بقلم: د. محمد بديع*
 
أعتقد أن كل واحد منا يحتاج إلى نظرة خاصة لهذه الذكرى، تختلف عما ينظر به الآخرون من سردٍ تاريخيٍّ أو رصدِ أحداثٍ عاشها الأستاذ البنا رحمه الله أو مقالات كتبها أو رسائل أصدرها.

 

ولو تخيَّل كلُّ واحد منا أنه مكان الأستاذ البنا ماذا كان سيفعل في ظروف استعمار جاثم على صدور البلد، وحكم ملَكِيٍّ متواطئ مع هذا الاستعمار، وشعب مصري مغلوب على أمره، يحب دينه بفطرته ولكن لا يعلم عنه إلا قشورًا، ولا يمارس منه إلا مظاهر عبادية، لا تترك أثرًا في خلُق أو سلوك، وحياة حزبية فاسدة، يتصارع زعماؤها لتحقيق أهداف دنيوية محدودة، ثم والأصعب من هذا كله أنه لم يجد أعوانًا على الخير فقرَّر أن يبدأ بنفسه؟! 
 
 
 هل رأيتم أن الظروف التي عاش فيها الأستاذ البنا- رحمه الله- طيلة عمره الذي بدأ من مثل هذه الأيام، وشاءت إرادة الله ألا يطول أكثر من اثنين وأربعين عامًا كانت ظروفًا أسوأ وأشدَّ قسوةً من كل ما يتعرَّض له كل واحد منا أيًّا كان موقعه.. فماذا فعل؟!

 

لم يكن كل ذلك مبرِّرًا لقعوده عن القيام بواجبه، بل وجد أن بإمكانه الكثير:

أولاً: وهذا أهم ما نحتاج إليه جميعًا الإخلاص في النية والتوكل على الله عز وجل، ونحسبه- ولا نزكيه على الله- أنه وضع كل همِّه في إخلاص نيته، وببركة هذا الإخلاص وُضِعَ له القبول في الأرض، وبارك الله في كل جهد يبذله، وكل كلمة يقولها، وكل عمل يقوم به، ولقد سالت كثيرين ممن سمعوا كلامه فكان ردُّهم بالإجماع أنه يأْسِرُ القلب قبل أن يُقنع العقل، وما أحسب إلا أن هذا سرُّ الإخلاص، وما أحسب إلا أننا في أمسِّ الحاجة إلى البدء به والتركيز عليه والاستزادة منه "من أراد أن يتأسَّى فليتأسَّ بمن مات؛ فإن الحي لا يؤمن الفتنة".

 

ثانيًا: الحرص على لمِّ شمل الأمة وجمْع قلوب أفرادها حتى ولو كان فقط على ما يصير المسلم به مسلمًا؛ لأن وضوح الرؤية عند الإمام البنا- رحمه الله- جعله يُحسن ترتيب الأولويات كما بيَّنها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والسير العطرة لِخَير البشر محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

ثالثًا: تقديم القدوة العملية لنموذج بشري معاصر يحب الخير للناس؛ ليكون بحقٍّ خير الناس أنفعهم للناس.

 

واقتبس هنا قوله: "وأحب أن يعلم قومنا- وكل المسلمين قومنا- أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيبٌ إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء) (من رسالة دعوتنا).

 

ولا نستطيع في هذه العجالة أن نقدم شيئًا متكاملاً، ولكننا نُحيل كلَّ من يريد النظرة الشاملة والمنهاج الواضح المستقَى من الكتاب والسنة إلى مراجعة الرسائل بعين تبحث عن قدوة جدَّد لله بها لهذه الأمة أمرَ دينها، والأمة في انتظار مجدد آخر لهذا القرن الجديد، مردِّدًا هذا البيت الذي تعلَّق به الأستاذ البنا منذ صغره وكان دائم الاستشهاد به:

قد رشَّحوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له       فارْبَأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

 

وختامًا.. أذكِّر نفسي وإياكم بهذه الكلمات الغاليات فهي وصية للورثة: "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق آمال ومناصرة المبادئ.. يحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من التي تدعو إليه إلى قوة نفسية عظيمة (في عدة أمور): إرداة قوية لا يطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحُوْل دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره".

 

رحمه الله رحمةً واسعةً، وأعاننا على الوفاء بحمل الأمانة مع من سبقوا بالإيمان من إخواننا، في صحبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا، وأَودُّ أن أشير إلى تعبير ووصف الأستاذ البنا "الميتة الطيبة" بكل ما تحمله من معانٍ تدور حول الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فما الذي حدث؟!

 

معركة يقدِّرها ربُّ العزة، طرفُها إرهابُ أجهزة الدولة بكل قوتها، ابتداءً من الملك إلى المخبرين، تقتل رجلاً أعزلَ بشارع رمسيس، لينال ما تمناه بفضل الله ولا نزكِّيه على الله.

--------

* عضو مكتب الإرشاد.