(3) على خطى فرعون يمضي المغرورون

 

إنَّ تحوُّلَ الظالم من أسدٍ هَصُورٍ عند التمكُّنِ إلى فأرٍ مذْعورٍ عند نزولِ بأسِ الله به هي الطبيعةُ ذاتُها التي انطبع بها فرعونُ وقارونُ وهامانُ، وانطبع بها سائرُ الفراعنة وأعوانُهم في كل عصر، لا يُذْعِنُون للحقِّ إلا بعدَ فواتِ الأوانِ وبعدَ الإحساسِ بالعجزِ الكاملِ عن أي فعل، فيخضعون له في ذِلَّةٍ ومَهَانة، ولا ينفعهم ذلك ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾.

 

وهي صورةٌ تُثيرُ الإشفاقَ على هؤلاءِ المغرورين حين تَبْهَتُهم الشِّدَّةُ بغتةً فلا يستطيعون ردَّها ولا هُم يُنْظَرون، بقدْرِ ما تُثيرُ الاشمئزازَ منهم والضِّيقَ بهم حين يسْتَعْلُون ويستكبِرون في الأرضِ بغير الحق.

 

حين يتحدث القرآنُ عن حركةِ أولئك الظالمين المغرورين وبأسُ اللهِ يأخذُهم، تراهم كالفئران في المصيدةِ يضطربون من هنا إلى هناك قُبَيْلَ الخُمُود ﴿وكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ.لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾.

 

يسارعون بالخروج ركْضًا وعَدْوًا، وقد تبيَّن لهم أنهم مأخوذون ببأسِ الله. كأنَّما الركْضُ يُنْجِيهم من بأْسِ الله! ولكنها حركةُ الفأرِ في المصيدةِ بلا تفكير ولا شعور.

 

عندئذ يتلَقَّوْن التهكُّمَ المريرَ: لا تركُضوا من قريتِكم، وعُودوا إلى متاعِكم الهَنيءِ وعيْشِكم الرَّغيدِ وسكَنِكم المريح، لعلَّكم تُسْأَلون عن ذلك كلِّه: فيمَ أنفقْتُموه؟! وما عادَ هنالك مجالٌ لسؤالٍ ولا لجواب، إنما هو التهكُّمُ والاستهزاء!.

 

عند ذلك يُفِيقُون فيشعُرون بأنْ لا مفَرَّ ولا مَهْرَبَ من بأسِ اللهِ المحيطِ، وأنه لا ينفعُهم ركْضٌ، ولا يُنقِذُهم فرارٌ، فيحاولون الاعترافَ والتوبةَ والاستغفارَ: ﴿قالُوا يا وَيْلَناإِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ﴾.

 

ولكن لقد فات الأوان، ويا لَهُ من حصيدٍ آدمي، لا حركةَ فيه ولا حياةَ، وكان منذ لحظةٍ يموجُ بالحركة، وتضطرِبُ فيه الحياة!

 

إنها صورةُ القذافي بين الانتفاخِ والتهديدِ وادِّعاءِ القوةِ، وبين الضّعْفِ المَهينِ والذُّلِّ الذي غَشِيَه حين أمسك به الثوار .

 

إنها صورةُ المخلوعِ والفُلولِ بين الانتفاخِ والكِبْرِ إذ هم متمكِّنُون، وبين المذلَّةِ الباديَة عليهم في القفصِ وتخبئةِ وجوهِهم عن الإعلامِ بعد القبض عليهم بعد ثورة يناير.

 

وأمثال هؤلاء في تاريخ البشرية كثير لا يحصيهم العد، وصدق الله إذ يقول ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ، يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ لِطَاعَتِهِ, وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ أَرَادَ, وَيُسْعِدُ مَنْ أَحَبَّ.

 

(4) صور مشرقة بالعزة في المقابل

 

في مقابل ذلك نرى صورةَ المؤمنينَ باللهِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، والذين يُقابِلون نعمة الله بالشكر والتواضع، ويتلقَّوْن أقدارَ اللهِ بالرِّضا والتسليم، ويُواجِهون خُصومَ الحقِّ برأسٍ مرفوعة، واثِقين بأنه لن يكونَ في مُلْكِ اللهِ إلا ما يُريد، فلا يَنْحَنُون إلا أمامَ الله، ولا يتضرَّعون إلا للهِ، ولا يتعلَّقُ رجاؤُهم إلا برحمةِ الله، وكما لم تغُرَّهم النعمةُ ولم يحْرِفْهم التمكينُ عن التواضعِ والحق؛ لم تَنَلْ من عزائمهم الشِّدَّةُ والبأس، بل صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، والتمسوا منه وحده كشف الضر.

 

ففي مقابلِ صورةِ فرعونَ المنهارِ عند الغرق تطالعُنا صورةُ يونسَ عليه السلام لما وقع في بطنِ الحوتِ فدعا ربه فأنجاه من الغَمِّ.

 

عن الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، قال: «اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، فَإِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ذَاكِرًا لِلَّهِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ اللَّهُ: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ فَلَمَّا ﴿أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾».

 

وفي مقابل صورة القذافي والمخلوع وغيرهم المثيرة للسخرية تطالِعُنا صورة الرئيس مرسي وهو منتصبُ القامة، وصورُ الإخوان مرفوعي الرؤوس وهم يواجهون المحاكمات الانقلابية الجائرة.

 

وفي مقابل الهلعِ المثيرِ للشفقةِ الذي بَدَا عليه الظلَمَةُ حين زالت عنهم أسبابُ القوةِ والسلطةِ تطالعُنا صورة العزة والشموخ للشيخ محمد فرغلي ومحمد عواد وعبد القادر عودة، وصورة سيد قطب ورفاقه وغيرهم، وهم يُساقون إلى الشهادةِ على أعواد مشانق الظالمين.

 

والنماذجُ كثيرةٌ يحفَلُ بها تاريخُ العزة للمجاهدين الأبطال، في مقابلة نماذج كثيرة للمهازيل الأنذال.

 

وهذا كله في الدنيا.

 

أما صورةُ القوم يوم القيامةِ فخِزْيُهُم لا حدودَ له، يوم يَعَضُّ الظالمُ على يديه ندمًا وحسرة، وحين تضرب الملائكةُ وجوهَهم وأدبارَهم، وحين يُؤْتَى بهم ناكسي رؤوسِهم عند ربهم، وحين تَدُعُّهم الملائكةُ إلى جهنَّمَ دَعًّا، وحين يدعون بالويلِ والثُّبُور ويقولون ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾، وحين يتخاصمون في النار، وحين تسخر منهم الزبانية ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُون﴾ إلى آخر صور الخِزْيِ والذُّلِّ والمهانةِ التي تثير الإشفاقَ على هؤلاء الظالمين المنتفِخين، ويا لَها من حسرةِ حين يأخذ أحدُهم كتابه بشماله ﴿فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ فيقال للزبانية: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾.

 

(5) هَلْ مِنْ مُدَّكِر؟

 

أعجبُ العجبِ في البشر أنَّ يدَ اللهِ تعملُ من حولهم، وتأخذُ بعضَهم أخذَ عزيز مقتدر، فلا يُغني عنهم مكرُهم وتدبيرُهم، ولا تدفعُ عنهم قوتُهم وعلمُهم ومالُهم، وبعد ذلك يظل الذين يمكرون يمكرون، ويظل المغرورون آمنين لا يتوقعون أن يؤخذوا كما أُخذ مَنْ قبلَهم ومَنْ حولَهم، ولا يَخْشَوْن أن تمتدَّ إليهم يدُ الله في صحوِهم أو في منامِهم، في غفلتِهم أو في استيقاظِهم ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

 

وإنْ تعجبْ فعجَبٌ ادِّعاءُ بعضِهم الإيمانَ واحتفاءُ بعضهم بالقرآن، ومع ذلك لا يكادون يُصَدقون بوعْدِه ووعيدِه، ويتساءلون في سخريةٍ عمَّا ذكره القرآنُ من هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحَقٌّ هُوَ سَيَقَعُ بِالْفِعْلِ؟ أَمْ هُوَ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ أَيْ نَعَمْ أُقْسِمُ لَكُمْ بِرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَاقِعٌ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِنْزَالِهِ بِكُمْ، وَلَا بِفَائِتِيهِ هَرَبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ مَا جَهِلْتُمْ إِذْ قَالُوا كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا﴾.

 

فمَنْ عرفَ كمالَ القدرةِ لم يأمنْ فجأةَ الأخذ بالشِّدَّة، ومن خافَ البَيَات لم يَسْتلِذَّ السُّبات.

 

ومن توسَّد الغفلةَ أيقظتْه فُجاءة العقوبة، ومن استوطن مركبَ الزَّلَّة عثر فى وهْدةِ المحنة ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾، وكيف يعارض الحقّ أو ينازعه مَنْ فى قبضتِه تقلُّبُه، وبقدرتِه تصرُّفُه.

 

إنَّ الباطلَ قد تكون له دَوْلَةٌ ولكنَّها تخْييلٌ، وما لذلك بقاءٌ ولا استمرارٌ، ولا حجةَ ولا عذرَ لأحد بعد هذا البيان القرآني ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.

 

وقريبا بإذن الله نرى سقوط المتكبرين والمفسدين ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.