العاطفة: هي الحالة الوجدانية للمبدع من فرح وحزن وحب وكراهية، وتفاؤل وتشاؤم وغيرها، وهي عنصر أسلوبي مهم جدًّا، يحس دون أن يشرح، أو يعرض عرضًا مباشرًا صريحا، وهي الدافع والباعث وراء كل إبداع.
ويستدل على قوتها من براعة الأسلوب وقوة الخيال وجمال الصور واستخدام اللفظ المناسب، ومناسبته لمعناه، يُضاف إليها في الشعر الموسيقى والقافية والبحر. أي أن قوة العاطفة تظهر في كل شيء من عمل الأديب.
* * *
وفي أغلب أدبيات الإمام نحسُّ بعاطفةٍ قويةٍ مشتركة هي عاطفة الاعتزاز بالإسلام، والإيمان المطلق بقيمة ومبادئه ومعطياته، وكثيرًا ما نحس بهذه العاطفة حارة متوهجة، كما نرى في النص التالي:
".. يا قومنا هلموا إلى منهج الحق، وطريق الهداية، ولسان الصدق، والصراط السوي الذي إن اتبعتموه لن تضلوا بعده أبدًا، فإن أبيتم إلا أن تتخبطوا في دياجير الحيرة، وتضيعوا الوقت في التجارب الفاشلة، والمناهج القاتلة، فإن الله سيقتص منكم، وسيأتي بمَن يُنفِّذ منهجه، ويسير على كتابه غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، وما أقول لكم إلا ما قال النبي صالح من قبل "﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ (طه: من الآية 90).
ورسائل الإمام- العامة والخاصة- هي أشحن أدبياته وأعمرها بالعاطفة؛ لذلك نرى أن نقف أمامها وقفةً متأنية:
أغلب هذه الرسائل- كما رأينا- يرتبط بموضوعات ذات علاقة قوية بالدين والمجتمع، والقضايا العربية والمصرية.
ومن ناحيةٍ أخرى يرتبط أغلبها بمناسبات تاريخية محددة كوقعة، أو وقائع تشغل شريحة زمانية معينة، وإن استطاع الإمام البنا أن يخرج "بالعلاج الخاص" إلى حدود أوسع حتى يصبح العلاج علاجًا "نوعيًّا" في أقطار النفس والمجتمع والسياسة.
وهذه المقولة تقودنا إلى حقيقة مؤكدة، وهي أن وراء هذه الرسائل نوعين من الدوافع:
النوع الأول: دوافع عقلية منزنة، اعتمدت على دراسة الواقع، وما فيه من استقامة أو سقوط وانحراف، فهي دراسة تقوم على استقراء الحسِّي المشهود، ومقارنته بالمطلوب المنشود، وهذا "المطلوب"- مهما قيل في مثاليته- لا يخرج عن "دائرة الممكن"، فهو- وما دار في فلكه ثابت الوقوع في عهد النبوة والخلافة الراشدة.
والنوع الثاني: دوافع نفسية عاطفية يمكن إجمالها في الغيرة على الإسلام والقيم والوطن والأرض العربية والإسلامية، والخوف من انحراف الأمة، وخصوصا شبابها، والغضب لانتهاك حقوقها.
وكلها عواطف لا يتخلى عنها شعور التفاؤل والتفتح والطموح إلى تحقيق أمل يداعب النفوس والقلوب والعقول.
هذا هو الخط الشعوري الذي يسري في أعطاف هذه الرسائل، ولكن هذا الخط- في رسمه البياني لا يأخذ اتجاهًا مستقيمًا دائمًا، بل نراه يتمتع بحظ من الارتفاع والانخفاض الانفعالي بنسب مختلفة، وهو في الحالات محكوم بقاعدة المصداقية دون تزييف أو مغالاة وشطط وإسراف، مع مراعاة مقتضى الحال بمفهومها الشامل: بالنسبة للموضوع، والشخصية، والموقف، والمركز الاجتماعي، والجو المهيمن على الساحة آنذاك.
وقد شرحنا "مقتضى الحال" أو الاعتبار المناسب من قبل.
* * *
وفي مجال عرض المبادئ والقضايا، وشرح المفاهيم، وتشخيص الأدواء، وتقديم العلاج والحلول من نافذة الإسلام، كما ترى في رسالة "نحو النور" الموجهة إلى الملوك والرؤساء، وذوي المكانات تدعوهم إلى أخذ نفوسهم وشعوبهم بالقيم والأخلاقيات الإسلامية، وتحكيم الإسلام في كل مجالات الحياة، نعيش مع أسلوب تغلب عليه طوابع الأسلوب العلمي بما فيه من مباشرية ووضوح وتقسيم وتصنيف، وترقيم، واستخدام المصطلحات العلمية والشرعية والسياسية بلا إسراف، في هذا المجال تتنحى العاطفة من السياق ليهيمن الطابع العقلاني، معتمدًا على ركيزتين:
الركيزة الأولى: الاستقراء النصِّي: وذلك بحشد النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتدعيم المقولات والأحكام التى يسوقها الكاتب.
والركيزة الثانية: الاستقراء التاريخي للوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية، والسنن الكونية، واستخلاص النتائج والدروس والعبر منها دون تعسف أو افتعال.
فالإقناع هنا هو المطلب الأساسي في مثل هذه الرسالة، ومخاطبة العقل هنا أجدى من مخاطبة العاطفة، ويرجع ذلك إلى طبيعة الموضوع من ناحية، وطبيعة المخاطبين به من ناحية أخرى، فهم في بسطة من العقل والثقافة والحنكة والدربة والمكانة الاجتماعية والسياسية، فلا عجب إذن أن يأتي توهج العقل والفكر أقوى من حرارة العاطفة والشعور.
وهذا الطابع واضح في رسالة نحو النور –كما ذكرنا- ورسالة المرشد إلى الملك فؤاد لصد تيار التبشير، ورسالته إلى رئيس الوزراء محمد نسيم ووزير أشغاله من أجل بناء مسجد البرلمان، ورسالته إلى عمر طوسون والأنبا يونس من أجل فلسطين، ورسالته إلى على ماهر في كيفية توجيه المعونة للمحتاجين، ورسالته إليه عند قيام الحرب العالمية الثانية.
* * *
وقد يسري في أعطاف بعض الرسائل شعور بالتقدير والتوقير والتبجيل والتعظيم ينعكس في عبارات من الثناء والتقريظ، مع تبرير هذا الشعور وتقديم مسوغاته، كما نرى في بعض عبارات الرسائل الوجهة إلى كل من الأمير عمر طوسون، والأنبا يونس لحرصهما على العمل الإنساني المقدم إلى ضحايا العدوان الأجنبي من الأحباش، ومصطفى النحاس حين أشاد النحاس بالصراحة والتعاون والإخلاص، ودعوته الأمة إلى التعاون الجاد الصادق مع الحكومة.
وقد تتداعى المشاعر فترد معللة بلا تناقض: ففي مقام الثناء والإشادة بجهود الأنبا يونس وعمله الإنساني وشعوره الأبوي تفيض رسالة الإمام بالأسى والنقمة على الصهاينة الذين صبوا عدوانهم على أهل فلسطين "فخرّبتْ ديارُهم، وعطِّلت مصالحهم، وقضِيَ عل مواردِ رزقهم" ويحاول اليهود بعملهم هذا أن يستولوا على بيت المقدس، وعلى غيره من الأماكن المقدسة التى أجمع المسلمون والمسيحيون على تقديسها وإكبارها والذود عنها.
وفي بعض الرسائل تعلو نبرة الغضب فتكتسي ثوب التهديد، كما نرى في رسالة المرشد الشهيد إلى السفير البريطاني في 2 من نوفمبر 1937، فيقول إن الإخوان "مُضْطَرون إلى أن يسجلوا احتجاجهم الصارخ على هذه السياسة الجائرة.." وتبلغ هذه النبرة القوية أعلى درجاتها حين يقول الإمام ضمن ختام الرسالة "..لابد من الانفجار يوما للشعور المكبوت..".
وتتوهج عاطفة الغضب ممزوجة بالحزن والأسى في رسالة التصوير المأساوي الواقعي لمجتمعنا، تلك الرسالة التي وجهها الإمام الشهيد إلى الملك فاروق، وقد انعكست هذه المشاعر في جمل قصيرة حادة، جاءت كأنها أحكام إدانة حاسمة للحكام والمسئولين الكبار عن المجتمع المصري "حدود اللهِ معطلة.. أحكامه مهمَلَة.. بُؤَر الخمور، ودور الفجور، وصالات الرقص، ومظاهر المجون تغْشى كلَّ مكان."
ثم تنتهي الرسالة بهذا الأمر القارع الصاخّ "قُلها كلمةً مُنَقًّذة، وأصدرْهُ أمرا ملكيا ألا يكون في مصر المسلمة إلا ما يتفقُ مع الإسلام.".
* * *
وفي فلك هذا الشعور تدور الرسالة الثانية الموجهة إلى صدقي باشا رئيس الحكومة في 8 من أكتوبر سنة 1946 بعد أن غدر بالشعب، ومالأَ المستعمر، ولم يَفِ بما وعد. ويتضح هذا الشعور الدافق الغاضب في مثل العبارات الآتية:
".. ولكن حكومةَ دولتكم أصرَّتْ إصرارا عجيبا على موقفها الضعيف المتخاذل، وأخذت تكبت شعور الهيئات والجماعات والأفراد، وتصادر الحريات..."
".. وقد تَضَامَنْتمْ بقصدٍ أو بغير قصد- مع الغاصبين في الاعتداء على استقلال الوطن وحرمته.."
".. وعليكم أن تَدعُوا أعباءَ الحكم لمنْ هو أقدرُ منكم على سلوك النهج القويم.".
* * *
وكان آخر ما كتب الإمام الشهيد بإطلاق، أو على الأقل آخر ما كتب من الرسائل –رسالته التي وجهها إلى الإخوان جميعا بصفتهم لا بأسمائهم- وهي رسالة تتدفق بشعور الأب الذي ابتعد عن الدنيا،واقترب من الرفيق الأعلى، فعانقته أيام الاحتضار أو ساعاته، ولكن لم تأخذه سكرة أو ذهول، بل غمرته موجات من الإيمان والثقة والطمأنينة، ففاضت مشاعر الأبوة الحانية التي تجيش في نفسه بالتعبير عن حبه وتقديره لهم، وثقته في عزيمتهم وقُدرتهم، فهو لا يحدثهم –وهم جميعا أبناؤه- إلا بالإخْوة الفضلاء:
"أيها الإخوة الفضلاء: أتقدم إليكم جميعا مهنئا بما كتب الله لكم من توفيق، وما أْجْراه الله على أيديكم من خير، وما اختصكم به من ثبات على كلمة الحق.."
".. فاذكروا أيها الإخوان أنكم الكتيبة المؤمنة التى انتهى إليها في هذا العصر المادي المظلم بالشهوات والأهواء والمطامع واجبُ الدفاع عن كلمات الله ورسالاته.."
إنها وصية مودِّع لذا جاءت زاخرة بأنبل التوجيهات:
".. فإن عليكم أنتم ... أن تتدراكوا ما فات، وأن تصلحوا ما أفسد الباشوات والخواجات.. ومهزوم من يحارب الله ويغالب القدر.."
".. أصلحوا سرائركم –أحسنوا أعمالكم- استقيموا على أمر الله.. استعدوا للبذل والاحتمال والجهاد بالنفس والمال.. اعملوا لوجه الله مخلصين له الدين.."
ويختم وصيته بأن يجعل الإخوان شعارهم النظافة:
"النظافة في الضمير والتفكير، وفي اللسان، وفي السير، وفي الثوب، وفي البدن، وفي المطعم والمشرب،والمظهر والمسكن، والتعامل والمسلك، والقول والعمل،وإن مما أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام أمته "تنظفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم.".
ونخلص مما عرضنا من مشاعر الإمام في رسائله حتى وهي في حالة التوهج:
1- أنها لم يكن وراءها- رضاءً وغضبًا- مثيرٌ شخصي أو مصلحة خاصة، بل كان الرضا والغضب والحب والبغض لله والأمة والوطن ومصلحة الدعوة.
2- أنها- في أية حال من الحالات- لم تدفع الإمام البنا إلى قول الفحش والبذاء، فتعفف لسانه عن مجارة أعدائه وأعداء دعوته في طريقتهم الفاحشة في حملاتهم، وخصوصا صحيفة (صوت الأمة) لسان حال الوفد.
3- أنها لم تُفقد الإمام أثارة من وقاده العقلي، وقدرته على مناقشة الأمور، وإقناع الآخرين. فكثيرًا ما كان يخاطب في الآخرين عقولهم وعواطفهم حرصًا على الإقناع والاستمالة، وكثيرًا ما يتلبس الفكر بالعاطفة، فيأتي الكلام مخاطبا العقل والشعور في آن واحد ويتحقق الهدف من الرسالة إذا تنوعت العبارات ما بين خبر وإنشاء وحقيقة ومجاز، وهذا الامتزاج يخفف –ولاشك- من حفاف الحقائق المسوقة، كما يجعل الشعور أكثر انضباطا، كما ترى في العبارات التالية من رسالة الإمام البنا إلى النحاس باشا بعد أن أبدى إعجابه المفرط- في تصريح له- بمصطفى كمال أتاتورك:
".. ولقد أخذ الكثيرون ممن طالعوا هذا التصريح يتساءلون: هل يُفهم من هذا أن دولة النحاس باشا- وهو الزعيم المسلم الرشيد- يوافق على أن يكون لأمته بعد الانتهاء من القضية السياسية- برنامج كالبرنامج الكمالي يتولى كل الأوضاع فيها، ويفصلها عن الشرق والشرقيين،ويسقط من يدها لواء الزعامة؟
وإنا نعيذ دولة الرئيس من هذا المقصد الذى نعتقد أنه أبعد الناس عنه".