بشوشًا كان حين تراه وأكثر بشاشةً وأنت تختلف معه أو تظن أنك تختلف معه.. دقيقًا حين يسرد التاريخ.. واقعيًّا حين يستدل بالوقائع والمعطيات.. منهجيًّا وهو يطرح حتى ولو كان الموضوع عاطفيًّا.. انتقد جهل المسلمين، وواجه الشيوعيين، قاوم المتطرفين وأثبت بالدليلِ تهافت العلمانيين وانتصر للمعتدلين.

 

إخوانيًّا كان منهجًا وفكرًا وسلوكًا حتى بات وكأنه مَعْلَمٌ من معالم هذه الدعوة المباركة
عزَّ عليه سوء فهم البعض لما قاله الشهيد سيد قطب فبيَّن للناس أجمعين أنَّ للعاطفة دورًا ولكنَّ الموضوعيةَ هي أصدق أنباء وهي أصدق حديثًا.

 

باسم الوجه.. لا تُفارقه كلمة (يا أخي) حتى يكاد المرء أن يصدق نفسه أنه أخ أو صديق قديم لهذا العلم الكبير، لم أسمعه يومًا يتحدث عن محنته في سجون عبد الناصر.. رغم أنه كان من بين ضحاياها.. آثر أن يُعْمِل التفكير في مواجهةِ أصحاب منهج التكفير.. ناصر الشريعة وانتصر لها وأثبت أنها قادرةٌ على التعايشِ مع كل عصر وقابلة للتطبيق في مصر شريطة الفهم.. وآهٍ وألف آهٍ حين يغيب الفهم.

 

كان مستشارًا أمينًا، حين تلم الملمات بالأمة المكلومة في فهمها.. يُنادَى عليه من بين الناس أيا سالم.. أرحنا بفهمك وعلمك وحكمتك... وكان دائمًا لها.

 

انحاز للأسرة وقاوم نهج تهميش المرأة.. كان يستمع لقضاياهن أو قل شكواهن ثم يمنحهن من خبرته في الحياة.

 

لا تكاد تخلو حلقة نقاشية أو ندوة فقهية أو مؤتمر يناقش شئون المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم إلا والبهنساوي هنالك بورقة أو مداخلة أو فتوى أو رأي.

 

حين عُقد مؤتمرٌ عن الإسلاميين والديمقراطية الذي نظمته جريدة "الوطن" الكويتية تحت رعاية معهد كارينجي للسلام الأمريكي.. وبعد أن لاحظ كما هائلاً من "العك" والفتوى
والاتهام والهجوم على الإسلاميين وخصوصًا على الإخوان المسلمين انتفض كالأسد الهصور ينافح عن الشرع والدين ويبين ما التبس على الحضور من مقاصد الشرع الحنيف ويذب عن الإخوان ويبين للحضور ما غاب عن الأفهام.

 

تعرفتُ عليه من كتبه وشدني كتابه القيم عن الحكم وقضية التكفير، ثم كتابه (أضواء عن معالم في الطريق) مثل الأخير صدمة كبيرة للبعض لكنَّ الرجل كان أمينًا مع نفسه
وعلمه ومع الشهيد سيد قطب.. كان يرى أن سيد قطب أصبح جزءًا من الدعوةِ ولا يحق لأحد أن يحتكر حق تفسير مراده حتى ولو كان من بيته وأهله.

 

ثم التقيته.. كان مستمعًا رائعًا، لا يقطع عليك قولتك، يدعك تسترسل حتى إذا ما اصطدمت بالتاريخ والمنطق هنالك ينطق.. ويبدأ حديثه معك بقولته الشهيرة (اسمع يا أخ فلان) ثم يسرد عليك الحقائق بتواريخها وشخوصها ويكشف الستار عن الأسرار بكل ثقة واطمئنان.
دعاني إلى بيته في الكويت، مكتبة عامرة، كتب هنا ومؤلفات هناك.. ضيف من أمريكا وآخر من كندا.. كلهم جاءه يطلب العونَ من أجل الدعوة أو الحكمة أو المشورة.. تمتد مائدة الطعام ومعها يحلو الكلام.. يقدمك للناس بما يليق بمكانته ويفسح لك مكانًا بين الكبار لكي تدلي بدلوك في شتى الآراء.

 

دعوتُه للإفطار في أحد أيام رمضان قال لي: "تعرف يا أخ حمزة، أنا لا أستطيع أن أترك زوجتي وإن كنت أحب أن أُلبي دعوتك".. تفهمتُ الظرفَ وقبلتُ العذرَ وقلتُ له على الهاتف:
فكِّر ثانيةً إنَّ حضورك يُشرفني وأهل بيتي".. بعد ساعة أو أقل رن الهاتف

 

- من معي؟

 

- أنا سالم البهنساوي..

 

- يا مرحبًا أهلاً وسهلاً..

 

- اسمع يا أخ حمزة، أنا تحدثتُ مع زوجتي وقالت لي إنها ليس لديها مانع أن أتركها إكرامًا لدعوتك.

 

الله الله.. هيأت أهل بيتي وبشرت أبنائي.. ها هو علم من أعلام الدعوة والعلم والمعرفة  سيشرفني وسيراه أبنائي في بيتي.

 

جاءني ويداه لا تخلوان من هديةٍ للأولاد.. تناولنا طعامَ الإفطار مع زُمرةٍ من أهلِ العلم والفضل والمعرفة ودار كما هي العادة بيننا حوار.

 

آخر اتصال بيني وبينه كان قبل أسبوعين تقريبًا.. كنتُ أريده لحلِّ بعض الخلافات الأسرية وإسداء النصح لبعض العائلات.. حاولت بهدوء أن أشرح له طلبي ففاجئني بقوله

 

- يا أخ حمزة متى تريدني؟

 

- معاذ الله!

 

- أتساءل إن كان لديك وقت..

 

- تحت أمرك..

 

- يا الله من أي طينةٍ خلق هؤلاء أبشر مثلنا؟! فما بالنا لا نشبههم

 

يا معلمي على قصر الوقت الذي تعرفت فيه عليك كم أنا حزين لأني سأفتقد هامة عالية  وقلبًا رحيمًا وعقلاً سليمًا وبيتًا كريمًا، سأفتقدك أيها المفكر الكبير.. والعالم الجليل.. سأبكيك لأنني قبل فراقك بأيام قلائل كنت أناقشُ أحدَ الإخوة في حتمية إعادة التفكير في قضايانا المحلية والعالمية، فقال لي: نحن نريد أناسًا على شاكلةِ المستشار سالم البهنساوي.. أين نجدهم؟ دلني يا صديقي.

 

نَمْ هانئًا سيدي.. فلقد ولدتُ في مصر وفيها عُذبت ومنها نُفيت وفي الكويت أشع نور فهمك وانتشر علمك وعرفك الناس من جديد.

 

وفي بلادِ ما وراء القوقاز وافتك المنية.. وفي الكويتِ سنواريك الثرى وكأنَّ الله اختارك لتكون عالميًّا؛ تُولد في مصر وتعيش في الكويت لتموت في أقاصي الأرض وتُدفن هنا في الكويت.. نم يا معلمي واهنأ بمقامك ودع لنا الأحزان في عالمٍ سيخلو من ابتسامتك.

 

سلامٌ عليك وعلى مَن سبقوك على الدرب، ورضي الله عنك وأرضاك.