اختزل بعض الكتَّاب مرحلة الإعادة لانتخاب الرئيس المصري 16/6/2012م في الصراع بين العمامة والكاب، أو بين ما يسمَّى الدولة الدينية والدولة العسكرية! هذا الاختزال تبسيط للمسألة، فضلاً عن سوء استخدام للمصطلح بمعناه العلمي الدقيق، وقضية المصطلح بصفة عامة تحتاج إلى صفحات طوال تكشف مدى الخسارة التي جرَّها استخدامه السيئ على مصر طوال ستين عامًا من البؤس والقهر والهزائم والتراجع الحضاري!.

 

العمامة ترمز إلى الإسلام، والكاب يرمز إلى الجيش وربما الشرطة، ولا أظن أن الوضع الطبيعي للعمامة والكاب أن يكونا طرفي صراع، الوضع الصواب تكامل وتعاون، فالعمامة علم وقيادة، والكاب تضحية وبسالة، كل منهما يعمل لرقيِّ الوطن وحمايته، ورفعة شأنه وإعزازه، ولكن بعض القوى اليسارية والعلمانية تأبى إلا أن تشهر بالإسلام في انتخابات الرئاسة، وفي مناسبات أخرى فتلحّ على ما يسمَّى الدولة الدينية التي يريد الإسلاميون إقامتها، بينما الإسلام هو الذي أنقذ أوروبا من الدولة الدينية التي كانت تحتكر ملكوت السماء، وتهيمن على ملك الأرض، وكانت منارة الإسلام في الأندلس وجنوب أوربة ترسل أشعتها لتمهِّد للثورات الأوربية التي حرَّرت الغرب من تسلط الكهنوت على حياة البشر.

 

الإسلام لا يعرف الدولة الدينية؛ لأنه أول من أقام الدولة المدنية ضد العسكرية التي لا قداسة فيها لأحد غير الله، ولا عصمة لمخلوق غير النبي صلى الله عليه وسلم.

 

لقد عانى المصريون بسبب رفض الحكام الطغاة- ومعظمهم من العسكر- إقامة الدولة المدنية الإسلامية، التي تهتدي بالقرآن الكريم، وخاصةً قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلم تذكرون) (النحل: 90).

 

لقد افتقد المصريون طوال قرنين من الزمان هذه المبادئ الإسلامية الرائعة، فلم يجدوا العدل ولا الإحسان ولا العطاء، بل وجدوا الانحطاط والفساد والظلم العظيم، وهو ما أدَّى إلى الرفض والغضب والتمرد والثورات.

 

إن الدولة المدنية الإسلامية هي التي جعلت في صلب العبادة الإسلامية قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) (المائدة: 47) وأكدت التباين الاعتقادي بين البشر: (.. لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا) (المائدة: 48)، وتعجب أن يأتي بعدئذ من يحيل الإسلام إلى الدولة الكهنوتية في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا!.

 

كان الكاب رمز الدولة العسكرية الفاشية التي حكمت معظم بلاد المسلمين في العصر الحديث، فأكثرت فيها الفساد، وعرضتها لهزائم غير مسبوقة في التاريخ، ووالت أعداء الله والأوطان والإنسان، وكان أكبر عار يلحق بمصر الإسلامية في العصر الحديث أن يقال إن رئيسها كنز إستراتيجي لأعدى أعدائها!.

 

الإسلاميون في مصر بفصائلهم المختلفة لا يعرفون شيئًا اسمه الدولة الدينية، ولكنهم يعرفون الدولة المدنية التي يحرّم فيها الإسلام الظلم تحريمًا قاطعًا، ويمنع الخوف والرعب وزوار الفجر، ويجعل ابن الفقراء يقتص من ابن الأكرمين، ويقف فيها الخليفة أو الحاكم مع خصمه أمام القاضي في مستوى واحد!.

 

ليس مقبولاً التشهير بالإسلام من أجل الانتخابات، والترويج لأنصار النظام البائد ومحاولة إعادة إنتاجه تحت دعوى محاربة الدولة الدينية والفاشية الدينية التي ستقوم بتصفية الصحفيين وتسريح الفنانين وتشميع الأوبرا وإغلاق المقاهي وفرض الحجاب وحرمان المرأة من العمل والتعليم وإعادتها إلى البيت، وإقامة الخلافة العثمانية، والتشريع لمضاجعة الوداع وقطع الآذان وإرضاع الكبير‏ وتحريم ميكي ماوس, وإفساد أكل الدود للصيام, والتبرك والتداوي ببول النبي عليه الصلاة والسلام, والمتاجرة بالدين من أجل السلطة والحكم, وتحويل مصر إلى قاعدة للإرهاب ألعن من أفغانستان؛ مما يهدد بتدخل العالم للقضاء عليها، والتلويح بانقلاب عسكري يمكن أن تشهده مصر لحمايتها من المصير الكارثي(؟!)؛ بسبب المشروع الإسلامي الذي سينتج عنه- كما يزعمون- صراع مجتمعي يزيد عزلة مصر، وقد يدفع إلى حرب مع العدو من دون تخطيط.

 

هذا التشهير الذي لا يقوم على أدلة وبراهين لا يعني أن يصدقه الناس بالضرورة؛ لأن الثورة كانت تحريرًا للشعب وإرادته، واستعادة لهويته وكرامته، وبعثًا لعبقريته وقوته، ولا أظن عاقلاً في مصر يمكن أن يسمح بدفن مصر مرةً أخرى تحت ركام الطغيان العسكري أو البوليسي، بعد الثورة الفريدة التي قام بها الشعب في يناير؛ تتويجًا لتضحيات ومعاناةً على مدى ستين عامًا قاسية.

 

لا يعقل اليوم أن نعود القهقرى ليحكمنا نظام بوليسي فاشي لا يعرف الرحمة، أو حكم ينبطح أمام الغزاة، ويفرط في المتاح له من الوسائل السياسية والدبلوماسية؛ لدرجة إنكاره تسمية الغزاة القتلة بالأعداء.

 

ثم إن الناس لن تتقبل حاكمًا يسخر من عقيدتهم وشريعتهم ويقول لهم إنه لن يطبقها اليوم أو غدًا، مع أنه يعلم جيدًا أنها قائمة وموجودة بدرجة كبيرة في حياتهم، ولا أظنهم يقبلون بتهديده ووعيده، كما أعلن في إحدى القنوات الخاصة مساء 26/5/2012 بأنه لا رحمة ولا تهاون مع من نزل إلى ميدان التحرير على مدى عام ونصف، وأنه لا مجال للمعارضة في المرحلة المقبلة، ولا تهاون مع من يتظاهر أو يكدر الأمن، ولا تصالح ولا تسامح مع من عارضه أو خالفه أو رفع صوته ضده، وأنه سيدعم رجال الأعمال الشرفاء- يقصد من دعموه بالمال والأصوات- ثم يعلن بالفم الملآن أن رئيسه المخلوع، الذي كان كنزًا إستراتيجيًّا للعدو، رجل وطني يجب أن يرد اعتباره ويلقى نهاية كريمة تليق بتاريخه المشرف(؟!).

 

إن العمامة ترفض لغة الجلادين؛ لأن الأمن يصنعه العدل والحرية والكرامة، وكم من طاغية تصدت له العمامة قديمًا وحديثًا بدءًا من سعيد بن جبير في مواجهة الحجاج، مرورًا بالعز بن عبد السلام وابن تيمية في مواجهة المماليك والتتار؛ حتى سيد قطب والشيخ كشك في مواجهة العسكر المهزومين، كما ترفض التحالف مع من نهبوا وسرقوا وأفسدوا، ثم إنها تعلم أن المخلوع طغى وبغى وأفسد وجعل مصر معرّة الأمم، ولا بد أن يخضع للقانون!.

 

الكاب مكانه الوحيد حدود البلاد يحميها من الغزاة والطامعين، ولا يسمح لهم باحتلال الأرض أو إهانة العرض؛ لأن مصر كبيرة بالحرية والكرامة والشرف، وليس بإذلال أبنائها، وتوعدهم بمصير العباسية الدامي!.