البطل في الأدب الإسلامي


بقلم: د. نجيب الكيلاني
 
 
البطل في العمل الأدبي ـ قصة أو مسرحية أو ملحمةـ هو تجسيد لمعانٍ معينة، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها، وقد يكون هذا البطل أنموذجاً يحتذى، أو مثالاً سيئاً يولد النفور والاشمئزاز، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولاً أو رفضاً، وكلما كانت الشخصية ـ البطل ـ قريبة من الواقع، حافلة بعناصر الإقناع، مكتملة الملامح والسمات، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيراً.

ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم، تجعله أكثر تحديداً وظهوراً، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها، وعواطفها وأفكارها وأحلامها، وتطورها من حال إلى حال، وقد تصاب هذه الشخصية ـ لأسباب فنية أو موضوعية ـ بالتجمد أو التحجر.

وترتبط شخصية البطل ـ وخاصة في المسرحية ـ بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان، وهذه كلها ـ في كثير من المواقف ـ جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية.

وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديماً وحديثاً من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئة، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعاداً داخلية وخارجية متميزة، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث، وما يناط بالمرء فيها من عمل، وطرائق كسب العيش، والانهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك.

وكانت التراجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار، بينما الواقعيات الحديثة بالإنسان العادي البطل، الذي يصارع من أجل حياة أفضل، وكان المثال ـ البطل ـ الإغريقي يصارع قوى الشر وآلهة الأولمبي، وفق قناعات وثنية مادية، بينما المثال في الواقعية الاشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي، والاستغلال الرأسمالي، في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي، وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا.

ويتميز البطل (الوجودي) بحساسية مفرطة، ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة ـ صحيحها وباطلها ـ وينفر من القيم الدينية وأخلاقية، ويظن أن هذه أنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده، ولذلك جاء البطل متمرداً رافضاً ساخطاً على كل شيء في الحياة القائمة.

وفي هذا الجو أيضاً ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمُه، فلا هو نعم بالإيمان الموروث، ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك، فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللافلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير ، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح.

وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساة، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب.

وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو الميتافيزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسه بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها.

 
كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة ـ أو الأربعة ـ الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة، ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولدت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل إن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرأ تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية وتتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان. أما الفلسفات ـ وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ـ فإن الأمر يعتبر غريباً، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج .

ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا إبان ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية وأخلاقية، وصاغها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.

في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية (البطل ) في الآداب الأوربية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة ـ كإنسان العصر ـ غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً، لا يعرف الطمأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة، أو الحب الحقيقي، إنه يعاني الأرق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خوائه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة.. ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوربية، بل في آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب.

بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل بطل منطوٍ منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحدة.

بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدات والشذوذ، يمضي مختاراً إلى حيث الفناء.

بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعه الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء بطل بلا فضيلة.

ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته، راغباً في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال (العلم) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات، قد ذاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.

والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟

 
إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل ـ إسلامياً ـ هو (القدرة) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام (نماذج) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هام لا بد وأن يحتفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج الشائهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديماً وحديثاً، وشرقاً وغرباً، بل ربما كانت هذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لأنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة، ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدرة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطبية وحمايتها من الانزلاق أو المروق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، وفتح باب الأمل اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال.. البطل في العمل الأدبي الإسلامي هذا.. وذاك.. لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة.. كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولاً، وفي معترك الحياة ثانياً، ومن هنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها باباً مفتوحاً حتى نهاية الحياة.

والبطل في الأدب الإسلامي حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاصيل فيه (..إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)، والتقوى ليست صلاة وصوماً وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزارعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء ، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي بها الإسلام الحنيف .

شخصية البطل إذن قد تكون (بلال بن رباح) العبد الحبشي، وقد تكون (أبا بكر الصديق) خليفة المسلمين، وقد تكون (سلمان الفارسي) أو (حمزة بن عبد المطلب) القرشي، وقد تكون (سمية) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعاً، أو شيخاً مسناً .

إن البطل ـ كما قلنا ـ تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دوراً تمتزج فيه المتعة لدى لفكري يرى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحالة يتحول ـ تلقائياً ـ إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة.
 أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا تكون وظيفته إذن؟؟

لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل ؟؟

إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائياً، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها اللافتة للنظر، فيرى الكاتب أن هذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دوراً أخاذاً في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكاً أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعملة الأدبي.

 
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسمات جديدة، ويحشد لها الأحاديث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادراً على أداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: (الشكل فيما أعتقد هو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد استفيد مثلاً من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي .. إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتداداً له أم تطورياً، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية.. فالجديد الفنان نفسه.. والفنان بالطبع هو عصره.. (

وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هي البداية، ولكنهم يبدؤون بالفكرة، إن أديباً مثل (برنارد شو) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام (الفكرة لديه هي البطل الحقيقي)، فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكر أكثر من ارتباطها بالبطل، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على (وضع ) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها على حساب جزء من الصياغة الفنية .

ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية في العمل الأدبي قد تتمرد! كيف؟ إن الكاتب يضع تصوراً عاماً عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها لكن اندماجه في العمل، ومسرحية في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالاً، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف سمة أو عملاً أو قولاً لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هذه الصورة الحتمية في الواقع، لأن يقظه الكاتب، واستيعابه لأطراف القضية المطروحة قادراً على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاماً للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.

ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي: هل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعاً من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب!؟

إن الكاتب إذا التزم حرفياً بما جاء في كتب التاريخ، فلن يقدم عملاً فنياً، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنياً والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعه قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجية في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالاً وثيقاً.
 إن فهم الشخصية على هذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هذه الشخصية المعروفة، لكن يظل (الخطر) ماثلاً بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ .

 
ولقد عانيت من هذه المشكلة حينما كنت أكتب رواية (عمر يظهر في القدس) ورواية (قاتل حمزة)، وكذلك رواية (نور الله) وغيرها، لكني كنت حريصاً أشد الحرص على ألا تأتي الشخصية الروائية بأفعال أو أقوال تتناقض مع طبيعة الشخصية التاريخية، ولم أجد في تقرير لجنة مسابقة مجمع اللغة العربية التي أعطت جائزة الروائية لقاتل حمزة (1972م) ما يشير إلى اعتراض اللجنة على منهجي في كتابة هذه القصة التاريخية، وخاصة أن شيخ الأزهر آنذاك كان عضواً باللجنة .. وبالطبع فإن هذه (الرخصة المقترحة) إن صح التعبير لا تنطبق فيما نكتبه على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.

ولا بد أن نشير إلى الشخصية الواقعية ـ سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي ـ تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبول، حتى على مستوى الأطفال، الذين أصحبوا أكثر ميلاً للواقع في هذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعمول والمحك في النجاح أو الفشل.

لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقاً، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، ألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هذا التشويه إلا جمالاً ومثالاً احتذى، ودور الأدب الإسلامي ـ وفق منظوره الإلهي ـ أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكرياً ونفسياً وسلوكياً أصبح ينتزع في الغرب التصفيق ولإعجاب والتعاطف.. ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس (الإيدز) ذلك الداء اللعين .