تطل علينا في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا؛ حيث استشهد رحمه الله مساء يوم السبت 12 فبراير 1949م، الموافق 14 ربيع الثاني في 1368هـ أمام المركز العام للشبان المسلمين بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًّا)، في الوقت الذي حلت فيه الحكومة جماعة الإخوان المسلمين، وصادرت أموالها، وأغلقت شركاتها وصحفها ومجلاتها وشعبها واعتقلت أعضاءها، وتركت قائدها ومرشدها الأول وحيدًا ليسهل اغتياله، وأمسكت برقاب الصحف القومية كافة حتى تطمس معالم الجريمة وتضيع دماء الإمام الشهيد هباء!!.

 

لقد حرصت الصحف المصرية جميعًا إما على تزوير الحقائق وترديد بيانات الحكومة التي تتهم الإخوان بأنهم هم الذين قتلوا المرشد العام، ولم تذكر كلمة واحدة عن المتهمين الحقيقيين أو اكتفت بذكر الإطار العام للحادث دون التدقيق في صحة الأخبار أو الوقوف على حقيقتها.

 

نشرت جريدة "المصري" خبر الاغتيال في الصفحة الأولى في عددها رقم 4074 السنة الثالثة عشر بتاريخ 15 ربيع الآخر 1268م الموافق 13 فبراير 1949م بالعنوان الآتي "مصرع الشيخ حسن البنا إطلاق 6 رصاصات عليه أمام جمعية الشبان المسلمين".

 

ثم راحت تروي تفاصيل الحادث على هذا النحو:

كان الشيخ حسن البنا قد تقدم إلى سعادة صالح حرب باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين من نحو عشرة أيام طالبًا من سعادته قبوله عضوًا في الجمعية، ولما كان هذا الطلب يجب أن يعرض على رئيس مجلس الجمعية، والمجلس يعرض مرة كل شهر، فقد تقرر أن يعرض عليه في اجتماعه القادم.

 

يتوجه إلى دار جمعية الشبان المسلمين

وقد حدث مساء يوم السبت أن توجه الشيخ حسن البنا إلى المركز العام لجمعية الشبان المسلمين بشارع الملكة نازلي رقم 12 ومعه الأستاذ عبد الكريم محمد منصور المحامي والذي يقيم معه في نفس المنزل.

 

يطلب سيارة تاكسي:

وعند الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والعشرين طلب فضيلته إحضار تاكسي ليعود فيه إلى منزله، فأسرع أحد فراشي الجمعية بالمناداة على تاكسي مرَّ مصادفة في الشارع في ذلك الوقت.

 

سبع رصاصات:

وجيء لفضيلته بالسيارة فوفقت بجوار الجمعية، وفتح المحامي باب السيارة؛ حيث ركب فضيلته ثم جلس إلى جواره، وقبل أن تتحرك السيارة أقبل مجهول وأطلق عليهما سبع رصاصات.

 

تحطيم زجاج السيارة:

وقد ترتب على هذا أن تحطم جميع زجاج السيارة وتناثر إلى مسافة بعيدة.

 

أثناء إنزال العداد:

وعلم مندوب المصري أن السائق أمسك عداد السيارة لإنزاله بعد أن ركب فضيلة الشيخ البنا والمحامي المرافق له، وبينما هو يستعد للمسير فوجئ بالجاني وهو يطلق الرصاص.

 

إسعاف إسعاف:

وتمالك الشيخ البنا نفسه ونزل من السيارة وعاد إلى جمعية الشبان المسلمين والدماء تنزف منه، واتجه إلى ناحية حجرة التليفون وهو يصيح "إسعاف" "إسعاف".

 

يطلب الإسعاف بنفسه:

وأمسك فضيلته بسماعة التليفون وأدار الرقم الأول ثم خارت قواه فلم يستطع إدارة باقي الأرقام، وأسرع أحد الحضور بطلب السماعة تليفونيًّا.

 

في جمعية الإسعاف:

ولما كانت حالة المحامي المرافق للشيخ ليست على شيء من الخطورة، فقد استند الشيخ إلى ذراعه وسار إلى السيارة التي كانت لا تزال واقفة على الباب، واستقلاها إلى مقر جمعية الإسعاف دون أن ينتظرا حضور العربية التي كانا قد طلباها لإسعافهما.

 

وقد قصدت السيارة بهما إلى المركز العام لجمعية الإسعاف بشارع فؤاد الأول، وهو لا يبعد كثيرًا عن جمعية الشبان المسلمين بأكثر من محطة ترام أو حوالي 150 مترًا.

 

السائق يغمى عليه:

وما أن وصلت سيارة التاكسي إلى الإسعاف وحمل مندوبوها الشيخ ورفيقه حتى كان السائق قد خارت قواه بسبب الرعب الذي تملكه على إثر الحادث، فأصيب بإغماء وسقط على الأرض.

 

إلى قصر العيني:

وقام رجال الإسعاف بإجراء الإسعافات الأولية للشيخ البنا وزميله ثم تقرر نقلهما إلى مستشفى قصر العيني لإسعافهما بالعلاج؛ حيث كانت حالة الشيخ تنذر بالخطر، فجيء بسيارة الإسعاف رقم 13 وقد وصلت به إلى قصر العيني في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة.

 

دماء غزيرة:

لم يكد الشيخ البنا يصل إلى المستشفى حتى كانت الدماء قد نزفت منه بغزارة؛ لدرجة أنها قد غمرت النقالة التي كان ينام عليها بداخل السيارة.

 

في المستشفى:

وعلى إثر وصول الشيخ البنا إلى المستشفى أخلي له سرير بين المرضى في " سطوح أعلى رجال" ثم انتدبت غدارة المستشفى الدكتور الزنيني جمال الدين وأطباء آخرين لفحص حالته وتقرير علاجه.

 

6 رصاصات:

وتبين من الكشف الطبي أنه أطلقت على الأستاذ البنا 6 رصاصات أصابته في مواضع مختلفة من جسمه.

 

جراح خطيرة:

وقد قصد أحد مندوبي المصري إلى مستشفى قصر العيني فعلم أن فضيلة الأستاذ البنا أصيب بجراح ثلاثة خطرة بينها جرحان نافذان من الصدر، وأصيب بذلك بكسر في المرفق الأيمن.

 

ينقل له الدم مرتين:

وكانت حالة الأستاذ البنا على درجة بالغة من السوء؛ ما اضطر الأطباء إلى نقل الدم له مرتين متلاحقتين، وقد ظل فضيلة الأستاذ البنا فاقد النطق بعد عمليتي نقل الدم حتى ساعة متأخرة من الليل.

 

أعطوني ميه:

وقد ظل الأطباء إلى جواره لملاحظة حالته، ولكن فضيلته لم يتحدث مدة العلاج إلا بقوله "أعطوني ميه" وقد كررها في عدة مرات في ألفاظ متقطعة.

 

إصابة المحامي:

وتبين من توقيع الكشف على المحامي المرافق للأستاذ البنا أنه مصاب في فخذه وذراعه الأيمن وحالته متوسطة.

 

نقود مع الشيخ البنا:

هذا وحينما وصل الشيخ البنا إلى قصر العيني أخذ المختصون في تفتيشه جريًا على عادتهم مع كل مريض، وقد عثر معه على مبلغ ستة جنيهات وعشرة قروش.

 

مع المحامي:

وبتفتيش المحامي أيضًا عثر معه على مبلغ 26 جنيهًا، وقد وضع المبلغان في أمانة قصر العيني.

 

رصاصة في الحائط:

وتبين من معاينة مكان الحادث أن أحد الرصاصات اخترقت زجاج السيارة ونفذت إلى حائط الجمعية فأحدثت فيه ثقبا عميقا (5سم) تبعد عن الأرض حوالي 5 سم.

 

7 رصاصات فارغة:

وقد عثر رجال البوليس على سبع رصاصات فارغة في المكان الذي وقع فيه الحادث أمام جمعية الشبان المسلمين.

 

كيس نقود وتحقيق الشخصية:

وعثر البوليس أيضًا في مكان الحادث على كيس نقود سقط من القاتل أثناء عدوه إلى السيارة التي استعملها في الفرار، وبفحص الكيس وجدت به بطاقة تحقيق الشخصية بها اسم القاتل.... وهو يعمل سفرجيًّا.

 

مسبحة فضيلة الشيخ:

ووجدت مسبحة فضيلة الشيخ حسن البنا أيضًا في أرضية التاكسي واتضح أنها سقطت منه.

 

وفاة الشيخ البنا:

وقبيل الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل أخفقت جميع المحاولات لإنقاذ حياته، ففاضت روحه متأثرًا بجراحه.

 

انتقال رجال النيابة:

وقد انتقل إلى مكان الحادث من رجال النيابة سعادة منصور بك النائب العام، والأستاذ عبد العزيز حلمي بك رئيس نيابة جنوب القاهرة، والأستاذان محمود حسن عمر وكيل أول نيابة الجنوب وزكي عصمت وكيل النيابة.

 

البحث عن السيارة:

وأمرت النيابة بالبحث عن السيارة المذكورة، فأرسلت إشارة إلى إدارة مرور القاهرة للتحري عنها والقبض على صاحبها.

 

وفي العدد التالي (4075) من جريدة المصري نشرت الجريدة متابعة التحقيقات في حادث اغتيال الشيخ حسن البنا، وذكرت تفاصيل أخرى منها أن القاتل كان يرتدي جلبابًا أبيض وكوفية، ويحمل في يده مسدسًا، ولكنه لاذ بالفرار.

 

كما ذكرت أن صاحب البطاقة تقدم من تلقاء نفسه، ولكنه نفى علاقته بالحادث، وذكر أنه كان يحمل البطاقة في جيب معطفه ويحمل المعطف على ذراعه فسقطت منه.

 

كما عرضت الجريدة صورًا للباب الذي وقفت أمامه السيارة عند وقوع الحادث، وصورة للفجوة التي أحدثتها إحدى الرصاصات في جدار الجمعية.

 

وقد تبين من المعاينة السيارة أن ألواح الزجاج الجانبية الخلفية للسيارة وقد تحطمت بسبب إطلاق الرصاص، وقد عثر على بقع كثيرة من الدماء متناثرة في أرضية السيارة وعلى المقعد الخلفي والجوانب المحيطة به.

 

كما تم الاستماع إلى شهادة المحامي الأستاذ عبد الكريم منصور صهر الشيخ البنا فقرر أنه شاهد الجاني ملثمًا بكوفية أثناء إطلاق الرصاص ولم يشاهد شيئًا بعد ذلك.

 

وقد شيعت جنازته في الساعة العاشرة، في مسجد قيسون بالحلمية الجديدة حيث صُلِّي عليه، ثم حمل جثمانه إلى مقره الأخير، وذكرت نبذة عن حياته في بضع كلمات.

 

هذه هي الرواية التي صدرت بها جريدة المصري إبان وقوع الجريمة، وهي رواية لا تخلو من مغالطات كثيرة، بالرغم من أنها أكثر الجرائد القومية إنصافًا وموضوعية، وبالرغم مما قيل أنه قد تم مصادرتها عندما نشرت أرقام السيارة التي استقلها المجرم الذي اغتال الإمام الشهيد، ونشرت صورة للإمام البنا رحمه الله.

 

يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه (الداعية الإمام والمجدد الشهيد): هذا ما نشرته جريدة المصري صباح يوم الحادث في ظلِّ الرقابة المفروضة على الصحافة، وهو لا يمثل الحقيقة إلا في الإطار العام، والذي عرف بعد ذلك أن الإمام البنا رحمه الله عرف رقم السيارة التي فرَّ بها الجاني وكتبه في مذكرته، وقدمه لكل الصحفيين الذين قابلوه في مستشفى قصر العيني، وأن ذاكرته كانت غاية في القوة واليقظة حتى وقت طويل.

 

هذا وهناك تحفظات كثيرة حول ما كان يجري تحت اسم نقل الدم والإسعاف وشائعات حول ما جرى من محاولات للإجهاز عليه".

 

ونشرت جريدة "الكتلة" لسان حال الكتلة الوفدية لصاحبها مكرم عبيد الخبر في الصفحة الأولى من عددها رقم 1320 السنة الخامسة بتاريخ 14 فبراير 1949م وذكرت تفاصيل الحادث في الصفحة الثالثة على نحو قريب من جريدة المصري.

 

وعلى ذلك النحو سارت جريدة الزمان في عددها رقم 389 الصادر بتاريخ 13 فبراير 1949م السنة الثانية.

 

هذا بينما عمدت جريدة "الأهرام" و"الأساس" إلى تزوير الحقائق والتدليس على الرأي العام وترديد بيانات الحكومة؛ حيث نشرت جريدة الأهرام (العدد 2280 السنة 75 بتاريخ 12 فبراير 1949م) الخبر في صفحتها الأولى، وزعمت "أن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا حسن البنا؛ لأنه كان ينوي إبلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية" تقول الجريدة: اعتاد الأستاذ حسن البنا أن يتردد في بعض الليالي لقضاء السهرة في جمعية الشبان المسلمين الكائنة بشارع الملكة نازلي.

 

تقول الجريدة: "ومما يذكر أن وزارة الداخلية كانت قد تلقت من الشيخ حسن البنا خطابًا بعنوان ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين، وقد وجه فيه اللوم إلى الذين ارتكبوا الحوادث الماضية، وأشار إلى حادث محاولة نسف مكتب النائب العام قائلاً: في صدده أنه وقع بعد يومين من الكتاب الذي أذاعه في الصحف بعنوان بيان للناس كما ذكر في خطابه قوله وكان مرتكب حادث محاولة النسف أراد أن يتحداني بهذا.

 

ثم ذكر في آخر كلامه وليعلم أولئك الصغار من العابثين أن خطابات التهديد التي يبعثون بها إلى كبار الرجال أو غيرهم لن تزيد أحدًا منهم إلا شعورًا بواجبه وحرصًا تامًّا على أدائه، إلى أن قال: وإنني لأعلن أنني منذ اليوم سأعتبر أي حادث يقع من أي فرد سبق له الاتصال بجماعة الإخوان موجهًا إلى شخصي.

 

هذا وقد علمنا أنه كان أرسل أيضًا منذ أيام خطابًا آخر إلى وزارة الداخلية يعلن فيه عن اعتزامه تسليم المحطة السرية والأسلحة وغير ذلك مما تحت يد الإخوان إلى السلطات المختصة، وإنه على أثر لك تلقى خطاب تهديد بالقتل إذا أذاع أي سر من أسرار هذه الجماعة.

 

يقول محسن محمد في كتابه (من قتل حسن البنا) معقبًا على ذلك بقوله: "كان واضحًا أن وزارة الداخلية هي التي أوحت بهذا النشر.

 

كما ذكر بكر درويش الذي كان رقيبًا بمراقبة النشر بوزارة الداخلية أن بيان "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين" سلم إلى الرقابة بعد اغتيال حسن البنا بيومين لتسليمه للصحف لنشره، وقال توفيق صليب الهدف أن يلقي في الأذهان أن الجناة من الإخوان المسلمين المتذمرين من الشيخ البنا لموقفه من الحكومة، وأن هذا التذمر أدى إلى ارتكاب الحادث".

 

كما لجأت جريدة "الأساس" إلى ترديد الكلام نفسه.

ونشرت صحيفة (التايمز) في لندن النبأ في طبعتها الأخيرة، وكررت الصحيفة البريطانية مزاعم الحكومة البريطانية مزاعم الحكومة المصرية فقال: ذكرت التقارير أن الشيخ تلقى أخيرًا خطابات بالقتل إذا حاول إفشاء أسرار الجماعة المحظورة إلى السلطات، خاصة ما يتعلق منها بمخازن أسلحتهم".

 

وأبدت صحيفة (اللواء الجديد) صحيفة الحزب الوطني أسفها للحادث وقالت إن الشيخ البنا كان يود قبل اغتياله أن يعتكف استجمامًا من عناء ما كابده في الأيام الأخيرة".

 

وقالت مجلة "الحوادث الوفدية" من كل هذا يبرأ الوطن".

أما جريدة "أخبار اليوم" فقد لجأت إلى أسلوب آخر كانت معروفة به في الأربعينيات هو أسلوب الإثارة، فلم تتناول حادث الاغتيال ولا كيفية وقوع الحادث بل زعمت أن هناك أوراقًا سرية وجدت عند الأستاذ البنا أثناء تفتيش دار الإخوان بالإسكندرية، فادعت أن الأستاذ البنا "كان يعتزم الاستقالة من جمعية الإخوان المنحلة، ويعتكف في بيته الريفي" واتهمت الإخوان بأنهم يحاولون إثارة الفلاحين كالشيوعيين مستغلين معاناة الفلاح وأنهم يريدون عمل ثورة.

 

وتجاهلت مجلة "الإثنين" ومجلة "آخر ساعة" الحادث تمامًا واكتفت "روز اليوسف" بنشر رسالة الأستاذ البنا "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين تعليقًا على حادث محكمة الاستئناف.

 

أما جريدة "المقطم" فقد اكتفت بخبر صغير في صدر الصفحة الأولى بعنوان "مصرع الأستاذ حسن البنا واكتفت في اليوم الثاني من الحادث بخبر صغير من محاولات البوليس العثور على الجاني.

 

إذن فالصحافة المصرية اليومية قد اكتفى أغلبها بالمتابعة الإخبارية للحادث وكتابة الخبر في صدر الصفحة الأولى وتوضيح كيفية ارتكاب الجريمة الشنيعة، وخلال شهر من وقوع الحادث لم ينشر سوى مقال واحد كتبه الكاتب الصحفي الشهير الأستاذ جلال الدين الحمامصي في جريدة الزمان ندد فيه بالجريمة البشعة، وطالب بضرورة تعقب المجرمين، وما عدا ذلك فلم يتناول أي كاتب في الجريدة الحادث بالتعليق أو التحليل أو حتى عمل تحقيق صحفي عن حياة الأستاذ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين، وقد لوحظ تجاهل هذه الصحف نشر صورة الإمام الشهيد حتى أثناء نشرها لخبر اغتياله.

 

هذه هي الروايات التي تناقلتها الصحف المصرية غداة وقوع الجريمة حيث تعمد أكثرها تضليل الرأي العام، واضطر بعضها إلى قبول ذلك تفاديًا لقرار الحظر.

 

ولقد ظلت الأخبار الحقيقية مكتومة فترة طويلة حتى قرابة نهاية العام 1949م ثم تكشفت أبعاد المؤامرة الكبرى بعد رفع الحظر على الصحف.

 

وهذه هي تفاصيل الجريمة كما ذكرها ونطق بها الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي صهر الإمام الشهيد ورفيقه أثناء الحادث:

 

يقول الأستاذ عبد الكريم منصور: "ذهبنا إلى جمعية الشبان المسلمين وقد أخبر الأستاذ البنا بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات، وأن بعض الشخصيات ستحضر في جمعية الشبان لهذا الغرض، وجلسنا في الجمعية ولم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء، فقام الإمام الشهيد وصلى بالموجودين في الجمعية صلاة العشاء، ثم جلسنا قليلاً بعدها ولم تحضر هذه الشخصية.

 

وهنا طلب الإمام من الأستاذ محمد الليثي أن يستوقف تاكسي، وخرجنا من الجمعية إلى شارع رمسيس الذي كان مظلمًا وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والثلث، ووقف التاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله، ودخل الإمام الشهيد في المقعد الخلفي ودخلت بعده وجلست إلى يمينه، ثم نهض وأبدل المقاعد فجلس على يميني وجلست على يساره.

 

وفي هذه الأثناء كان يقف أمام السيارة شخصان، فتقدم أحدهم وأراد فتح باب السيارة فأغلقته وحاول الفتح، وأنا أحاول الغلق مهددًا لي بمسدسه وأخيرًا فتح الباب وأطلق على صدري الرصاص فتحولت إلى الجهة اليسرى فجاءت الرصاصة في مرفقي الأيمن، وأمسكت بيده التي فيها المسدس وحاولت بيدي الأخرى أن أنتزع منه المسدس فلم أجد زراعي إلا معلقًا، العضد هو الذي يتحرك فقط، وهنا أطلق المجرم رصاصة أخرى اختلقت المثانة وشلت حركة الرجل اليسرى، وهنا عجزت عن الحركة، فتركني وتوجه إلى الإمام الشهيد وهو يتراجع – سبع رصاصات – وهنا قفز الإمام من السيارة وجرى خلفه حوالي مائة متر إلا أن السيارة كانت تنتظره عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب، وعاد الإمام الشهيد وحملني وأجلسني في السيارة؛ حيث كانت رجلي اليسرى خارج السيارة لا أستطيع تحريكها.

 

ونادى الإمام على الأستاذ محمد الليثي وقال له رقم السيارة عندك "9979" وجاء شخص آخر طويل القامة أسمر وقال: هل أخذت رقم السيارة التي ارتكبت الحادث.. رقمها "9979" وانصرف.

 

دخل الإمام البنا إلى جمعية الشبان المسلمين وطلب الإسعاف ولكنها تأخرت، وهنا كان الناس قد تجمعوا فطلبوا من سائق السيارة أن يوصلنا فرفض ولكنهم أرغموه على ذلك فأوصلنا إلى الإسعاف.

 

وأمام الإسعاف حملني الإمام الشهيد مرة أخرى من السيارة، وأدخلني إلى الإسعاف وقبض حرس الإسعاف على السائق الذي حاول الهرب.

 

وجاء طبيب الإسعاف ليسعف الإمام البنا الذي قال له: "أسعف الأستاذ عبد الكريم أولاً لأن حالته خطيرة، ورأى طبيب الإسعاف أن حالتي تستدعي نقلي إلى قصر العيني فنقلنا أنا والإمام الشهيد وأدخلونا إحدى الغرف، وجلسنا فترة حتى اتصلوا بالطبيب المناوب في منزله في روكسي بمصر الجديدة، واستدعوه من السينما المجاورة؛ حيث كان يشاهد فيلمًا، وركب سيارته وجاء إلى قصر العيني.

 

في هذه الأثناء دخل علينا الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك وقال صارخًا: أنتم لسة مامتوش يا مجرمين، وانصرف.. وهنا دخل الطبيب الذي أراد أن يسعف الإمام الشهيد أولاً ولكنه قال له: "أسعف الأستاذ أولاً.. وأمر الطبيب أحد الممرضين بخلع ملابس الشهيد ولكنه نهض من على السرير وخلعها بنفسه، ولما أرادوا أخذ اسمي وعنواني قال لهم الإمام الشهيد: "اتركوا الأستاذ عبد الكريم لأن حالته خطيرة وأعطاهم الاسم والعنوان، وهنا دخل الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك ثانية وقال للطبيب: أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا، فقال له الدكتور: إن حالته ليست خطيرة.

 

وبعد ذلك فصلوا بيني وبين الإمام ووضعوني في غرفة مع أحد المرضى، ووضعوا الإمام في غرفة وحده.

 

وعلمت فيما بعد أن الأميرالاي محمد وصفي أتى إلى المستشفى مندوبًا عن الملك، وكان مكلفًا بالإجهاز على حياة الإمام الشهيد.. إذ منع الطبيب من مواصلة العلاج وترك دماء الإمام تنزف حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها تشكو ظلم الطواغيت.

 

كما وردت تفاصيل التشييع في صحيفة "الكتلة" الناطقة باسم حزب الكتلة برئاسة مكرم عبيد باشا، والمنشور بعد تسعة أشهر كاملة من الحادث نتيجة الرقابة.

 

أتت الصحيفة بعناوين تكفي تلاوتها للعن الطاغين المجرمين تقول: "القبض على المعزين، ومنع الصلاة على جثمان الفقيد، منع تلاوة القرآن على روحه.." ثم نشرت الوصف التاريخي الآتي التي استقته من والد الشهيد الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا.

 

وأشارت الأخبار إلى أنه بعد أن فاضت روحه الشريفة نقل إلى مشرحة زينهم؛ حيث شرحت جثته الطاهرة.

 

تمكنت الصحف بعد تخفيف الرقابة من إظهار بعض الحقائق المطموسة؛ حيث ذكرت جريدة "الزمان" في 2/8/1952م أن جثمان الإمام البنا أدخل إلى بيته محمولاً على عربة وسط مظاهرة مسلحة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه نساء أسرته العزل من كل سلاح.

 

وأنه دفن في الساعة الثامنة صباحًا بعد أن حوصرت المنطقة كلها حصارًا تامًّا، وحوصر جثمان الإمام بقوة من البوليس بلغ من تعسفها أنها كانت تمنع والده من الاقتراب منه.

 

وفي الساعة الثامنة صباحًا حملت السيدات جثمان الإمام الشهيد على أكتافهن إلى مسجد قيسون بعد أن منع أي واحد من الحضور لحمل الجثمان، وكان البوليس يهدد كل من يقف في نافذة منزله بإطلاق الرصاص عليه، كما اعتقل كثير من الرجال والسيدات، وصلى فضيلة الوالد صلاة الجنازة على ابنه الشهيد بمفرده ثم حمل الجثمان في عربة من عربات البوليس إلى المدافن، وكانت تسير وراءه عربة أخرى تحمل رجال البوليس مدججين بالسلاح، وقبض على كل من حاول السير في الجنازة أو الاقتراب من المسجد، كما منعت المحافظة أهل الإمام الشهيد كم إقامة سرادق للعزاء، وقبض على كل مَن حاول أداء هذا الواجب.

 

وقد تبينت الحقائق بعد ذلك وكشف عنها الستار وعرف القتلة ومحرضوهم.