بقلم : أ.د.خالد فهمي
كلية الآداب / جامعة المنوفية

عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض! قيل : وما بركات الأرض ؟قال :زهرة الدنيا و إن هذا المال حلوة، من أخذه بحقه ،ووضعه فى حقه، فنعم المعونة هو. و إن أخذه بغير حقه كان كالذى يأكل و لا يشبع“. فتح البارى ، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا و التنافس فيها 11/244(6427).

هذا حديث ربما صح أنه يلخص أمر التنمية و شروطها فى التصور الإسلامى ؛ذلك أن الحديث الشريف يقرر أن الله مانح هذه الأمة أرزاقا و بركات، تشرق الدنيا بها، وترقى بأسباب الحياة فيها ، ثم يدلنا صلى الله عليه و سلم على الطريق الناجحة فى استثمار هذا الرزق الممنوح من الله تعالى وهى التصرف فيه بحق الله سبحانه ، و إدارته على مقتضى ما يحقق مقاصد الشريعة من إعمار الحياة من غير طغيان، ومن تزكية الأنفس ، وتهذيبها بمنعها من التنافس على مظاهر الدنيا المادية، ومنعها من الصراع المفضى إلى هلاك الإنسان المسلم وضياع أجره و ثوابه.

و الحديث يدخل إلى بيان منهج الإسلام فى تنمية المال على الوجه المراد بمجموعة من الإجراءات البلاغية الموزعة على البيان و المعانى.

فى الحديث إلحاح على توكيد حقائقه التى يشير إليها ، و التوكيد طريق حامل على تقدير خطر الفكرة ، و تقدير أهميتها، و تنبيه للمتلقين على الجد و الاهتمام فى استقبالها ، وهو ما نلمسه فى :إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض/ و إن هذا المال حلوة .

و فى الحديث تحذير من سوء التعامل مع من هو معدود فى البركات بطريق توظف الإجمال أو الإبهام فى تعبير (بركات الأرض) شحذا لأذهان المخاطبين ، حثا لهم على طلب معناه، وهو ما تحقق فى صورة سؤالهم عن هذا العام المجمل المبهم: قيل : وما بركات الأرض ؟ وهذا التصميم اللغوى للحديث أعون على التنبه لمضمون ما يحذر منه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فسؤالهم ناتج تنبه ، و الإجابة عليه محاط باللهفة و الشوق و الانتظار، وهو ما يعين على الوعى بحقيقة ما يحذر منه النبى الكريم .

و فى الحديث استثمار لمجموعة من التقنيات البلاغية البيانية ، حيث ورد تشبيه ما تنتجه الأرض من زروع ، وما تخرجه من معادن بالزهرة و الزينة، وهو ما يعنى تحذيرا ضمنيا ، ذلك أن الزينة لا يظهر شرها مستعلنا، وهو وعى نبوى كريم بطبيعة النفس الإنسانية التى من السهل عليها الانخداع بما هو من الزهرة و الزينة.

و فى الحديث استثمار رائع لبنية التشبيه فى أكثر من موضع ، فهو قد شبه الدنيا بالمال ، ثم امتد فشبهه بما أخبر به عنه ” بالحلوة” وهو ما يتأكد من وصف المال فى بعض أجزاء الحديث كذلك بالخضرة، و الخضرة رمز لكل ما هو مشرق فى الثقافة العربية ، وهو ما يعنى أيضا أن الإسلام لا يمنع البهجة المستفادة من معنى الزهرة ، و إنما يسعى إلى ضبطها ، و عدم طغيانها.

و الحديث لا يمنع من التمتع بمتاع الحياة من الثياب و المسكن و الزروع وما إلى ذلك ، و لكنه يحذر و يخوف أن تتحول النعمة إلى مادة للعقوبة ، و يدعو إلى صيانة النعمة بما سماه أخذا الحق ، ووضعا فى الحق ، وهو ما يعنى ضبط مداخل الصناعة، و ضبط أغراض الصناعة ، بحيث يحرم على الأمة إنتاج ما يتحول بالنعمة إلى النقمة ، و بحيث يحرم على الأمة حرمان الطبقات المحتاجة من ناتج هذه الصناعة ،ومن أجل ذلك استشهد به البخارى فى باب الزكاة.

و الحديث يستعمل التمثيل بما هو فن بلاغى ليدفع المسلمين إلى عدم الإفراط ، و يحذرهم من سوء استعمال النعمة ، وعصيان الله تعالى فيها.

ٍو فى الحديث تذييل يعكس حذفا فى الكلام ، كأنه قال: إن عمل فيه بٍالحق فنعم المعونة هو وهذا التذييل المتمثل فى جملة المدح نعم المعونة هو ، غرضه الأمر بالعمل فى المال بالحق .

إن الحديث الشريف يدفع الأمة نحو الاستثمار الاقتصادى ، و يدفعها إلى التقدم المادى الصناعى و الزراعى ، و يتوسع فيسمى هذا التقدم بركات ، و يتوسع فيشبهها بما يشيع أجواء البهجة فى النفس ، و لكنه يحذر من نسيان حق الله تعالى فى هذه الرحلة.

وهو ساعة يفعل الأمرين يعتمد على مجموعة من التشبيهات البديعة على حد تعبير ابن حجر فى فتح البارى 11/248منها:
أولا- تشبيه المال ، و أمر الصناعة و الزراعة بالنبات وظهوره .

ثانيا- تشبيه أخذ المال بغير حقه بالذى يأكل و لا يشبع ، وهو ينتج ذما ، يقترب بهذا الذى يفعل ذلك بالبهيمة التى لا تعقل .

إن الحديث الشريف يدعو إلى النهضة المادية ، و التوسع فيها شريطة أن تكون فى غير فتنة ، و شريطة أن تكون مستصحبة رضوان الله تعالى .