بسم الله الرحمن الرحيم

في الخامس عشر من مايو قبل ثمانيةٍ وخمسين عامًا وقعت أكبرُ جريمةِ اغتصابٍ وسرقةٍ في تاريخ الإنسانية، حين تحالفت قوى الاستعمارِ والبغيِ مع الصهيونيةِ الحاقدةِ ضد الشعب الفلسطيني لتسلِبَه حقَّه في أرضه ووطنه وتعلنَ قيامَ الكيانِ الصهيونيِّ الغاصب.

 

كانت المؤامرةُ على فلسطين قد بدأت قبل ذلك بنصفِ قرنٍ، حين اجتمع زعماءُ اليهود في سويسرا عام 1897م، وقرَّروا السعيَ لإقامةِ وطنٍ قوميٍّ لليهود، ثم استقرَّ مخطَّطُهم على أن يكون هذا الوطنُ المزعوم في فلسطين، وبعدها نجحوا- بالمكرِ والخديعةِ وشراءِ الذمم- في أن يستخلصوا وَعْدًا من بريطانيا بالمساعدة على تحقيق هذا الغرض اللئيم!!

 

وكانت عصبةُ الأممِ قد وضعت فلسطينَ تحت الانتدابِ البريطاني حتى تنال استقلالَها.. لكنَّ بريطانيا الاستعمارية خانت الأمانة، وبدأت في تمكينِ اليهود من فلسطين، والسماحِ لهم بالهجرة الجماعية، وتمكينِهم من أراضي الفلسطينيين، كما قمَعَت- بقسوةٍ وعنفٍ- ثوراتِ الشعب الفلسطيني، الذي أدرك مبكرًا المؤامرةَ التي تُحاك ضدَّه، وقاوَمَها بكل بطولةٍ وبسالةٍ، وشاركتْه جهادَه القوى الشعبيةُ الإسلاميةُ من البلدان الأخرى، وخاصةً الإخوان المسلمون من مصر وسوريا والأردن.

 

لكنَّ تآمُرَ حكومات الأعداء وتخاذُلَ حكوماتِ الأشقَّاء.. أسفرَ عن وقوع الكارثةِ التي حلَّت بالشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرَّين منذ ذلك التاريخ، ولم يكتفِ العدوُّ الصهيونيُّ باحتلال الأرض، ولكنه قام بإخراج أصحابِها الشرعيين منها، فارتكبَ المجازرَ والمذابحَ لدفعِ الفلسطينيين إلى الهجرة خارجَ بلادهم، حتى تم إخلاءُ أكثرَ من 350 مدينةً وقريةً غادَرَها أهلُها إلى مخيمات الشتات، التي لا يزالون يُقيمون فيها حتى اليوم هم وأبناؤهم وأحفادهم.

 

ولم يكتفِ العدوُّ الصهيونيُّ بما فعل، ولكنه- وبدعمٍ من أمريكا- ظلَّ يُثير الفتنَ، ويُشعل الحروبَ، ويَعيث في الأرض فسادًا، ويعتدي على الدول المحيطة، ويرتكب المذابحَ بحقِّ أهلها وبحق الشعب الفلسطيني، حتى أكمل عام 1967م احتلالَه لسائر فلسطين.

 

ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يَخرج من رحمِ المأساة جيلٌ جديدٌ من المجاهدين والمناضلين الفلسطينيين، الذين لم تَكسِر عزائمَهم النكبات، رغم أنها تهدُّ الجبالَ، ولم يفتَّ في عضدهم عِظَمُ التحديات، رغم أنها تُقعد أقوى الرجال، فأعلنوا ثورتَهم على الظلم، ورفضَهم للضَّيم، وأعلنوها صراحةً: "إما عودة فلسطين كما تركها لنا أجدادنا وإما الشهادة دونها".

 

وكانت انتفاضةُ الحجارة في ديسمبر 1987م وانتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000م، وكانت عملياتُ المقاومة والعمليات الاستشهادية وإطلاق الصواريخ على المستوطنات وغيرها، كما أدرك الشعبُ الفلسطينيُّ حاجتَه إلى حكومةٍ تعبر عن أمانيه وتطلعاته، فكان أن اختار مؤخرًا في 25/1/2006م برلمانًا منتخبًا انتخابًا حرًّا ونزيهًا، أفرز حكومةً تقودها حركةُ المقاومة الإسلامية حماس، فجُنَّ جنونُ الصهيونية ومَن معها، وأعلنت الحصارَ الجائرَ على الشعب الفلسطيني، حتى ترضخ حكومتُه وتُسلِّم للمغتصب بما سرق، وتُدين نفسها لأنها تجرَّأت وأعلنت المقاومةَ ضد المحتل الغاصب!!

 

إن هذا الجبروت والطغيان لن يُثني الشعبَ الفلسطينيَّ عن قضيته، ولن يردَّه عن طلب حقه في الحياة حرًّا كريمًا كسائر الشعوب، ولو كان الجبروتُ والطغيانُ يَنال منه لأعلن استسلامَه يوم مذبحة (دير ياسين) أو (صبرا وشاتيلا) أو (جنين)، لكنَّ دماء الشهداء إنما تَروي شجرةَ الحرية، وسيَسقط الحصارُ المفروضُ اليوم على الفلسطينيين كما سقط حصارُ أهلِ مكةَ للنبي- صلى الله عليه وسلم- وصحبِه في شِعب أبي طالب.

 

إن الشعبَ الفلسطينيَّ يقاتل منذ أكثر من نصف قرن في معركةٍ لا تخصُّه وحده ، فالمشروع الصهيوني يستهدف منذ بداية نشأته المنطقةَ بأسرِها، وعليه فإن نصرة الشعب الفلسطيني واجبٌ على كل الشعوب والحكومات العربية والإسلامية، واجبٌ دينيٌّ ووطنيٌّ وأخلاقيٌّ وإنسانيٌّ، وهي قضية أمن قومي لكل بلاد المنطقة.

 

ولا تزال هذه النصرة دون المستوى المطلوب، خاصةً من جهة الحكومات التي تملك أن تفعل الكثير ولكنها لا تؤدي إلا القليل، بل إن بعضها يمثل شوكةً في ظهر الفلسطينيين بمشاركته في تنفيذ مخططات أعداء الأمة وتقاعسه عن القيام بواجبه.

 

وعلى الشعوب أن تتحرك لفك الحصار الإجرامي القاتل عن إخواننا الفلسطينيين، ولإجبار الحكومات على اتخاذ مواقف النصرة التي تفرضها أخوَّة الإسلام والعروبة والإنسانية.

 

لقد انكفأ العدوُّ الصهيونيُّ على نفسه، وسقطت أحلامُه التوسعيةُ، بعد أن كان يطمع في أن يَحكم المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات، وأصبحت غايةُ أمانيه اليوم أن يعيش داخلَ الجدار العازل الذي أقامه حول نفسه، ولكنَّ هذا الجدارَ لن يحميَ غاصبًا، ولن يوفر الأمان لمحتلٍّ، وسيَصدُق عليهم قول الله تعالى: ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ﴾ (الحشر: 14) وسيَسقط الجدار إن شاء الله، ويزول العدوان والاحتلال.. ﴿ويَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: 51) ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 4، 5).

 

محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

القاهرة في: 16 من ربيع الآخر 1427هـ= 14 من مايو 2006م