تتسارع وتيرة المخطط الداعي إلى انفصال السودان والمنادي بالحرب كذلك، فبعد أن ترك الوطن العربي والإسلامي قضية السودان؛ لتديرها المصالح الأجنبية و"الصهيوأمريكية"، بات لتحركات الملف السوداني وجهة واحدة هي كيفية تحقيق الانفصال، ولو بإهمال وتأجيل الملفات العالقة، ذات الحساسية الكبرى، رغم أن كلاًّ منها كفيلٌ بتفجير الحرب الأهلية من جديد.

 

شعار التأجيل الذي ترفعه الحركة الشعبية الجنوبية بإيعازٍ من الرعاة الأمريكان، لا يتناسب مع خطورة الملفات العالقة الشائكة، مثل مشكلة الجنسية لنحو 1.5 مليون جنوبي، يسكنون الشمال، ومشكلة ترسيم الحدود في كلِّ المناطق المتنازع عليها بين الطرفين بالنيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي، والأخيرة تعتبر النقطة الأكثر سخونةً واستعدادًا للحرب؛ نظرًا لاعتباراتها الثقافية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية.

 

وتقع أبيي بالمنطقة الحدودية بين الشمال والجنوب في غرب منطقة كردفان، ويحدها شمالاً المناطق التي تسكنها قبيلة المسيرية، وجنوبًا بحر العرب، وهو نهر صغير يفصل بين بعض مناطق الشمال والجنوب السودانيين، ويقطنها قبائل من العرب، وأكبرها المسيرية والزريقات، وقبائل من الزنوج، وفي مقدمتها الدينكا.

 

وكانت المنطقة جزءًا من ولاية بحر الغزال الجنوبية، قبل أن يتم ضمها إلى ولاية جنوب كردفان عام 1905م، ومنذ ذلك الحين وهي تتبع إداريًّا المناطق الشمالية، قبل أن تطالب الحركة الشعبية الجنوبية بالولاية عليها، بدعم من الإدارات الغربية، ما حوَّل أبيي إلى منطقة نزاع بين الشمال والجنوب.

 

وثائق بريطانية

وتؤكد التقارير البريطانية، إبان الاحتلال، أن قبائل المسيرية هي الأقدم بأبيي، التي عرفت أولاًَ رحلاتهم إليها، وإقامتهم بها نحو سبعة أشهر سنويًّا؛ بحثًا عن الماء والكلأ لماشيتهم، ويؤكد الناظر حريكة عز الدين، أحد قادة المسيرية، أنهم سكان أصليون في هذه المنطقة، وحدودهم مع منطقة بحر الغزال جنوب بحر العرب تصل إلى 40 كيلو مترًا.

 

وحسب تصريحات عز الدين لفضائية (الجزيرة)، فإن دينكا نقوك جاءوا من بحيرة نوح من أعالي النيل بالجنوب، واستقروا في ولاية بحر الغزال جنوب أبيي، وحدثت بعض المشكلات، فطلب مدير مديرية بحر الغزال من مدير كردفان ضم هذه المنطقة جنوب بحر العرب بـ40 كيلو مترًا إلى مديريته، بحكم أنها أقرب إلى جنوب كردفان في العام 1905م.

 

ويتابع قائلاً: وبما أن هذه المنطقة ليست منطقة زراعة وسكنَى، فقد طلب ناظر دينكا نقوك من ناظر المسيرية أن يسمح لهم بأن يقطعوا النهر شمالاً في داخل أراضي المسيرية بكردفان، وفعلاً سمحوا لهم، وبالتالي دخل الدينكا هذه الأرض ليست لأنها ملكهم، ولكن لأن المسيرية هم الذين استضافوهم.

 

تعايش سلمي

ووثَّقت مذكرات الاحتلال البريطاني حرص قبيلة الدينكا على أن تكون إلى جانب المسيرية في شمال السودان، حتى إن ناظر الدينكا "كوال أروب" عندما خيَّرته الإدارة البريطانية بين البقاء في الشمال أو الالتحاق بالجنوب في عام 1934م، فضَّل البقاء في الشمال على الجنوب، وعندما مات الناظر كوال وخلفه ابنه "دينق مجوك"، طرح عليه الاحتلال مرةً أخرى أمر العودة إلى الجنوب عام 1951م، فاختار بدوره البقاء في الشمال.

 

ويرى المراقبون أن المنطقة ظلَّت عبر تاريخها الطويل نموذجًا للتعايش السلمي بين القبائل الإفريقية والعربية، التي ترعى هناك، وظل التعايش أولوية بالنسبة لزعماء المسيرية والدينكا، مثل بـ"أبو نمر" ناظر المسيرية، "ودينق مجوك" سلطان الدينكا، اللذين عملا لعقود طويلة على احتواء أي نزاعٍ وحلِّ المشكلات بطريقة أهلية.

 

ويؤكدون أن شريكي المنطقة يمكن أن يحلوا مشكلاتهم لو تركتهم دعاوى السياسيين ومحاولات التفريق العصبية، والدليل على ذلك تعايشهم منذ العام 1905م، وكانت المشكلات الفردية يحلها نظار القبيلتين لإدراكهما المصالح المتبادلة بينهما، وتلك حقيقة تؤكدها عوامل الجغرافيا بالمنطقة، وخصوصية الرعي كحرفةٍ تحتاج براحًا للحركة والتنقل المستمر.

 

وكان الأمير أبو نمر في النصف الأول من القرن الماضي يجتمع كلَّ عامٍ مع نظار الدينكا؛ لبحث كلِّ المشكلات التي حدثت في الخريف، وإذا كان ثمة مشكلات يتم حلها، بهذا يتم تهيئة جوٍّ آمن للرعاة الداخلين والخارجين من بحر العرب.

 

وحرص دينق مجوك، سلطان الدينكا، الذي تسلَّم زعامة قومه في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، على نسج علاقات عميقة وقوية مع القبائل العربية، بل إنه اختار طوعًا الانضمام إلى الشمال، وسعى دائمًا للتحرك ضمن سودان موحَّد.

 

وشهدت العلاقات العربية الإفريقية باكورة التغيرات في فترة الرئيس السوداني الأسبق، إبراهيم عبود، ما بين العام 1958م، والعام 1964م، الذي حاول إنهاء مشكلة الجنوب عبر العمل العسكري، مع جهوده الكبيرة لفرض الأسلمة والتعريب هناك، وحينها بدأ عدد من أبناء دينكا أبيي في الالتحاق بالحركات المسلحة الجنوبية، وبات عدد كبير من أبناء المنطقة قياداتٍ في الحركة الشعبية، وفي مقدمتهم زعيم الحركة الهالك جون قرنق.

 

دعاوى الانفصال

واختفت اليوم اجتماعات التصالح والتعايش بعد رحيل القائدين العظيمين أبو نمر ومجوك، فيما يقف أبناء الأخير وأحفاده اليوم مع خيار الانفصال، ويريدون العودة إلى الجنوب، بل إن كثيرًا منهم باتوا قياداتٍ في الحركة الشعبية لتحرير السودان.

 

وفي المقابل فإن القبائل العربية (المسيرية والرزيقات) القاطنة في تلك المنطقة هم حلفاء إستراتيجيون لكلِّ الحكومات الوطنية بالسودان منذ الاستقلال، وظلَّت تلك القبائل تمثل حائط صدٍّ قوي في وجه حركات التمرد الجنوبية المسلحة؛ لذا فهنالك عدد كبير من قيادات الجيش الوطني السوداني من أبناء تلك القبائل.

 

ويوضح مختار أبو نمر، أمير المسيرية الآن ونجل مؤسس التعايش، أن الوضع ليس كما هو في السابق، فقد اتخذ الصراع بين القبيلتين بعدًا جديدًا شكَّلته حسابات السياسة، لتتحول طبيعة المشكلات في المنطقة- التي كانت غالبًا تخضع لقانون القبيلة- إلى صراع مسلَّح بين قبيلة المسيرية والجيش الشعبي لتحرير السودان التابع لحكومة الجنوب، وبعد التعايش المشترك، بات كلُّ طرف يدَّعي سيادته التاريخية على المنطقة، ويصف الآخرين بالغرباء.

 

وكما هي نقطة خلاف حالية قبيل الاستفتاء على تبعيتها للشمال أو الجنوب، فقد كانت كذلك في اتفاقات السلام بين الجانبين عامي 2004 و2005م، قبل الاستقرار على ترتيب الوضع القائم حاليًّا في أبيي؛ بإقرار أنها جسر بين شمال السودان وجنوبه، وتمَّ النص على أن الإقليم يشمل تسع مشيخات من قبيلة دينكا نقوق، تم تحويلها من بحر الغزال إلى كردفان في العام 1905م، مع احتفاظ قبيلة المسيرية العربية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقها التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي المنطقة.

 

ونالت أبيي وضعًا إداريًّا خاصًّا خلال فترة السنوات الست الماضية؛ فكان المقيمون فيها مواطنين بكلٍّ من غرب كردفان وبحر الغزال، ويتم تمثيلهم بالمجالس التشريعية للولايتَيْن، بينما يدير أبيي مجلسٌ تنفيذي محلي ينتخبه المقيمون فيها.

 

ونصَّت الاتفاقات على إجراء استفتاء منفصل في أبيي بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان يناير 2011م، لتخيير سكان أبيي بين الاحتفاظ بوضع إداري خاص في الشمال، أو أن تكون أبيي جزءًا من بحر الغزال، وبالتالي تابعة للجنوب وتلاحقه في مصيره سواء في الوحدة أو الانفصال.

 

محكمة لاهاي

وكما عانت قبائل تلك المنطقة من آثار الحروب الأهلية، فقد تعددت عليها الأزمات السياسية والأمنية حتى وقت قريب، وكان أقربها أواسط عام 2008م الماضي، التي كادت أن تعصف باتفاقية (نيفاشا) للسلام، قبل إقرار شريكيّ الحكم بالسودان، اتفاقًا لبسط الأمن بالمنطقة، وعرض ملفها على هيئة دولية متخصصة لترسيم الحدود النهائية لأبيي، وطرح الموضوع على المحكمة الدولية في لاهاي.

 

وبالفعل، قضت المحكمة الدولية- أواخر يوليو عام 2009م- بإخراج المنطقة من حدود دارفور وكردفان من حدود أبيي وضمها إلى الشمال، بمجمل ما يتراوح ما بين 10 إلى 12 ألف كيلو متر مربع من 16 ألفًا، هي مساحة أبيي الكاملة، على أن يكون الرأي الفصل في المنطقة الباقية، وتبلغ ما بين 4 إلى ستة آلاف كيلو متر مربع، للاستفتاء الذي تم تأجيله، وهو الذي سيقرر أن يقضي في تبعية المنطقة لشمال السودان أو جنوبه.

 

وقررت ضم قبائل المسيرية إلى أبيي، وبالتالي أصبح لأبنائها حقُّ التصويت في الاستفتاء؛ وذلك بعد أن رجعت المحكمة إلى قانون الاستفتاء الخاص بالمنطقة، "بأن حقَّ التصويت لقبائل دينكا نقوك، إضافةً إلى السودانيين الآخرين المقيمين بالمنطقة"، وأكدت أن المسيرية وإن كانوا رُحَّلاً يتنقلون شمالاً وجنوبًا، إلا أن أسلوب معيشتهم المترحل لا يسلبهم حقهم في ملكية أراضيهم، التي عاشوا فيها مئات السنين.

 

وبالطبع فأبناء المسيرية- وهم قرابة مليوني نسمة- يمثلون قوة تصويتية هائلة لصالح الوحدة، وهو ما ترفضه حكومة الجنوب التي تريد فصل المسيرية عن أبيي؛ حتى لا يختل التوازن التصويتي في غير صالحها.

 

وتقترح الحكومة السودانية أن تبقى أبيي منطقةً تكامليةً بين الشمال والجنوب تربط شعب السودان، في حال الوحدة أو الانفصال، مؤكدةً رفضها القاطع لضم أبيي كاملةً إلى الجنوب، مهما كانت الحوافز والإغراءات المالية التي تعدُّ بها الحكومات الغربية.

 

وأعلنت رفض عرض أمريكي بإقامة استفتاءي الجنوب وأبيي في موعدهما– مع حرمان أبناء المسيرية من الاقتراع- مقابل رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات الاقتصادية عنه!.

 

حرب المرعى والنفط

وفيما تتواصل مشكلة أبيي حول أصحاب حق التصويت، التي أجلت الاستفتاء إلى موعد غير مسمى، فثمة آراء كثيرة تتوقع أن تكون المنطقة سببًا في عودة النزاع المسلَّح مرةً أخرى بين الشمال والجنوب، لا سيما أن حقول البترول في المنطقة تدفع الحركة الشعبية إلى تأجيج الصراع حولها، إذ تضعه حكومة الجنوب في مقدمة مواردها الاقتصادية حال الانفصال.

 

أما قبائل المسيرية فهم يرون أن ضم أبيي إلى الجنوب أو تقسيم البلاد إعلان حرب صريح عليهم، وحكم بالموت على ماشيتهم التي هي مصدر رزقهم، ما يؤكد أن المخطط الذي تتبناه الحركة الشعبية لفرض الانفصال بالقوة الجبرية على أهل الجنوب والسودان كله، لا تحمل بشائره سوى إنذارات حروب متعددة الأطراف، داخل السودان وخارجه.