عندما تحاول أن تجعل من (الفسيخ شربات) فإنك مدلس، وعندما تستطيع أن تتجهز بآلات إعلامية وأبواق صاخبة لتجعل من مساوئك محاسن وإنجازات فأنت ملتوي ومتلون، وعندما تدير أحداث معينة بصورة مريبة لتكسر أنف من أزالوك من منصبك فأنت الطرف الثالث الذي كنا نبحث عنه، وعندما يكون تاريخك ملوث بدماء الأبرياء ومساعدة الطغاة وبيع الوطن للأعداء فأنت لا تستحق أبدًا أن تترشح لأي منصبٍ قيادي.

 

في الأيام الماضية كان الوضع في بلادي على جمرات ملتهبات، وعادت بنا الذاكرة لأيام الثورة الرائعة في ميادين مصر عامة وميدان التحرير خاصةً، وقد ظهر هذا الرجل الغامض لكي يخفف من وقع الثورة ويصبح نائبًا لمن ننادي (مش ح نمشي.. هو يمشي)، كانت عيون الرجل حادة وماكرة، وأسلوبه ملتوٍ وخبيث، دعا الجميع للجلوس وللحوار، ذهب مَن ذهب لكي يرجع بعد جلسة واحدة ليعلنوا جميعًا دون استثناء أنه لا رجاءَ من حوارٍ مع مثل هذه الشخصية، وأكد الجميع استمرار ثورة جاءت نتيجة مصائب ومفاسد هذا الرجل ورئيسه ونظامهما، وكان نصر الثورة هو الفيصل، واختفى الرجل كرجال المخابرات دون ضجيج.

 

اختفى الرجل، ولكن بدأت أمور تظهر لا تفسيرَ لها بدايةً من أحداث كنيسة سول، ثم أحداث كنيسة إمبابة، وأحداث ماسبيرو، وكلها تصبُّ في الفتنة الطائفية، فلما أن فشلت الوقيعة، بدأت أحداث أخرى في الظهور، بدايةً من أحداث البالون مع أهالي شهداء الثورة، ثم مشادات ميدان التحرير مع الباعة الجائلين والثوار، واللعب على أهالي الشهداء، فلما أن هدأت الجلبة، بدأت أحداث سياسية في التحريك بدايةً من أحداث السفارة الصهيونية، ومرورًا بأحداث محمد محمود، وحرق المجمع العلمي، وأحداث مجلس الوزارة، كل هذه الأحداث مبهمة في بدايتها دموية في نهايتها، ولكن كل الأحداث كانت تصبُّ في التفريق بين الثوار الأوائل من أبناء ميدان التحرير من كل الفصائل، وبدأ ثوار جدد إن جاز التعبير في الظهور من بعد 12 فبراير 2011 واندمجوا في وسط ثوار البدء، ولم يتركوا فرصة إلا وكانوا فيها فاعلين ومؤثرين في اتجاه الصدام دائمًا باسم الثورة، كل هذا التحريك المبهم كان أسلوبًا مخابراتيًّا خالصًا، أوقع الثورة والثوار في حبائل الشيطان، وكان التفريق بين الفصائل الأصيلة في الثورة هو الهدف الأسمى، سواء أكان ذلك بمباركة المجلس العسكري أم لا كانت المحصلة واحدة وواضحة.

 

كل ذلك كان بعد أن تم تجهيز وفي سرعة البرق أبواق وقنوات مملوكة لرءوس أموال مبهمة، ومصروفات باهظة استغرب منها كل من يعمل في الإعلام، قناة النهار، يليها قناة cbc، وقناة صدى البلد، وقنوات أخرى قديمة جديدة، إعلاميًّا محترفة، قوية التأثير، شديدة الجذب، ولكن شديدة التلون والالتفاف حول الحقائق، إظهار الحقائق المراد إظهارها من الأحداث، استضافة مَن يخدم على الفكرة من أبناء الثورة دون أن يدري- وهذا ما أراه- بل وتلميع ما أطلقت عليه هنا (ثوار جدد)، خبطات إعلامية تجذب المشاهد ثم تفريغ السم في العسل، وأصبح معظم الشعب يداوم على مشاهدة هذه الأبواق، وكل الأحداث السابق ذكرها تم التعامل معها بالأسلوب المخابراتي المحترف.

 

العيب لم يكن في الثورة أو الثوار، التدبير كان أقوى وأشد، كان تدبيرًا شيطانيًّا، وكأنه يقول: أنزلتمونا من على مقاعدنا، ومن سدة الحكم سنجعلكم تتقاتلون فيما بينكم، ثم لا تجدون سوانا ملجأ، وتترحمون على أيام حكمنا، وساعتها سنأتي إليكم بديمقراطيتكم، وسنكون من جديدٍ حكامكم، ولن تنالوا ساعتها رحمتنا لأننا لا نملكها أصلاً.

 

إنها بكل بساطة مهارات وخبرات سنوات من الخبث والخبائث، كيف ينزوي صاحبها في بيته ولا يستفيد بها؟ بل كيف يعقل أن نصدق نحن أن الثعلب قد تاب عن مكره ولم يعد يتربص بالغنم؟ إنه يعود ويشمر عن ساعديه الآن، الآن وقد انزوى من قبل.

 

لكنها الثورة، كما بدأت وهي تنادي (مش ح نمشي.. هو يمشي) ستستمر وتنادي له ولكل الرءوس التي عادت للظهور بإعلامها وضجيجها (على جثثنا عودتكم.. ستستمر ثورة شعب ذاق الكرامة والحرية وإن وقع في فخكم).

----------------

* [email protected]