، مهمومًا بآلام أمته، بل لا بدَّ مع ذلك أن يكون واعيًا بثقافة عصره، متسلحًا بسلاح خصمه، قادرًا على رصد أساليبه وخططه، لا سيما وقد ازدهرت في زماننا اليوم علوم حديثة نشأت في ظلِّ الحضارة المادية الأوروبية، ونمت في بيئات دنيوية وإلحادية، غاية همها إمتاع الجسد ورهافة البدن ونعومة العيش.

 

والحضارة الغربية في دراستها المتعددة لهذه العلوم لم تشأ أن تربط بينها وبين الخلق الكريم والتصور الإيماني السليم "ولهذا كان الداعية المعاصر مضطرًا تمام الاضطرار إلى أن يلم بهذه العلوم، كي يقنع هذه العقول المتشككة، فإذا اقتصر على الكتب الدينية وحدها جوابه بما لا يستطيع الثبات أمامه من اعتراضات، وأصبح داعية السذج من العوام، وهؤلاء مؤمنون أصلاً بفطرتهم السليمة، لا يحتاجون إلى جهد جبار في الدعوة إلى الرشاد، وهو بمعاودة إرشادهم لا يضيف أرضًا جديدة للإسلام، وإن كان عمله لا يخلو من نفعٍ واضحٍ في تأكيد العقيدة وتثبيت القلوب على الإيمان، ولكن الأهم من ذلك كله، أن يرتقي بنظره إلى الخاصة ممن درسوا علوم العصر فتعرضوا لزعازع الشك، ومنهم مَن أراح نفسه حين استكان إلى الإلحاد جهلاً وقصورًا.

 

 ومَن لم يسلك هذا السبيل قد صار في مهب العواصف لا يدري أين يتجه، فإيمانه الموروث يدعوه إلى الثبات والصمود وزعازع العلوم المعاصرة تهب عليه من كلِّ سبيل، فتتزعزع الرواسخ من قواعد هذا الإيمان، ولا بدَّ أن يتجه الداعية إلى دراسة هذه العلوم؛ ليميز الخبيث من الطيب ويجذب إليه نفوسًا تريد أن تنكمش وسائل الإرشاد فتضل السبيل"(2).

 

وهذا ما يؤكده الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله- فيقول منكرًا على المسلمين جهلهم بواقعهم، وانشغالهم بأمور صغيرة، واهتمامات حقيرة: "ترى ماذا يشغل فقهاءنا ومفكرينا، إذا كانت حياة الدين كله في مهب العواصف؟!، وما هي القضايا الأهم التي تشد انتباههم ويبدءون فيها ويعيدون؟ وإذا كان المسلمون حملة دعوة عالمية فهل درسوا العالم حولهم، وعرفوا ما يسوده من ملل ونحل؟ وهل عرفوا العدو والصديق؟

 

وإذا قيل لهم في كتابهم عن المتربصين بهم: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة: من الآية127)، فهل فتحوا أعينهم على مكامن الخطر واتخذوا أسباب الحيطة"(3).

 

وبجانب إيمان الداعية بدعوته، وحرصه الشديد على انتشار فكرته، لا ينبغي أن ينسى أن مفاتيح القلوب ليست بيده، وإنما القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وأن يعلم أن بيانه القوي، وفؤاده الزكي وعزمه الفتي، كل ذلك لا يكفي لفتح قلب أوغل في الباطل وأمعن في الضلال، وأن يتذكر دائمًا قول الخالق سبحانه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة: من الآية272)، ولا ينبغي أن يستوحش من الطريق إذا رأى قلة السالكين، ولا يفتُّ في عضده إعراض المعرضين، وليتذكر قول ربه لنبيه: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)﴾ (يوسف).

 

وليعلم أن الله سائله عن بذل الجهد وإحسان العمل وإخلاص النية ودقة الالتزام بدين الله رب العالمين، ولن يسأله عن إعراض المعرضين وقلة المهتدين، فقد عذره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) ﴾ (النمل).

 

وعلى الداعية أن يتذكر دائمًا أنه مُبَلِّغ عن ربه، فيتأدب بأدبه، فيطهر باطنه من الحقد والحسد والعجب والكبر والظلم والعقوق، ويطهر لسانه من الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور؛ لأنه إن فعل شيئًا من ذلك كان أهلاً لأن ينفض الناس عنه، ويزهدون في الجلوس إليه أو القرب منه، وقد عَلَّمَنا ربنا سبحانه وتعالى أن نجاح الداعية في دعوته موقوف على إيمانه بها، والتزامه بمبادئها وأخلاقها في قوله سبحانه على لسان نبيه: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ (هود: من الآية 88).

 

وإذا علم الداعية أنه يبلغ عن الله عزَّ وجلَّ، فيجب عليه أن يكون أمينًا في نقله عن ربه، متحريًا في نقله عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وليحذر أن يتعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو ظن أن كذبه سيجلب نفعًا أو يدفع ضررًا، فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من المواضع التي يرخص فيها الكذب لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"(4).

 

وليحذر الداعية من الانزلاق وراء إغراء الحكاوي والقصص التي تعجب السامعين وتجذب العوام، وليست من الحقيقة في شيء، بل غالبًا ما تأتي هذه القصص أقرب إلى الخرافة وأبعد عن الواقع وأدعى إلى الرفض والسخرية وعدم التصديق، ومثل هذه القصص الساذجة تنزل بقدر الداعية والدعوة، وتعطي لأعداء الدين فرصة ليشككوا فيه، ويسخروا منه، ويتطاولوا عليه، متخذين من تلك الإسرائيليات سلاحًا يهزون به الراسخ من العقائد والثابت الصحيح من قواعد الدين.

 

وعلى الداعية الذي مَنَّ الله عليه باستكمال جوانب الدعوة إيمانًا وأخلاقًا وثقافةً، أن يوطن نفسه على تحمل ما يقع له في طريق الدعوة من أذى، وأن يحتسب ذلك كله عند الله، وأن يعلم أن مهر الجنة غالٍ، ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر، وليتذكر دائمًا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"(5).

------------------

الحواشي:

(1) تذكرة الدعاة، البهي الخولي، مكتبة الفلاح 1979م.

(2) مجلة الأزهر، افتتاحية عدد رجب 1422هـ.

(3) هموم داعية، الشيخ محمد الغزالي، ص 49.

(4) البخاري 1 / 38.

(5) مسند الإمام أحمد 2/260، 308.