إذا غلبتْ على الحاكم بطانةُ السوءِ فهو في طريق الخسران، والأمةُ على شَفَا هَلَكَةٍ، فلا صدقَ في النصيحةِ، ولا أمانةَ في عرْضِ الحقائقِ، ولا اعتبارَ لعامَّةِ الشعبِ، ولا حِرْصَ على العدْلِ الذي هو أساسُ المُلْكِ. بل يَرُوجُ النِّفاقُ والتمَلُّقُ للحاكمِ، وتتمُّ الحيلولةُ بين الحاكمِ وبين الوقوفِ على آراءِ وحاجاتِ الشعبِ الحقيقيةِ، وتنقطعُ الجسورُ بين أُولي العلمِ وأُولي الأمرِ، فلا يبقى إلاالصراعُ الخافِتُ والظاهرُ، وتتعرَّضُ السفينةُ الاجتماعيَّةُ كلُّها للضلالِ والضياع والغرق.



وذلك ما حذَّر منه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «الْمُدَاهِنُ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالرَّاكِبُ حُدُودَ اللَّهِ وَالْآمِرُ بِهَا وَالنَّاهِي عَنْهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ مُؤَخَّرَ السَّفِينَةِ وَأَبْعَدَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ، وَكَانُوا سُفَهَاءَ، وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا عَلَى رِجَالِ الْقَوْمِ آذَوْهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَقْرَبُ أَهْلِ السَّفِينَةِ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَتَعَالَوْا نَخْرِقْ دَفَّ السَّفِينَةِ ثُمَّ نَرُدَّهُ إِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ. 


فَقَالَ مَنْ نَاوَأَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ: افْعَلْ.  


فَأَهْوَى إِلَى فَأْسٍ لِيَضْرِبَ بِهَا أَرْضَ السَّفِينَةِ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ رَشِيدٌ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: نَحْنُ أَقْرَبُكُمْ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُكُمْ مِنْهُ، أَخْرِقُ دَفَّ السَّفِينَةِ، فَإِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ سَدَدْنَاهُ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ فعلتَ تَهْلِكْ ونَهْلِكْ».
وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ مَنَعُوهُ سَلِمَ وَسَلِمُوا، وَإِنْ تَرَكُوهُ غَرِقَ وَغَرِقُوا».


(5) شيوخُ السُّوءِ أسوأُ البطانة

لما تولَّى يزيدُ بنُ عبدِ الملك الخلافةَ بعد عمرَ بنِ عبد العزيز قال : «سِيرُوا بِسِيرةِ عُمرَ بنِ عبد العزيز»، وقال: «واللهِ ما عمرُ بأحْوَجَ إلى اللهِ منِّي»، فأمَّل الناس خيرًا بهذه البداية الموفَّقة.


فأقام أربعين يومًا يسيرُ بسيرةِ عمرَ بنِ عبد العزيز، ثم عدَلَ عن ذلك، حين أُتي بأربعين شيخًا، فشهدوا له: ما عَلى الخلفاءِ حسابٌ و لا عذاب!. ولا حول ولا قوةإلا بالله. 


وكأنه وكأنهم ما قرأوا قول الله تعالى لنبيه داود (وقد جمع الله له النبوة والملك) : ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]


ولله دَرُّ الأحنفِ بنِ قيْسٍ حين قال: «مَنْ فسَدتْ بطانتُه كان كمَنْ غُصَّ بالماء، ومن غُصَّ بالماءِ فلا مَسَاغَ له، ومَنْ خانه ثِقاتُه فقد أُتِي مِنْ مَأْمَنِه».


وقالوا: «إنَّ السلطانَ إذا كان صالحًا ووزراؤُه وزراءَ سُوءٍ امتنعَ خيرُه من الناسِ، ولم ينتفعْ منه بمنفعةٍ، وشبَّهوا ذلك بالماءِ الصافي يكون فيه التمساحُ، فلا يستطيعُ أحدٌ أن يدخلَه، وإن كان محتاجًا إليه».


وفي مثل هذه الأجواءِ المُسَمَّمَةِ بداءِ النفاقِ يتراجعُ المخلِصون، ويتأخَّرُ الأُمناءُ الناصحون؛ خشيةَ الوِشايةِ والبطشِ والتنكيلِ بهم، ولا يبقى في دفَّةِ قيادةِ السفينةِ إلا المغامرون الأفَّاقون الطمَّاعون، وعندئذٍ فكَبِّرْ على الأمة أربعًا، وقل: على الأمة السلام .


ولذلك فالحاكمُ العاقلُ ينبغي أن يكونَ حَذَرُه للمتملِّقين أكثرَ من حَذَرِه للمُتباعدين، وأن يتَّقِيَ بطانةَ السوءِ أشدَّ من اتقائِه العامَّة، ولا يطمعنَّ في إصلاحِ العامَّة إلا بإصلاحِ الخاصَّة. 


وفي الحِكَمِ: أفضلُ السلطانِ مَنْ أَمِنَه البَرِيءُ وخافه المجرِمُ، وشَرُّ السلطانِ مَنْ خافه البريءُ وأَمِنَه المجرم. 


(5) بطانةُ السوء تُغْرِق الحاكم فلا يُفِيق إلا بعد فوات الأوان


من القصص المعبرة في ذلك: أنَّ الوليدَ بنَ يزيدَ بنِ عبد الملك الذي تولى الخلافة سنة 125 ه كان ظلومًا ماجِنًا شاربًا للخمرِ، فتغيَّر عليه الناسُ، وتبرَّمُوا بظلمِه، وتَدَاعَوْا لمواجهتِه، وبدأ ابنُ عمِّه يزيدُ بنُ الوليدِ بنِ عبد الملك في التآمُر عليه مستغلًّا غضبةَ الجماهير العريضة، في الوقت الذي كانت بطانةُ السوءِ تؤكِّد للخليفة المغَيَّب أنَّ الوضعَ تحتَ السيطرة، وأنَّ الكارهين ليسوا سوى شِرْذِمةٍ حاقدةٍ لا يلتفتُ لها. 


فلما استحكمت الفتنةُ وخرجت الأمورُ عن السيطرةِ دخل عليه معاويةُ بنُ عمرِو بنِ عُتبة بن أبي سفيان، وقال له: يا أميرَ المؤمنين، إنه يُنطِقُني الأُنْسُ بك، وتُسْكِتُني الهَيْبةُ لك، وأنا أسمعُ من خوْضِ الناسِ ما لا تَسمعُ! وأراك تأمَنُ أشياءَ أخافُها عليك! أفَأَسْكُتُ مُطيعًا أم أقولُ ناصحًا؟. 


قال: كلٌّ مقبولٌ منك، وللهِ فينا عِلْمُ غيبٍ نحن صائرون إليه. فقُتِل بعد ذلك بأيام. 


لقد جاءت نصيحةُ معاويةَ متأخرةً بعد أن أغرقتْ بِطانةُ السوءِ الوليدَ بالنفاقِ الكاذب، فلم يَعُدْ قادرًا على تَدَارُكِ ما فَرَطَ من أخطاء. 


ولم تمر سنواتٌ معدوداتٌ حتى سقطت الدولةُ الأمويةُ التي اشتغل قادتُها بالتنازعِ على الحكمِ وغرقوا في الدسائس، واستناموا لبطانةِ السوء، ولم يستمعوا للنُّصْحِ من المخلصين الأمناء، وضاعت صرخةُ نصرِ بنِ سَيَّار - والي بني أُمية على خُراسان - الذي كان يبصرُ المؤامراتِ التي تُدَبَّرُ في جُنْحِ الظلامِ لإسقاطِ الدولةِ، فكتب إلى بني أميَّة يُحَفِّزُهم ويُنَبِّهُهم ويستثيرُهم للحيلولةِ دونَ هذا الخطر، فقال:


أرَى بينَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ وأخشَى أن يكونَ له ضِرَامُ
فإنَّ النارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى وإنَّ الشرَّ مبدؤُه كلامُ
فقلتُ من التعجُّب: ليتَ شعري أَأَيْقاظٌ أميةُ أم نيامُ
فإنْ يَقِظَتْ فذاك بقاءُ مُلْكٍ وإنْ رقدتْ فإنِّيَ لا أُلَامُ
فإنْ يكُ أصبحوا وثَوَوْا نيامًا فقُل: قوموا فقد حان القيامُ


وسقطتْ دولةُ بني أمية، وانهدم مُلكُهم، ولم تُغْنِ عنهم بطانةُ السوءِ التي ورَّطَتْهم شيئا.

كيف ترى بطانة الانقلابيين؟

والآن أسالك عزيزي القارئ الكريم:  كيف ترى بطانةَ الانقلاب الدموي من الوزراء، والإعلاميين، ومن يصفون أنفسهم بالمثقفين، ومن حولهم من العلماء والشيوخ؟ هل تراهم بطانةً صالحةً تخشى الله، وستأخذُ بيد الانقلابيين إلى صالحٍ من العمل أو صالحٍ من التدبير لأمور الأمة ومنفعة الخلق؟ أم تراهم من بطانةِ السوء التي تلحقُ بكل حاكم، وتُمالِئُ كلَّ ظالم، وترفعُ شعار (نحنُ عبيدُ مَنْ مَلَك)؟. 


ألستَ ترى أنَّ ثورةَ الأحرارِ هي بإذنِ الله السبيلُ لإنقاذِ الأمةِ من الانقلابيين الدمويين الفَسَدَةِ وبطانةِ السوء التي تحيطُ بهم، وتسيرُ في أهوائهم، وتُوشِكُ أن تأخذَ الأمةَ إلى السقوط والانهيار، لا قدَّر الله؟.