حيثما وُجدت الطاعة وُجدت البركة، والتوفيق، والنجاح، والسداد، والأمن.. ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (الأعراف: من الآية 56).. ذكر الإمام أحمد في مسنده قال: "وُجدت في خزائن بني أمية حنطة؛ الحبة بقدر نواة التمرة، وهي في صرة مكتوب عليها: كان هذا ينبت في زمن العدل".

 

وقال موسى بن أعين: "كنا نرعى الشاء في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكانت الوحوش والذئاب ترعى معنا في مكان واحد، فبتنا ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة فقلنا: ما نرى الرجل الصالح إلا هلك، قال الراوي: فحدّثني هو وغيره أنهم حسبوا فوجدوه قد هلك في ذلك اليوم".

 

أما المعصية فتقتل صاحبها، وتورث فاعلها إدمان الذل، وتسلّط عليه من لا يرحمه.. أوحى الله تعالى إلى موسى: "يا موسى، إن أول من مات من خلقي إبليس؛ ذلك أنه أول من عصاني، وإنما أعدّ من عصاني من الأموات".

 

ويقول بعض السلف: "ما عصى الله أحدٌ حتى يغيب عقله، فإنه لو حضر عقله لحجزه عن المعصية".

 

ويقول الفضيل بن عياض: "أوحى الله إلى بعض الأنبياء: إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني".

 

إن للطاعة بركة كتبها الله لعباده المؤمنين، فهم الملوك بلا تيجان، المتلذذون بحلاوة المناجاة وبرد الإيمان، المنعّمون بفضل الله في الدنيا والآخرة، فلهم الحياة الطيبة والجزاء الحسن.. ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)﴾ (النحل).

 

الله تعالى يثبِّت الطائعين، ويقوِّيهم، ويمكِّن لهم في الأرض، ويهيئ لهم شتى أنواع السعادة والحبور، ويؤتيهم من مكافآت الدنيا ما لا حصر لها، ولِمَ لا وهم حزب الله وأولياؤه؟!.

 

ولو أطلعك الله على قلب فقير طائع لوجدت فيه الغنى كله، والرضا كله، والفرح والسرور الذي لا تجده أبدًا في قلوب العصاة- وإن ملكوا الذهب والفضة والقناطير المقنطرة من الأموال.

 

إن من يصبر على طاعة الله، متجنبًا الوقوع في معاصيه، ينال ثواب المحسنين، بالتمتع في الدنيا بما أحله الله للناس من نعم وطيبات، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.

 

لمّا امتنع يوسف- عليه السلام- عن اقتراف الفاحشة، صابرًا محتسبًا، رغم منصب وجمال من طلبته لهذا الفعل القبيح، عوّضه الله خيرًا، وآتاه الملك والنبوة، وجمع به شمل أبويه وإخوته.. ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)﴾ (يوسف).

 

نعم، قد يلتبس الأمر أحيانًا على المؤمنين، ويصيبهم- لبشريتهم- طائف من الشيطان، إلا أنهم سرعان ما يعودون لطبيعتهم، الغنية بالإيمان، المشحونة بحب الله، فيجدون مولاهم العلي القدير في استقبالهم، بعفوه البالغ، وكرمه الذي لا حدودَ له، ورحمته التي وسعت كل شيء، فيمنّ عليهم من نعمه وفضله، ويعطيهم فوق ما يطلبون.. ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).

 

يقول عبد الله بن المبارك:

رأيت الذنوبَ تُميتُ القلو  بَ وقد يُورثُ الذلَّ إدمانُها

وتَرْكُ الذنوب حياةُ القلو   بِ وخيرٌ لنفسِكَ عصيانُها

 

وللأسف، فإن سيئات المسيئين ومعاصيهم، تعكِّر صفو المجتمعات، وتحلُّ بأقوامهم الهزائم والبلاءات، فلا يسلم من ذلك أحد، وهذا هو شؤم المعصية.

 

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: "كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس خصال، أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قومٌ العهد إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم" (ابن ماجة).

 

بل إن لعنة المعصية تحل على البهائم والطيور وسائر دواب الأرض!!.. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم".

 

ويقول مجاهد: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".

 

ويقول عكرمة: "دواب الأرض وهوامها، حتى الخنافس والعقارب، يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم".

 

أين هذا الأذى من فيوضات الكريم المنان، ورحماته على عباده الصالحين، الذين تبكيهم الأرض عند موتهم، ويبكيهم الحجر والشجر، ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: من الآية 22)؟!

 

البر لا يبلى.. والإثم لا ينسى

قد يغترُّ البعض بأنهم لا يرون تأثير ذنوبهم في الحال.. وهذا عين الغفلة والحمق، فإن البر لا يبلى، كما أن الذنب لا ينسى، فهناك من يحصي الكبيرة والصغيرة، والفتيل والقطمير، حتى الذرة لا تفوته.. ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)﴾ (المجادلة)، وإذا كان ثمَّ إمهال فلأن الله- تعالى- إما يعطيه فرصة للتوبة والرجوع إلى حظيرة الإيمان، وإما أنه مستدرج، فيكون الإمهال عقابًا، ومعلوم ما بعده من عذاب.

 

إن كثيرًا من الناس ينسون أن عليهم من الله رقباء، فيمرحون في المعاصي، ويكثرون من الذنوب، ولا يستحيون من الله، فيجعلونه أهون الناظرين إليهم!!- عكس المؤمن الذي يعمل بالإحسان فكأنه يرى الله، فيستحي أن يخالف أمر مولاه، متذكرًا قول الشاعر:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل:  خلوت ولكن قل: علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة   ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب   وأن غدًا للناظرين قريب؟

قال عبد الله بن دينار: "خرجت مع عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم.
فقال: إني مملوك.

قال عمر: قل لسيدك أكلها الذئب!!

قال الراعي: فأين الله؟!.

قال: فبكى عمر- رضي الله عنه- ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة".

 

المؤمن يفعل الطاعة ويحجم عن المعصية؛ ليقينه بأن الله يرى أفعاله، ويسمع مقاله، فهو في تجارة رابحة معه.. ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (الشورى: من الآية 23)، ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: من الآية 101).. وهؤلاء في مأمن من الهمّ والغمّ، والضنك والحزن؛ لأن الله أخذ عهدًا على نفسه بأن ينجيهم من تلك البلاءات التي تصيب من كسبوا السيئات واستدرجهم الشيطان إلى مهاوي المعصية والضلال.. ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾ (الزمر)، ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48)﴾ (الأنعام).

 

والعاصي يفعل المنكرات، ويخوض في الصغير والكبير من الفواحش، ناسيًا أن هناك كرامًا كاتبين يحصون جميع ما يقول الناس وما يفعلون.. ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)﴾ (الانفطار)، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾ (ق).

 

إن الذنب- صغر أم كبر- مكتوب لصاحبه، وكذلك الطاعة.. ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)﴾ (الجاثية)، ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)﴾ (مريم)، وهذا يعني أن يكون المسلم على وجلٍ سائر وقته، وألا يستصغر المعصية يقول: هذا من اللمم، فإن هذا مما يوقعه- فيما بعد- في الكبيرة، فيكون سببًا في هلاكه والعياذ بالله.. عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وأن رسول الله ضرب لهن مثلاً، كمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها" (أحمد).

 

إن العبد ليحرم إجابة الدعاء لأكله الحرام، فتكون الشقة بعيدة بينه وبين الله، فيحرم أنسه ولطفه وفضله، فيلحق به الشقاء.. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى طيب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ (المؤمنون: من الآية 51)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذى بالحرام، فأنى يستجاب له" (مسلم).

 

والكيس من حاسب نفسه وأرغمها على اتباع الحق يقول: إن معي مَنْ لا يفارقني، فيستحي منهم ويكرمهم.. يقول عبد الله بن مسعود:

"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا- أي بيده- فذبَّه عنه!!".