خاض الشعب المصري مواجهات كثيرة وعنيفة ودامية- أحيانًا- ضد نظام الرئيس المخلوع وأركانه وأعوانه، وكانت ثورة يناير 2011م المجيدة ذروة المواجهات مع النظام البائد وتشكيلاته الأمنية المسلحة التي لم تتورع قط عن قتل وسحق جماهير الشعب المصري طيلة أيام الثورة وقبلها، وخلال ثمانية عشر يومًا تمكن الشعب المصري من الإطاحة برأس النظام مبارك وأركان نظامه- إلا قليلاً- وفي يوم مشهود خرجت الملايين من الشعب المصري إلى الميادين والشوارع الرئيسية في طول مصر وعرضها، وأعلنت أنها لن تعود لبيوتها إلا إذا سقط النظام، ولم تسمع لحديث نائب الرئيس المخلوع اللواء السابق/ عمر سليمان حين طلب من جماهير الشعب أن تعود إلى البيوت (go to home ) وإلى العمل فليس عند نظام مبارك أكثر مما أعلنه.

 

حينذاك هبَّت الملايين إلى الشوارع والميادين تهتف بسقوط النظام وأركانه وأعوانه، وكان ذاك يوم الجمعة الأغر 11 فبراير 2011، وقبيل غروب شمس ذلك اليوم أطل عمر سليمان على الشعب عبر الشاشات ليعلن تنحي الرئيس المخلوع وتنحيه عن منصب رئيس الجمهورية، هنا فقط ظهرت الفرحة على وجوه الشعب المصري وشاركه فيها شعوب الأرض كلها عدا الكيان الصهيوني الذي اعتبر زوال مبارك أكبر كارثة حلَّت بإسرائيل منذ إعلان قيامها، ولن ينسى الشعب المصري قسمات الحزن والأسى التي غطَّت وجه عمر سليمان وهو يتلو بيان التنحي وكأنه ينعى عزيزًا عليه أو يعلن نبأ زلزال دمَّر البلاد وأهلك العباد.

 

استدعيت هذه اللحظات من سجل تاريخ شعبنا المجيد وهي تحكي قصة 18 يومًا تجلَّت فيها القدرة الإلهية، وسكنت قلوب وعقول وإرادة الشعب المصري البطل فانتفض ليغير التاريخ ويصنع المستقبل، وسارت الخطوات وطويت المراحل حتى أتينا إلى مرحلة انتخابات رئاسة الجمهورية وقد صاحبها زخم إعلامي كبير يليق بها، وفي الأمتار الأخيرة من سباق الترشح عاد اسم اللواء السابق عمر سليمان- نائب الرئيس المخلوع وملقي بيان التنحي- إلى الظهور وإثارة الجدل حوله من جديد وحيكت رواية عودته إلى الساحة السياسية بطريقة درامية متوقعة ليس فيها تشويق وإبداع، اللواء السابق يعلن انسحابه من الحياة السياسية والاكتفاء بما قدَّمه لوطنه من خدمات، ويظل بعيدًا عن مسرح الأحداث، وقبيل انتهاء فترة تقدم الراغبين في الترشح يُعاد طرح اسمه مرةً ثانيةً ثم تسريبات من هنا وهناك، عمر سليمان يُفكِّر في الترشح، عمر سليمان يرفض خوفًا على نفسه من القتل، ثم يُعلن عن ترشحه، وفي اليوم التالي يخرج بيانٌ منه يعلن فيه عدم الترشح نهائيًّا لوجود إعاقات إدارية وتمويلية تحول دون تقدمه للترشح؛ وذلك عقب لقائه مع بعض أعضاء المجلس العسكري، وفي اليوم قبل الأخير يُفاجئ الجميع ويظهر في مقر اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة ويسحب ملف الترشح، وقبل غلق باب الترشح بنصف ساعة يعود اللواء السابق إلى مقر اللجنة ويقدم أوراق ترشحه للرئاسة مدعومًا بأكثر قليلاً من ثلاثين ألف توكيل ليدور حوله الجدل، ويسحب الحديث إليه وحول دوافع ترشح ومدى معقولية ترشحه وقانونية ذلك.

 

وهنا أستطيع القول:

إنِّ ترشح عمر سليمان يمكن أن يجلب على مصر فعاليات اليوم التاسع عشر من أيام ثورتها المجيدة، ويشاركني في ذلك كثيرون رأوا ان ترشح عمر سليمان انقلاب على الثورة التي قامت من أجل الإطاحة بمبارك وأركان نظامه وفي مقدمتهم وأولهم نائبه عمر سليمان الذي رفضته الملايين من جماهير الشعب المصري الثائر فاندفعت في اليوم التالي معلنةً الزحف على القصر الجمهوري، ولن تُبقي أحدًا ولن تذر فكان قرار التنحي للرئيس المخلوع وأركانه وأعوانه، فكيف يجرؤ عمر سليمان على مواجهة الشعب المصري من جديد ويعلن ترشحه للرئاسة ويطمع أن يكون أول رئيس للجمهورية بعد الثورة على مبارك.

 

اللواء السابق هو الكنز الإستراتيجي الجديد للعدو الصهيوني، هو ذاته النائب السابق للكنز الهالك المخلوع، ومن ثمَّ لم يكن عجبًا أن يكون أول ترحيب بترشح سليمان صادرًا من تل أبيب؛ حيث صرَّح بنيامين بن أليعازر أحد وزراء الحرب السابقين بالكيان وعضو الكنيست أن اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية السابق ونائب الرئيس المخلوع أفضل رئيس لمصر من أجل مصالح الكيان الصهيوني.

 

وأضاف بن أليعازر أن رئيسًا من الإخوان المسلمين سيهدد اتفاقية السلام الموقَّعة بين مصر والكيان عام 1979م، مشيرًا إلى أن سليمان يعدُّ العلاقات مع الكيان تمثل "حجر زاوية" إستراتيجية.

 

ولا أبالغ إذا قلت إن قرار سليمان بالترشح لرئاسة مصر قد أنعش الآمال في الكيان الصهيوني وأعطى دفعةً قويةً للاقتصاد والاستقرار بها بعد أشهر من الخوف والهلع من المستقبل الذي ينتظر الكيان الصهيوني عقب ثورات الربيع العربي، وخاصةً ثورة مصر.

 

اللواء السابق مركز تجمع فلول النظام البائد

لا شك أن ترشحه قد أنعش آمال فلول النظام السابق سواء ساكني طره أو مَن هم في الطريق، ويُعد سليمان الورقة الأخيرة لكل أتباع النظام السابق سواء أعضاء الحزب الوطني المنحل أو المنتفعين منه أو الذين نهبوا ثروات البلاد خلال السنين الثلاثين الماضية، كما أنه يُعدُّ غطاءً آمنـًا للمجلس العسكري يسمح للبعض منهم أن يبقى مطمئنًا دون خوفٍ من ملاحقةٍ أو محاسبة، وللبعض الآخر خروجًا آمنا دون مشاكل، وهذا يعني تحقيق النموذج الأمريكي الغربي في الالتفاف على ثورات الربيع العربي كالنموذج اليمني، وهو إزاحة الرئيس المغضوب عليه من شعبه، والإتيان بنائبه ليحل محله مع إجراء بعض التحسينات على المشهد السياسي حسب ما تقتضيه الأحوال، ومن ثمَّ نكون أمام حالة إعادة استنساخ للنظام السابق.

 

وهذا ما يدفع الكثيرين إلى وصف ترشح اللواء السابق عمر سليمان بأنه إهانة شديدة للثورة واستخفاف بالغ بإرادة الشعب المصري وتحدٍّ سافر لأهدافه التي ثار من أجلها ودفع الثمن الغالي من دماء أبنائه الشهداء والمصابين والمضارين عبر سنوات الكفاح ضد نظام القمع والفساد والاستبداد الذي مارسه مبارك وأعوانه ومنهم سليمان وغيره.

 

ترشحه ونظرية الخديعة الكبرى

لا يخفى على القارئ الواعي أن ثمة تحليلات مسبقة- ربما سبقت قرار ترشُّح سليمان- أشارت إلى إمكانية الدفع به إلى حلبة المنافسة ليس بغرضٍ أن ينافس أو يفوز، ولكن بغرض أن يُشكِّل حائطَ رمي تتجه إليه سهام النقد والطعن بغية فضحه وكشف تاريخه، ويستفاد من ذلك في تحقيق أحد أمرين (أو كليهما) أن يتم التخلص منه شعبيًّا أو قضائيا حتى يختفي تمامًا من الحياة السياسية؛ تمهيدًا للنظام الجديد المزمع ترتيبه، والثاني أن يُستخدم كحصان طروادة بغيةَ إلهاء الشعب والمرشحين المنافسين وكل القوى السياسية به، فينشغلوا بعمر سليمان لصالح مرشحٍ آخر يُراد له أن يفوز، وهذا معناه أن سليمان تمَّ استخدامه ليلعب دور التعمية والتغطية (كومبارس) لصالح مرشح آخر بحجم عمر موسى أو غيره.

 

الآن اكتملت أجزاء الصورة واتضحت خطة الثورة المضادة

منذ تفجرت ثورة شعبنا الكريم وأعوان النظام البائد وفلوله يبذلون كل وسعهم لإفشال الثورة وإجهاضها وإعاقتها والحيلولة دون بلوغها الأهداف التي ثار الشعب من أجلها، وتتمثل خطة الثورة المضادة فيما يلي:

- موجات الانفلات الأمني

- اصطناع الأزمات الطاحنة التي تمس كل بيت مصري وتنال كل مواطن مثل رغيف العيش وأنبوبة البوتاجاز ونقص السولار والبنزين بهدف تفجير الغضب الشعبي ودفعه أن يصبَّ غضبه على الثورة والقوى السياسية والبرلمان.

 

- التقاعس الشديد في استعادة أموال الشعب المنهوبة سواء المهربة للخارج أو التي ما زالت تحت أيدي رجال النظام وأعوانه وفلوله.

 

- التقصير الشديد في حقِّ الشهداء والمصابين والمضارين سواء القصاص من المجرمين أو التعويض العادل لذوي الشهداء والمصابين.

 

- إبقاء الحالة السياسية في مربع الجدل المستمر، وإغراق الحياة السياسية بملفات الفتن والأفكار اللينة المثيرة للجدل، من أجل إحداث حالات انقسام في الشارع المصري مرة على أساس طائفي، كما جرت المحاولات في أحداث فتنة إمبابة وماسبيرو، ومرة ثانية على أساس مذهبي، كما حدث في إقحام الطرق الصوفية واستدعائها للمشهد السياسي لتصطف في مواجهة الإسلاميين، وثالث على أساس عرقي كما هو الشأن في مسألة البدو وأهالي النوبة، ورابع على أساس أيدلوجي سياسي كما حدث من شقِّ القوى الوطنية إلى قوى إسلامية وأخرى ليبرالية أو يسارية.

 

- استنزاف الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية طوال الأشهر الماضية، وهذا يُعطي مؤشرات عدم ثقة في الاقتصاد المصري في الداخل والخراج؛ ما يثير الخوف والفزع لدى جماهير الشعب المصري الذي ثار لتتحسن أوضاعه فإذا بها تسوء.

 

هذه الأجزاء كانت متفرقةً ولا تُعطي ملامح صحيحة.

 

والآن اكتملت بقية الأجزاء ومن ثمِّ اتضحت معالمها، فكل الملامح التي سبق بيانها تصبُّ في خانة إشاعة الخوف من الحاضر والفزع من المستقبل ودفع جماهير الشعب إلى اليأس من التغيير وتكوين رأي عام يصرخ "يا رب أخرجنا من هذا الوضع ولو إلى نار النظام السابق".

 

ومن ثمَّ يدخل اللواء السابق سليمان إلى حلبة المنافسة على أنه القوى الشديد القادر على إعادة هيبة الدولة واستعادة استقرار الوطن وأمن المواطنين، وفي ذات الاتجاه نفهم الحملات الإعلامية الشرسة التي تعرض لها التيار الإسلامي والأحزاب الإسلامية عقب فوزها في الانتخابات البرلمانية وحصولها على ثقة الشعب الكبيرة، وما تعرَّض لها المرشحون الإسلاميون من حملات تشويه بغرض إفزاع وتخويف القوى السياسية والجماهير المصرية وكأنَّهم غزاة من كوكب آخر هبطوا للاستيلاء على مصر، وكأنَّ هذا الشعب المصري لم يعط ثقته الكبيرة منذ شهور ثلاث لهذه الأحزاب المصرية التي قدمت مرشحًا لها- مهندس خيرت الشاطر- فانقلبت الأوضاع في مصر رأسًا على عقب.

 

عمر سليمان واليـوم التاسع عشر

اليوم التاسع عشر قادمٌ لا محالة، وترشح عمر سليمان عجل بقدومه، والسؤال هو هل يكون اليوم التاسع عشر هو استكمال الثورة واستئنافها؟

 

حين يستشعر الجميع خطورة الموقف ويتأكد أن الثورة في خطر، فتتحرك القوى السياسية الوطنية بكل توجهاتها لتتحد في مشهدٍ يعيد للأذهان صورة ميدان التحرير حين جسد كل الأطياف والقوى السياسية والاجتماعية وصهرها في بوتقة مصر فكانت وحدة جبارة قلعت النظام وخلعت الطاغية المستبد، وهي مستعدة أن تعيد سيرتها الأولى إذا سارت الأمور نحو إنتاج التزوير والخداع والإقصاء للوطنيين حاملي همَّ مصر وشعبها الساعين لنهضتها وتعافيها.

 

أم قد يكون اليوم التاسع عشر هو يوم التمكين للشعب المصري ودحر فلول وبقايا النظام البائد؟

 

والرهان هنا على وعي الشعب المصري والثقة فيه أنه- بإذن الله تعالى- قادرٌ أن يحقق الإنجاز المرتقب ويلتف حول ثورته ويسعى نحو تحقيق أهدافها التي ثار من أجلها، وأنه لن يُخدع بعد اليوم ولن ينطلي عليه الكذب والدجل والخداع، فلقد سقطت كل الأقنعة واستبان السبيل.

 

تقديري أن اليوم التاسع عشر سيكون يوم احتفال الشعب المصري العظيم بنجاح ثورته وسيحتفل معه شعوب الأرض المحبة له وسيخسأ الفاسدون المفسدون المستبدون، وسيحزن الصهاينة ويسقط أعوانهم وكل كنوزهم الإستراتيجية.

 

نثق في الله تعالى، ونعرف قدر شعبنا ووعيه وقوته وقدرته وقت الأزمات، نثق في شعبنا.

 

اللهم ربنا احفظ بلادنا من كل سوء، وردَّ عنها كل شر، وأدم عليها حريتها وعزتها وكرامتها.

--------

* النائب السابق والمحامي بالنقض والدستورية العليـا