الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وحزبه وجنده، ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه، وأحيا سنته وسار على نهجه، وبعد..


فقد خلّد الله تعالى رحلة الإسراء بسورة في القرآن الكريم تحمل اسمها وقال تعالى في مطلعها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1). كما خلد سبحانه رحلة المعراج في ثماني عشرة آية من مطلع سورة النجم.. قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 1 - 18).

ولنا مع هذه الرحلة المباركة هذه الوقفات:


الوقفة الأولى: العبودية لله أقصى درجات الحرية


وتأملوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ وهو يصف خاتم أنبيائه ورسله في سياق التكريم؛ فإذا كانت العبودية للبشر قيدًا مكبلاً تنفر منه كل نفس حرة أبية؛ فإن العبودية لله تعالى هي عين الحرية، وإذا كانت العبودية للبشر رمزًا للذل والمهانة، فإن العبودية لله تعالى هي مصدر العزة والكرامة؛ فمن كان عبدًا لله وحده لن يقبل البتة أن يكون عبدًا لغيره، ومن كانت ضراعته لله وحده فلن يضرع في حضرة ذي سلطان، ومن كانت رغبته فيما عند الله ورهبته من سخط الله، تحرر من الرغبة والرهبة المرتبطة بلعاعة الدنيا ورضا أو غضب الجبارين من أهلها؛ ومن تعوّد الركوع في حضرة الكبير المتعال فلن يحني صلبه أو يطأطئ هامته لأحد من الطغاة رغبة أو رهبة، ومن تمام عبوديتنا لله تعالى أن نحب قدره الذي قدره لنا، ونمضي في طريقه لا نلتفت، وننطلق في سبيله لا نتردد، ونطوي طول الطريق ونتخطى كل العقبات في معيته سبحانه والأنس به، فكونوا أيها الأحباب عبيدًا لله تكونوا سادة الدنيا، وأكثروا من السجود لله يعينكم ذلك أن ترفعوا رؤوسكم في العالمين، ورحم الله الإمام البنا الذي يقول: "كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوادًا تصل بكم العبادة إلى أفضل قيادة".


الوقفة الثانية: من رحم اليأس يولد الأمل


فالفرج يأتي دائمًا بعد الشدة، واليسر يأتي بعد العسر، والفجر يأتي بعد الليل البهيم.. ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 5- 6).


وقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد سلسلة من الشدائد والصعاب منها وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ووفاة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومصادرة الدعوة في مكة وتخوف الناس من الدخول في الإسلام، وحزن الرسول لذلك، وطرده صلى الله عليه وسلم من الطائف بطريقة يندى لها جبين الإنسانية، فكانت هذه الرحلة تفريجًا للكرب، وتضميدًا للجرح، وتسرية للنفس، وبثًا للأمل، وتجديدًا للعزم، وبداية جديدة تفتح الآفاق على مستقبل واعد للدعوة المضطهدة يتجاوز حدود مكة والطائف، ويُطوف بها في أرجاء الأرض، وتنفتح لها أبواب السماء، ويقبل عليها الإنس والجن.

فأبشروا أيها الأحباب؛ فمهما اشتد ليل الظلم فإن فجر العدالة سيشرق من جديد، وإذا ادلهمَّت الخطوب فإن فرج الله قريب، فاعملوا في جدٍّ، وتوحدوا في حبّ، وتعاونوا في ودّ، وثقوا في نصر الله، واستفرغوا وسعكم وتوكلوا على ربكم ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).

الوقفة الثالثة: الإيمان والثقة منجاة من كل فتنة


 فقد حاولت قريش أن تصطاد في الماء العكر، فأخذت تثير دعاية سوداء؛ مؤداها أن قريشًا كانت تضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرًا ذهابًا وشهرًا إيابًا فكيف يذهب إليه محمد ويعود في جزء من الليل؟!؛ وقد تأثر بعض ضعاف الإيمان بهذه الدعاية السوداء المغرضة، لكن الإيمان المستقر في قلب الصديق أبي بكر، رضي الله عنه، كان عاصمًا له من الانزلاق في هذه الهاوية، وقال: "لئن كان قال فقد صدق، إني لأصدقه في ما هو أكبر من هذا، أصدقه في الخبر يأتيه من السماء"؛ فكان هذا الإيمان وهذه الثقة في الرسول القائد صلى الله عليه وسلم منجاة له من السقوط في بئر الفتنة والوقوع في شرك الدعاية السوداء، واليوم يحاول الانقلابيون في مصر بث الدعاية السوداء عن الإخوان والمشروع الإسلامي ووصم الإسلام بالعنف والإرهاب، والهجوم الممنهج على ثوابت الإسلام ورموزه، ولا يمكن الوقوف في وجه هذه الموجة العاتية التي تستهدف الإسلام وكل العاملين المخلصين لإعادة مجده إلا بالثقة في المنهج والثقة المتبادلة بين كل العاملين له، ولا يكون ذلك إلا بوحدة الكلمة، ورصّ الصفوف وتنسيق الجهود، ومشاركة كل المخلصين، وإيقاظ الشعوب الإسلامية للقيام بواجبها في مقاومة الأنظمة الانقلابية والقمعية، وزيادة ثقة الشعوب بالمشروع الإسلامي، وصلاحية الإسلام لتنظيم كل شئون الحياة في كل زمان ومكان، وثقتها في براءة الإسلام ورموزه ودعاته من التهم الظالمة التي تُلصَق به زورًا وتدمغه بالعنف والإرهاب، وهو دعوة السلام والحرية لكل العالم، يحفظ الدماء والأعراض والأموال، ويُحرم العدوان عليها تحت أي ذريعة، ويرفض إهدارها بأي حجة، إلا ما كان قصاصًا عادلاً، ولا يفرق بين دم ودم، ولا بين عرض وعرض، ولا يبيح ترويع الآمنين بأي حال؛ فاعملوا على توعية الشعوب وزيادة ثقتها بنفسها، وقناعتها بأن الانقلاب هو الإرهاب الذي يقمع الناس، ويسرق قوتهم، ويصادر أحلامهم، ويكبّل حريتهم، واعملوا على زيادة ثقته بنفسه وقدرته على مقاومة الأنظمة الانقلابية والقمعية حتى ينال حريته ويكسر قيده، ويحقق حلمه ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من  الآية 51).

الوقفة الرابعة: المسجد مؤسسة الإسلام العظمى

فالمسجد هو المؤسسة المحورية في المجتمع الإسلامي؛ ولتأكيد هذه المكانة الخاصة فقد بدأ الله تعالى رحلة الإسراء والمعراج من أول بيت وضع للناس، وهو المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، في أرض الجهاد والرباط، وعلى الأمة الآن أن تعيد للمسجد مكانته، كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم محرابًا للصلاة، وجامعة للعلم، وساحة للقضاء، ومؤسسة ثقافية وتعليمية، ودارًا للاجتماع والخدمة العامة والرعاية الاجتماعية؛ ولا بد أن تتكاتف جهود الأمة لصد الهجمة الشرسة التي تمارسها الأنظمة الانقلابية والقمعية في محاربة المسجد وتقزيم دوره في المجتمع، وملاحقة رواده والتضييق عليهم، والتضييق على مؤسسات تعليم القرآن الكريم، كما يجب على علماء الأمة التصدي للهجمة الأخيرة على الأزهر الشريف ومناهج التعليم فيه، والتصدي لوصفها بأنها قمامات فكرية تفرّخ الإرهاب، ويجب أن نفرق بين الأزهر كمؤسسة عريقة ورمز للإسلام الوسطي في العالم الإسلامي كله وبين مواقف بعض رجاله الداعمين للانقلاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).

الوقفة الخامسة: القدس قضية كل مسلم

فلا شك أن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأن القضية الفلسطينية هي القضية المحورية للأمة الإسلامية؛ فهي الأرض المباركة، أرض الإسراء، ومهاجر إبراهيم عليه السلام.. قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (71) وهي أرض الجهاد والرباط إلى يوم القيامة، وتحرير المسجد الأقصى من الصهاينة الغاصبين واجب على كل مسلم كل علي قدر طاقته، والأمة الإسلامية مطالبة بالتكاتف لتحرير كل شبر من أراضي المسلمين من كل غاصب.

ومهما كانت المشكلات الداخلية لكل قطر من أقطار العالم الإسلامي فإن ذلك لا يبرر التقوقع والانكفاء على الذات، ونسيان القضايا الجامعة للأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وقضايا الأقليات الإسلامية المضطهدة، وتحرير أراضي المسلمين المحتلة من كل سلطان أجنبي، والحفاظ على وحدة أراضي الأقطار الإسلامية المستهدفة بالتقسيم، خاصةً في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وعلى أهل السنة في كل مكان أن يستيقظوا من سبات، ويقوموا من رقاد، ويتنبهوا للمخاطر الجسمية المحدقة بهم من كل مكان، وتهدد وجودهم ومصيرهم، ويتوحدوا في مواجهتها، دون إبطاء أو إرجاء أو تهاون؛ فإن الزمن لا ينتظر، والعدو لا يفتر، وما يمكن عمله اليوم قد يصبح غدًا متعذرًا، فالبدار البدار، والوحدة الوحدة، والعمل العمل.. ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 105).

الوقفة السادسة: الصلاة معراج المؤمنين

فالصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، من غير واسطة، فقد تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم التكليف بهذه الفريضة العظيمة من الله مباشرة، عند سدرة المنتهى في رحلة المعراج؛ بينما تلقى كل التكاليف الأخرى بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ فكما دعا الله تعالى رسوله إلى حضرته في هذه الرحلة فإنه يدعوه وأمته إلى يوم القيامة للحضور في ساحة الله تعالى كل يوم خمس مرات، وبذلك تكون الصلاة معراج المؤمن إلى الله تعالى يستعلي بها على جواذب الطين والأرض، ونداء الحمأ المسنون، وضغوط الواقع المؤلم؛ فيعيش هذه اللحظات في الملأ الأعلى فيطمئن بها القلب وتسكن النفس ويتجدد العزم وتقوى الإرادة، ويتبدد بها القلق والخوف واليأس والإحباط، وصدق الله العظيم.. ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: من الآية 19).

أ. د. محمود عزت

القائم بأعمال المرشد العام للإخوان المسلمين

الإثنين 27 رجب 1438هـ 24 أبريل 2017م