الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:

أيها الأحباب الكرام:

تمر دعوتنا بمرحلة مهمة من تاريخها الطويل المبارك، فبعد أن منَّ الله علينا بالحرية، ووقف شعبنا الطيب في صف مَن يحملون همَّ هذا الدين، فاختارهم بإرادته الحرة ليمثلوه في مجالسه النيابية واتحاداته الطلابية ونقاباته المهنية وغيرها، بدت ملامح الخير بالأفق، تذكرنا بما تربينا ونتربى عليه، أن هذه الدعوة هي دعوة الله سبحانه وتعالى، وأن طريقها شاق وطويل، يكثر عليه الابتلاء، ويتكالب عليه الأعداء، ومع العمل والتضحية والثبات على هذه الطريق تتحقق الغايات وتنجلي الكربات، ويتحقق وعد الله تعالى لأصحاب الدعوات بالاستخلاف والتمكين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 55) (النور)، ومع بشائر النهضة والنصر والتأييد والتمكين لدعوة الله ودينه، تشتد حرب الشبهات حول هذه الدعوة، وتكثر الأبواق التي تنال منها ومن قيادتها وتاريخها المشرف ومنهجها الأصيل، بهدف تشويه الصورة وتعويق المسيرة، والنيل منها ومن مشروعها الإصلاحي.

 

نداء من الإمام حسن البنا:

لقد قلبت كثيرًا في رسائل الإمام الشهيد حسن البنا عليه رحمة الله، فما وجدت توجيهًا تربويًّا أنسب لهذه المرحلة- بمبشراتها ومعوقاتها- من هذا التوجيه الشامل، الذي ذيل به الإمام الشهيد رسالته القيمة (بين الأمس واليوم)، موجهًا نداءه للإخوان المسلمين تحت عنوان (واجبات).

 

وقبل عرض النداء التوجيهي والوقوف مع بعض إشاراته التربوية والدعوية، أتمنى من القارئ الكريم أن يدقق القراءة ويمعن النظر والفكر في هذا التوجيه، وأن يربطه بالظروف المحيطة بدعوتنا في هذه الآونة، ثم الوقوف على أهم تطبيقاته العملية في حياة صفنا المبارك في ظل هذه الظروف.

 

يذكر الإمام البنا: (أيها الإخوان:

- آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه، وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.

 

- وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات، وكونوا أقوياء بأخلاقكم، أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين، وكرامة الأتقياء الصالحين.

 

- وأقبلوا على القرآن تتدارسونه، وعلى السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين؛ فإذا هدى الله قومًا ألهمهم العمل؛ وما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.

 

- وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم، فهي سر قوتكم، وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين.

 

- واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم.

 

- وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده، والفرصة آتية لا ريب فيها، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5) (الروم).

 

وقفات مع توجيهات الإمام البنا

أولاً: العبادة طريق القيادة:

يؤكد الإمام البنا على أن (العبادة هي طريق القيادة)، بمعنى أننا بشكل عام وفي هذه المرحلة بشكل خاص نحتاج إلى مزيد من القرب إلى الله، والاستعانة به سبحانه والتذلل إليه، فهو المستعان وعليه التكلان، نستمد منه سبحانه زاد المسير إليه، نقبل عليه بقلوبنا وجوارحنا، وعندئذ وعلى طريق العبادة نقوى على القيادة، مستمدين القوة من خالقنا سبحانه، القيادة الربانية التي نتمثل فيها القدوة، ونتعبد بها لخالقنا سبحانه وتعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ 41) (الحج)، وقد أكد الإمام البنا على هذا المعنى حين قال في موضع آخر "أيها الإخوان: كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوادًا، تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة"، وبالعبادة الحقة لا نخشى إلا الله لأنه القوي المتين، الذي لا يقع في ملكه إلا ما يريد.

 

واستمرارًا لمعنى العبادة والربانية الحقة يؤكد الإمام البنا على الصلة الدائمة بكتاب الله تبارك وتعالى (تلاوة - تدبرًا - فهمًا - تطبيقًا)، بحيث لا تنقطع صلة الأخ المسلم بهذا الكتاب العظيم، نتزود من معانيه، ونغذي أرواحنا بما فيه، وننفذ أوامره ونقف عند نواهيه.

 

ومن مقتضيات العبادة والربانية في هذه المرحلة:

1- الانكسار والذلة بين يدي الله، واستشعار أمانة المسئولية، وأنها تكليف لا تشريف، وأنها اختبار لا انتصار.

 

2- ضرورة تفعيل البرامج التربوية (الجماعية – الفردية – الذاتية) والتفاعل معها والتزود منها، فهي قاعدة الانطلاق الصحيح، وزاد الحركة والدعوة بين الناس (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4 إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا 6 إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا 7)  (المزمل).

 

3- الحرص الدائم على عبادة الدعاء بخشوع وخضوع، مع تخير أوقات الإجابة، ولا سيما وقت السحر، حين تنتصب الأقدام وترتفع الأيدي وتلهج الألسنة لربها، تطلب منه التأييد والحفظ والعون للدعوة والدعاة.

 

4- الثقة واليقين في نصر وتأييد الله لهذه الدعوة، وحفظها من كيد الكائدين.

 

5- اليقين بوعد الله الذي فيه حفظ لأوليائه والدفاع عنهم (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38) (الحج).

 

6- الإيمان الكامل بأن الحق قادم وأن الباطل زاهق، وأن الحق يحمل قوته فيه، وأن الباطل يحمل ضعفه فيه، وأن ارتفاع صوت الباطل وترعرع شجرته لا يعني قوته ودوامه؛ لأن الحق بقوته سيجتث جذورها (سئل الحق يومًا: أين كنت حين علا صوت الباطل وترعرعت شجرته، قال الحق: كنت في باطن الأرض أجتث جذورها) (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا 81) (الإسراء).

 

7- اليقين بأن حملات التشويه والتضليل الإعلامي والتشكيك في الدعوة والدعاة لن تنال منهم إلا ما كتب ربنا وقدر، وأن التاريخ يؤكد أن حملات الكيد للدعوة والدعاة- مع ثبات أهل الحق وصلتهم بربهم- لن تحقق مآربها، وستعود على أصحابها بالحسرة والندامة والخسران (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ 36) (الأنفال)، وفي قصة إسلام الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أصدق دليل.

 

ثانيًا: الصلاح طريق الإصلاح:

وهي من الدروس المستفادة من توجيه الإمام البنا لإخوانه، إننا نحتاج دائمًا ونحن على طريق الدعوة أن نتزود بالأخلاق الكريمة الفاضلة، فهي أولاً طريقنا لرضا الله؛ لأننا نتعبد الله بهذه الأخلاق، وثانيًا هي سبيلنا لصحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة ومجالسته يوم القيامة.

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون..."، وأخيرًا مكارم الأخلاق هي طريق القبول بين الناس والتأثير فيهم، ونشر الفضائل  ومحاربة الرذائل، بها تجتمع القلوب حول دعوتنا ومنهجنا، وبها ترق قلوب من قسى علينا، وأعلن بغضنا وحارب فكرتنا، إنه سلاح الأخلاق الذي يغزو القلوب ويحشد الأنصار ويجمع الأعوان (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 159) (آل عمران).

 

نحن بحاجة دائمًا ولا سيما في هذه الأوقات إلى جملة أخلاق منها (الأمانة، الصبر وسعة الصدر، والرحمة ولين الجانب، والإيثار وحمل الخير، والتضحية والعطاء، والعفو والإحسان...) فهذه من أخلاق الكبار الأقوياء، ومن شيم الكرام الأتقياء، ورحم الله الإمام البنا حين أكد في توجيهه الكريم (كونوا أقوياء بأخلاقكم)، ولكي ننشر ونعمق هذه الأخلاق في مجتمعنا وننال المصداقية بين قومنا، لا بد أن نتحلى بها أولاً، ويرى الناس في تعاملنا معهم أثر تمكن هذه الأخلاق فينا؛ لأننا لن ننجح مع الناس إلا إذا نجحنا مع أنفسنا وذواتنا، والحقيقة الدامغة تؤكد أنه من كان قادرًا على نفسه كان على غيرها أقدر.

 

ثالثًا: أخوتكم أساس قوتكم:

نعم الأخوة وقوة الرابطة القلبية من دعائم قوة هذه الجماعة المباركة، ولنا في رسول الله الأسوة يوم أن آخى بين المهاجرين والأنصار ليضع دعامة البناء الاجتماعي للجماعة المسلمة الأولى، وتتجلى دعامة الأخوة والوحدة والترابط  في قوله تعالى:  (وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (آل عمران: من الآية 103) بعد أن أقرَّ سبحانه دعامة الإيمان وقوة العقيدة في قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا..)، ولأهمية الأخوة في بناء الدعوة جعلها الإمام البنا ركنًا من أركانها فقال:

 

وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب, وأقل الحب: سلامة الصدر, وأعلاه: مرتبة الإيثار, (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: من الآية 9).

 

الأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره, "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية", "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا". (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: من الآية 71)، وهكذا يجب أن نكون.

 

ومن مقتضيات الأخوة في هذه المرحلة:

1- تأكيد ضرورة الأخوة العملية، التي تترجم  الكلام والنظريات إلى أفعال وعمليات، كما يقول الإمام البنا، وهذا يتحقق أولاً بالمعايشة والمخالطة وتفقد الأحوال، ثم ببذل الجهد في خدمة إخواننا والسعي في قضاء حاجاتهم، ومشاركتهم الأفراح والأتراح، والتهلل والفرح لكل خيرٍ يصيبهم، والحزن والألم لكل مكروه ألم بأحدهم، والسؤال عنهم والبشر لرؤياهم ومجالستهم، بهذا تكون الأخوة روح تسري فينا كما سرت في أسلافنا العظام ومنهم (بن عوف وبن معاذ).

 

2- إن درجات الأخوة تتصاعد، حيث تبدأ بسلامة الصدر وتنتهي بالإيثار، وبالتالي كان الخط الأحمر الذي لا يسمح بتجاوزه بيننا هو سلامة الصدر، فمن وجد في نفسه شيئًا نحو أخيه لا ينام حتى يزيله، ويعالج نفسه وينقيها، ويصارح أخيه بما عنده لينتهي الأمر وتصفو النفس؛ لأن الله سبحانه يحب المرء على قدر حبه لأخيه لا بقدر حب أخيه له، وإن كانت الثانية دليل على الأولى.

 

3- ألا تشغلنا الأعمال والحركة بين الناس عن رُوح دعوتنا وسر قوتنا وأساس عزتنا وهي (أخوتنا) فلنحرص على تقويتها دائمًا، ولا سيما ببرامج المعايشة والتقارب، وجلسات التآخي والتحاب والنصح والتواد، فبها يرتفع منسوب الأخوة والحب في الله في قلوبنا.

 

4- الدعاء لإخواننا بظهر الغيب، ولا سيما إذا دعوت لأخيك بقضاء حاجةٍ يحتاجها، أو دعوت له  في أي شأن من شئونه  يحب فيه الدعاء. فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ". (أخرجه مسلم)، فهل جربت يومًا أن تدعو لأخيك وأنت في سجودك أو قيامك أو تهجدك؟ جرب وسترى فضل الله عليك وعلى أخيك.

 

5- بقدر حرصنا على حقوق الأخوة وجب علينا الحرص على قيمها وضوابطها، ومنها الامتناع عن الغيبة والنميمة والتناجي وسوء الظن، ومنه أيضًا الالتزام بآداب النصيحة لإخواننا، ولنتذكر وصية فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور (رحمه الله) حين كان يقول لإخوانه: "قدِّم النصيحة على أكمل وجه، وتقبَّلها على أي وجه".

 

ومن قيم وضوابط الأخوة أيضًا التي نحتاج إليها الالتزام بأدب الخلاف الراقي، كما يقول الأستاذ البنا رحمه الله: "ولا بأس من تمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان في ظلِّ الحب في الله من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب"، فقد أثبتت تجارب مَن ساروا على طريق الدعوة، أنه عندما ينقص الحب في الله أو تتوارى حقوق الأخوة عن الصورة نرى ظهور المراء المذموم، بل والتعصب للرأي وفساد ذات البين، وأحيانًا القيل والقال فيما لا يُرضي الله. ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (الإسراء: من الآية 53).

 

6- إن الأخوة الإسلامية من معالم ديننا، فلنحرص عليها، ولا نسمح لأحدٍ أن يُعكِّر صفوها ويشق صفها، ولنتعاون مع غيرها فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، وبعد ذلك نحن مطالبون بتحقيق الأخوة الإنسانية، وفي مقدمتهم أبناء الوطن من غير المسلمين فلهم حقوق في أعناقنا نحن الإخوان.

 

إنها دعوة الإسلام العظيم التي تنشر خيرها في كل أرض، ويستظل بظلها كل بني البشر، بل وغير بني البشر من نبات وحيوان وجماد، ألم تدخل امرأة النار في هرة؟، ألم يدخل رجل الجنة في كلب سقاه؟، بل وأبعد من ذلك يأمرنا الرحمة المهداة برعاية حقوق الجماد (أن نعطي الطريق حقَّه).

 

رابعًا: الثقة في قيادتكم من ركائز دعوتكم:

تعد الثقة من ركائز الدعوة وأحد مصادر قوة البناء النفسي والتنظيمي للصف المسلم، وهي من ثمار الأخوة الصادقة والحب في الله، وبقدر الثقة المتبادلة بين الأفراد تكون قوة الصف، وبقدر ثقة الصف في قيادته تكون قوة الجماعة، وما أحوجنا بعامة وفي هذه الأيام بخاصة إلى أن نعرض أنفسنا على هذا الركن وما فيه من إشارات ومعان.

 

ففي الآونة الأخيرة تعالت الأصوات، وتنوعت السهام التي أرادت النيل من وحدة هذه الجماعة المباركة، ولا سيما بعد أن مَنَّ الله على مصرنا الحبيبة بالحرية، وفتح الله لدعوتنا أبواب الخير في التواصل الطبيعي مع أهلنا ومجتمعنا دون ملاحقة أو تضييق، ولقد ازدادت الحملة ضراوةً بعد أن منَّ الله علينا واختارنا الشعب بإرادته الحرة لنمثله في المجالس النيابية وغيرها، وأخيرًا بعد أن أقرَّت الجماعة الدفع بمرشحٍ لها على منصب الرئاسة.

 

فبدأت الحملات المسعورة والسهام المسمومة من هنا وهناك تنهال على الجماعة (قيادة- منهح- صف) يلصقون بها التهم والافتراءات والأكاذيب والشبهات، وراحوا يتهموننا في نوايانا ويقفزون إلى النتائج دون مقدمات، ويحاولون هز ثقة الصف بقيادته فيثيرون الشكوك ويؤولون التصريحات، ويلفقون الأخبار والعبارات التي تتصدر الصحف والفضائيات حول الجماعة، و يتكلمون عن الانشقاقات والصراعات، كل هذا بهدف النيل من وحدة وترابط هذه الجماعة، والوقوف أمام مشروعها في النهضة والإصلاح.

 

ولأهمية الثقة وضرورة توافرها ودوامها جعلها الإمام الشهيد ركنًا من أركان البيعة العشرة ليحافظ كل أخ عليها وفاءً لبيعته وعهده مع الله، ولا يعرضها للاهتزاز أو الفقدان فإن ذلك لا يقل خطورةً عن النكث في ركن الجهاد أو الطاعة أو التجرد أو غيرها.

 

فيذكر الإمام الشهيد عليه رحمة الله (وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا  (65)) (النساء).

 

من متطلبات الثقة:

1- ضرورة المحافظة علي الثقة من أي شيء ينال منها، وعلى الأخ المسئول أن يديم الصلة بإخوانه ليبين لهم الأمور أو المواقف ويوضح لهم ما أشكل عليهم منها، وخاصةً ما يثيره المشككون ليكون الصف في حصانة.

 

2- على الأفراد ألا يتأثروا بما يثيره المشككون، وألا يُستدرجوا في مهاتراتٍ معهم، وإذا حاك في صدر أحد الإخوان شيء فعليه أن يسارع بالتبين، وألا ينقل ما سمعه وسط الصفوف فيحقق بذلك غرض المشككين، وما أجمل الالتزام بما أرشدنا ربنا إليه في هذا المجال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)) (الحجرات).

 

3- ثم إننا إذ فندنا اتهامًا مما يثيره المشككون وأوضحنا بطلانه، لا نتصور أن الأمر سينتهي عند ذلك الحد، ولكن ما أسهل عليهم أن يختلقوا اتهامات أخرى باطلة لا أصلَ لها، ليشغلونا بها عن أصل ما ندعو إليه، ونحقق بذلك هدفهم، ولكن خير رد عليهم ألا نرد، ونستمر في العمل وبذل الجهد.

 

4- قد يصاب أحد الأفراد من داخل الصف بمرضٍ من أمراض القلوب كحب الزعامة والشهرة فينزلق بعيدًا عنا، فيثير الشكوك والشبهات حول القيادة أو بعضها، أو يسيء تفسير بعض المواقف دون تبين أو دليل، كوسيلةٍ لكسب موقف أو مبررًا للخروج أو لكسب أنصار يلتفون حوله، أو يخالف ما أقرته الجماعة في أمرٍ من الأمور فيبدأ في إثارة الشكوك دون دليلٍ أو برهان فلنحذر ذلك، ولو كان صادقًا في توجهه يريد الخير والرشاد لدعوته، لتحرك في الطريق السليم والقنوات الصحيحة لعلاج ما يراه من خطأ.

 

خامسًا: النصر مع الصبر:

إنها البشرى للصابرين العاملين المحتسبين، أن النصر الذي يترقبونه ينتظرهم، وهذا وعد الله لهم، لأن الله مع الصابرين، فلا نجزع ولا نتعجل، ورحم الله الإمام البنا حين قال: "ومَن صبر معي حتى تنمو البذرة، وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة، ويحين وقت القطاف، فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين، إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة"، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)  بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) (الروم).

 

اللهم ارزقنا الصدق في القول، والإخلاص في العمل، وكلمة الحق في الرضا والغضب، ولا تحرمنا من الجهاد في سبيك، والعمل لدعوتك، اللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا، إخوانًا متحابين، لا ضالين ولا مضلين، غير خزايا ولا نادمين، آمين آمين، يا رب العالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين