رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.. فلَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ.

 

ما أجمل عظمة الربوبية! وما أعظم فضل الألوهية!

وما أجمل أن يتفضل الله على عباده، فيدعوهم إلى بيته العتيق؛ ليغفرَ ذنوبهم؛ ويطهِّرَ قلوبهم؛ ويضاعفَ أجورهم؛ ويجدِّدَ أرواحهم؛ ويمنحَهم من فيض فضله ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر!.

 

وما أجمل أن يتفتَّح المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقَّاه كما تتلقَّى الزهرة قطرات الندى، فيحيا به ويسعد، ويتجهَّز من فوره لإجابة دعوة الله، والانضمام إلى وفده الكريم مهاجرًا إلى حرمه المقدَّس، وبيته الأمين هاتفًا من أعماق قلبه: "لبيك اللهم لبيك"!.

 

أيها المسلمون..

لقد شرع الله الشعائر والعبادات لحكم عظيمة، ومصالح عديدة، وحكم بالغة، والحكمة الجامعة في العبادات هي تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتحريرها من رقّ الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، هذا وإن للحج أسرارًا تربوية بديعة، والتي منها:

1- أنه يُكسب المسلم تمامَ التجرد، وكمالَ الإخلاص، وتحقيقَ العبودية لله، وكلما ازداد العبد تحققًا بهذه الصفات ازداد كماله، والحج يغرس ذلك في أعماق القلوب؛ حيث يتجرد المسلم من ماله، ويترك أبناءه من خلفه، ويخرج من داره ووطنه قاصدًا بيت الله الحرام ولسان حاله: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (طه: 84)، فأعمال الحج كلها تبني الإيمان وتقوِّي اليقين؛ لأنها عبودية محضة، ولا دخل للعقل فيها، ولكنه الانقياد التام لأمر الله عز وجل والطاعة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

2- التذكير بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كلما سار في طريق أو أدَّى نسكًا، وكم يحتاج المسلمون استحضار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ناله هو وأصحابه من عنت واضطهاد، وتعذيب وحصار، وتهجير من الديار والأوطان في سبيل الله، ورحم الله الإمام البنا وهو يعبِّر عن السبب الذي حدا به إلى الحج فيقول: "إن أهم ما حدا بي إلى زيارة هذه البقعة المباركة غير ما يحدو بكثيرٍ من الناس؛ فإن أعظم ما يسير بالناس إلى هذه البقاع المطهرة الرغبة الملحَّة في أداء الفريضة والزيارة المباركة؛ رجاء الثواب؛ أو خوفًا من التبعة يوم القيامة، أو الرغبة الملحَّة في التمتع بما أفاضه الله على هذه الديار وساكنيها من بركة وخير؛ وذلك جميل حقًّا، وذلك بعض ما حدا بي إلى الرحلة..

 

أما السبب الأول في الحقيقة فهو دعوة الإخوان المسلمين، ولعله يسبق إلى ذهنك من هذا الاعتراف أنه الرغبة في نشر دعوة الإخوان المسلمين، وتلمُّس الأنصار والمؤمنين بها من آفاق الأرض، ومن القلوب الطاهرة التي تهوي إلى هذه الأرض المقدسة، وليس ذلك كذلك، وإن كان أملاً من الآمال، وفائدةً من الفوائد المنتظَرة، ولكن الذي أقصدُه أن دعوة الإخوان المسلمين، وهي دعوة خالصة لوجه الله من أول يوم، مؤسسةٌ على تقواه، مستندة إلى عظمته سبحانه، هذه الدعوة أعتقد أنه لا بد لنجاحها من أمرين أساسيين:

أولهما: طهارة القائمين بها، ونزاهة نفوسهم، حتى تصلح لتلقِّي المعونة والنصر من الحق تبارك وتعالى.

 

وثانيهما: صلة هذه القلوب بالداعي الأول صلى الله عليه وسلم صلةً روحيةً قويةً؛ تؤدي إلى حسن الاتباع والاستمساك بالسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

 

فأما الطهارة النفسية فأول سبلها حج بيت الله الحرام؛ حيث تحطّ الذنوب والأوزار؛ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حج فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (متفق عليه).

 

وأما المدد الروحي من الداعي الأول صلى الله عليه وسلم فسبيله زيارة حرَمه والتمتّع بروضته، ويلحق بهذه الأسباب جميعًا ما تستفيده روح الداعية من معاهدة مواطن الدعوة الأولى، واستعراض حوادثها استعراضًا عمليًّا على أديم الصحراء العربية، لا في صفحات الكتب وآراء الرجال".

 

فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، وتبعث في نفسه حب أسلافه الكرام، والحرص على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.

 

بلدة عظمى وفي آثارها           أنفع الذكرى لقوم يعقلون

شبَّ في بطحائها خير الورى        وشبا في أفقها أسمح دين

 

2- وفي الحج التذكير بالموت، والخروج من الدنيا واستقبال للآخرة، والاستعداد لها بعمل الصالحات، ويتجلى ذلك في أن المسلم ينخلع من ملابسه وزينته، ويلبس ثيابًا أشبه بأكفان الموتى، والتلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه مقبلٌ على ربه، متجردٌ من عاداته ونعيمه، منسلخٌ من مفاخره ومزاياه، وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرَّروها من الظلم والشقاء.

 

3- التذكير بالتضحية والتي هي الأساس في النهوض بالأمة، والتخلص من براثن الأعداء، الذين يمكرون ليلاً ونهارًا لإذلال المسلمين ونهب خيراتهم، وأي درس أعظم في التضحية من صنيع إبراهيم وهو يضع السكين على رقبة ابنه امتثالاً لأمر الله، وكذلك الابن والأم ينقادان للأمر، طاعةً لله، ولله درُّهم أمهات فلسطين وهن يجهِّزن أولادهن للشهادة دفاعًا عن الدين والمقدسات والوطن.

 

4- في الحج التأكيد على وحدة المسلمين وأنهم أمة واحدة ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52)، وفي الحج يقف المسلمون فوق عرفات من كل البلاد والدول، تتلاقى قلوبهم وأرواحهم، يعلنون أنهم جسدٌ واحدٌ، ومشاعرهم واحدة.. عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" (مسلم).

 

أيها المسلمون..

هذا زادكم للثبات على الدين، ومن هذا الزاد نستمد القوة من الله لمواجهة الظالمين، ولن نقدر على مقاومة الفساد والقلوبُ معلَّقةٌ بالدنيا، أو مشغولةٌ بالشهوات، أو مُخلِدةٌ إلى الأرض..

 

لا بد لأصحاب الدعوة وكل من يحمل عبء الذَّود عن حياض الإسلام وحصونه المهدّدة أن يتخذوا من أبي الأنبياء قدوةً في التضحية والبذل والعطاء، ويكون لهم في خاتم النبيين والمرسلين القدوة والأسوة، فلا يتعلقوا بالأبناء، ولا يحرصوا على الوظائف أو الشهوات تعلقًا يُقعدهم عن الجهاد، فلقد أذلّ الحرص أعناق الرجال.

 

وليعلم أصحاب الدعوة أن أعين الشعوب معقودةٌ عليهم، وأن قلوبهم تعشق الإسلام، وأن أرواحهم في حنين لليوم الذي ترى فيه الإسلام، وقد خلَّصهم من براثن الظلم وشراك الطغيان والاستبداد.

 

واعلموا أيها الإخوان أن دعوتكم سوف تظهر، وأن الشعوب سوف تفيء إليكم، ولن يكون ولاؤها إلا لكم، وأن الظلم والفساد سينقشع، وأن العدل والرحمة والمساواة والأخوَّة والأمن سوف يظلِّل البشرية، ولكنَّ ذلك كله مرهونٌ بثباتكم وتضحياتكم، ومواصلةِ العمل لخير الناس، دون ملل أو سآمة أو كلل.

 

نداء للعالم الحر لنجدة غزة..

أيها الحكام المسلمون.. أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون..

إلى متى الصمت..؟ إلى متى التخاذل والقعود عن نصرة هذا الشعب الذي تآمرت عليه كل الدول وأحكمت حوله حصارًا جائرًا..؟ أما يكفي هذا الشعب ما حلَّ به من ويلات وآلام وتشريد وقتل..؟ إنها لَقلوب كالحجارة أو أشدّ قسوةً تلك التي ترى الظلام يخيِّم على غزة، والموت ينزل بالأطفال والمرضى والرجال والنساء، وينفد الطعام والدواء..!! ترى الدنيا كل ذلك، وما تحرَّكت أفئدة الذين يحنُّون على حيوان حين يعامَل بقسوة..!.

 

والأدهى من ذلك أن حكام المسلمين العرب وأعضاء الجامعة العربية لم يهبُّوا لنصرة إخوانهم، وليتهم إذ عجزوا عن ذلك لزموا الحياد، ولكنهم يُفرَض عليهم أن يُمسكوا بالحبل الذي يلف حول عنق غزة، ويأبون إلا أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على أيديهم، ولكنَّ الله غالب على أمره، والمرابطون على ثغر غزة جند الله، ولن يضيِّعَهم الله كما لم يضيِّع هاجر وابنها إسماعيل في بلد لا زرع فيه ولا ماء.. إنه الله الواحد الأحد القهار؛ الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يغفل عن الظلمة ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ (إبراهيم: 42).

 

أيها الصابرون الصامدون في غزة..

الثباتَ الثباتَ.. والصبرَ الصبرَ، فالنصر ليس إلا صبر ساعة، واعلموا أنه مع اشتداد الظلمة، يطلع الفجر، وفجرُكم قد بزغ، وحصارُكم بدت بشائرُ انفراجِه، وسوف يرجع كل من حاصركم أو تآمر عليكم بالخزي والهزيمة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

 

واعلموا أيها الأحباب المرابطون أن هناك من أيقن بهزيمته أمامكم، ولكن في الوقت نفسه لا يزال هناك من يصرِّح بأنه لن يسمح بانتصاركم، ومثله كمثل من يسعى لحجْب نور الشمس، أو من يطمح إلى أن يوقف سير الريح، أو سيل الماء المنهمر من السماء.

 

كم تمنَّيت أن أصنع من أجسادنا جسرًا في الفضاء لنجدة إخواننا في فلسطين، وكم تمنيت أن تسمح دول الجوار المسلمة بوصول المَدَد لهذا الشعب المحاصر!! ساعتها ستكون القوافل من أسوان إلى غزة بل ممتدة من العالم كله إلى فلسطين.

 

نداء للحجيج والمسلمين أجمعين..

في هذه الأيام، وخاصةً في يوم عرفة، ليكن شعارنا: "ربنا اكشف الغمة عن هذه الأمة"، وليكن دعاؤنا المستمر أن ينصر الله المسلمين المستضعفين في فلسطين، وأن يرفع الحصار عنهم، وأن ينصرهم الله على اليهود ومن والاهم، وأن ينصر الله إخواننا في العراق وأفغانستان والصومال وكشمير..

 

وندعو الله أن يطلق سراح المسجونين في كل مكان، وخاصةً في سجون الاحتلال الصهيوني والأمريكي، وأن يرزق أهليهم وأولادَهم الصبر والثبات، وأن يُعلي لواءهم ويخذل أعداءهم.

 

كما ندعو الله لإخواننا المسجونين في مصر؛ أن يفكَّ أسرهم، ويشرحَ صدورهم، ويثبِّتَ على طريق الحق أقدامهم، وأن يعيدهم إلى دعوتهم غانمين سالمين، وأن يتقبل الله عملهم في الصالحين، كما نسأله تعالى أن يربط على قلوب أهليهم وأسرهم وأولادهم، وأن يجعل صبرَهم وثباتَهم وصمودَهم في ميزان حسناتهم.

 

ولتجأر كل الألسنة بأن يهلك الله الظالمين، وأن يأخذ المفسدين، وأن يطهِّر البلاد والعباد من الطغاة المستبدِّين، والمحتلين المغتصبين.. إنه سميع قريب، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.. والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.