غالبًا ما تتعرَّض الثورات لمخاطر تهدد مكاسبها بمرور الوقت عندما تغيب روح الوحدة والتوافق، وتبرز حسابات الانشغال بالذات، ومن المؤكد أن ثورة مصر رغم ما حققته من إعجازٍ في الأداء، وعظمة في الإنجاز مُعرَّضة لمثل هذه المخاطر، وقد بدت بوادرها في أول اختبارٍ لعرس الحرية والديمقراطية التي تسمح للمواطن المصري أن يمارس حقَّه في الإدلاء بصوته في استفتاءٍ تحت إشرافٍ قضائي كامل بعد أن عزف المصريون عن الاشتراك في أي استفتاءٍ لسوء السمعة وتزوير النتائج مسبقًا!

 

فقد اختار المجلس الأعلى العسكرى قرارًا- بعد تعطيل العمل بالدستور- بتعديل بعض المواد التي تضمن نزاهة الانتخابات، وتضمن الحريات في الفترة الانتقالية، وما يترتب عليه من انتخاباتٍ للبرلمان ثم اختيار هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد في خلال 6 شهور ثم تُجرى انتخابات الرئاسة في ظلِّ الدستور الجديد، بينما رفض آخرون المبدأ الذي يسمح بأي انتخاباتٍ قبل تغيير الدستور بأكمله، وهنا لم تكن الموضوعية هي سلاح الحوار، بينما كال الطرف الرافض الاتهامات للراغبين في الموافقة على التعديل حتى وصل الأمر للاتهام بالأنانية وخدمة مصالح خاصة، وبيع دم الشهداء بل والقول بأن الراغبين في الموافقة يستدعون العادلي وأمن الدولة مرةً ثانية!! (ضياء رشوان) وهو كلام غير مقبول؛ لأن الدافع لهذه الاتهامات أيضًا شخصي للخوف من حصول الإخوان على أغلبية مقاعد البرلمان! ومعهم فلول الحزب الوطني!! الذي انسحق وتم تجريسه وقياداته بعد ثورة 25 يناير! فكيف نواجهه، وهو في أشد عنفوانه وتجبره والتصاقه بنظام البلطجة والعنف ونخشاه بعد سقوطه؟!.

 

ورغم أن الحزب الوطني في دمنهور لم يجد سوى عشرة يقفون لتحريض المواطنين على قول "لا" في دمنهور، ووقف معهم قيادات حزب التجمع!! ورغم أن الإخوان في ظل حركة الكتلة الصامتة وأغلبهم من الشباب (45 مليون ناخب) لم يعد لهم ثقل كبير بل أزعم أنه لن يستطيع أحد في مصر أن يحقق أغلبية بأي شكلٍ في أي انتخابات قادمة! والتي لم يحققها الحزب الوطني البائد في أوج قوته وبعد التزوير الفاضح في ظل الإشراف القضائي، بل حصل في 2000 و2005 على 34%، وحاز الأغلبية بعد ضم المستقلين له!!

 

ورغم أن الإخوان صرحوا بسعيهم للمشاركة لا للمغالبة، بل عرضوا النزول بقائمة واحدة مع كل الأحزاب والقوى السياسية! ورغم المكسب الذي تحقق بإجراء هذه الانتخابات تحت الإشراف القضائي وحركة كل المصريين للإدلاء بأصواتهم، مهما كان الرأي بلا أو نعم، إلا أن هذا الجدل الذي استعملت فيه أسلحة الماضي من تشويهٍ للصورة وادعاءاتٍ لم تحدث مثل أن الإخوان قالوا إن مَن يقول "لا" سيُقام عليه الحد، وأنهم وزعوا أطعمةً في العشوائيات كي يصوتوا بنعم (من أستاذة جامعية)، وأنهم صرحوا بأن التصويت بنعم واجب شرعي، فأدخلوا الدين في السياسة، أو الثابت في المتغير! وكله كذب وتلفيق لا يمكن لعاقلٍ، فضلاً عن الإخوان أن يقوموا به أو يقولوه!! فالواجب الشرعي عند الإخوان هو الذهاب للإدلاء بالصوت مهما كان الرأي نعم أو لا!!

 

ويرون أنه لا بد من التربية على ممارسة الحرية واحتمال الرأي المخالف بعيدًا عن الاتهامات والسباب طالما لكل فريقٍ اجتهاده ورؤيته!

 

أحزنني هذا التناول الإعلامي وهذه الهجمة الشرسة التي باعدت بينها، وبين أخلاق ومبادئ ميدان التحرير التي كان هدفها واضحًا لا لبس فيه، والكل ما زال مستنفرًّا لمنع أي تلاعبٍ أو التفاف حول أهداف الثورة، وما حققته حتى الآن!.

 

ويبدو أن سيناريو ما بعد نعم معلوم، وما بعد لا ففيه أقوال.. أرجو أن يكون كالتالي: قرارًا من المجلس الأعلى العسكري بتشكيل هيئة كاملة من 100 أو 150 عضوًا يمثلون كافة أطياف المجتمع المصري وتكليفهم بوضع دستور جديد دون إشكالية انتخابهم من قاعدة الناخبين المصريين (45 مليونًا)، والذي يكاد يكون مستحيلاً! يعقبه الاستفتاء عليه ثم انتخابات الرئاسة والبرلمان والمحليات التي يجب حل القائم منها الآن؛ لأن وجودها يمثل خطورةً على الثورة وأهدافها!.

 

وهو المخرج من الأزمة التي أثارت الشك والغضب والتخوين بين الشعب المصري، ولنعلم أن 30 عامًا من التجريف في أخلاق الشعب المصري وقيمه وممارساته وحقوقه وثرواته تحتاج وقتًا لاستعادة كل ما فقدناه وتحتاج إلى مناخٍ يحسن الظن ويتعاون فيما بينه عند الاتفاق ويعذر ويحترم بعضه البعض عند الاختلاف.

 

اللهم أن ما حدث أحزنني فاللهم احفظ مصر وشعبها من الفتن وسوء الظن، وحقق على أيدي المصريين خير البلاد، إنك على كل شيء قدير.

-----------

* [email protected]