ما زلت منذ فترة ليست قصيرة أقرر أنه مخطئ من يتصور أن سؤال الثقافة سؤال يمكن تأجيله، وأعتقد أنه سؤال الوقت بامتياز لاعتبارات كثيرة يأتي في مقدمتها الوعي الحاسم بأنه لا حركة بلا ثقافة، وأنه لا إنجاز مادي على أرض الواقع سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا من دون رؤية للحياة، وهذه الرؤية للحياة هي أكبر منجزات الثقافة على الإطلاق، ولا سيما بعد بوادر التغير الجذري في ثقافة المؤسسة الحاكمة في مصر اليوم.

 

وتذكر صوت واحد كهشام شرابي 1927-2005 م مع كونه واحدًا من ألمع المفكرين العلمانيين مهم جدًّا في هذا السياق؛ لأنه كان يعتقد أن النضال القادم أي في أول القرن الحادي والعشرين سينصبُّ أساسًا على النضال الثقافي وتصوره صحيح إلى أبعد حد في ظل ظروف الربيع العربي الراهنة المكتسحة.

 

ومن هنا فإن مراجعة الشأن الثقافي المصري والعربي والإسلامي باتت مسألة مهمة جدًّا وفاعلة جدًّا ولازمة جدًّا.

 

وتتوزع قضية المراجعة الثقافية علي مجموعة من المحاور الكبرى يمكن الإشارة إلي رأسها الكبرى فيما يلي:

 

أولاً- موقع قضية الهوية في ظل حالات الاستقطاب بين مقولات الأصالة والمعاصرة من جانب أو دعاة المرجعية التراثية الإسلامية بالمعني الحضاري في مواجهة دعاة التغريب تحت شعار التحديث أو الحداثة صحيح أن الانتصار علي مستوي الشعوب العربية بدًا واضحًا في صف المرجعية التراثية الإسلامية الحضارية بشكل عام، ولكنه مشتبك مع مجموعة من علامات التغريب السلوكية والفكرية تزاحمه وتستولي على عددٍ من قطاعات هذه الشعوب العربية.

 

ثانيًا- موقع قضية محو بقايا الاستعمار الغربي في النفس المصرية والعربية في ميادين اللغة والفن والآداب والقناعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

وقضية محو بقايا الاستعمار مسألة شديدة الاستعلان لاعتبارات تاريخية عريقة ما تزال آثارها حالة حاضرة في الروابط القائمة بين الدول العربية في صورة الأنظمة الحاكمة وبين الدولة الاستعمارية القديمة بما يوحي بأن العلاقة الاستعمارية وإن انتهت على الأرض لكنها ما تزال باقيةً في النفوس والعلاقات السياسية والصلات بين الأنظمة.

 

ثالثًا- حاجة كثير من الاتجاهات الثقافية إلى المراجعة والنقد ولا سيما فيما يتعلق بنقد الفكر الديني الذي أنتجه علماء في أوضاع تاريخية واجتماعية مغايرة للأوضاع الاجتماعية المعاصرة، وهو ما يتعلق بطرح السؤال حول كيفية التفاعل مع التراث وما مستويات هذا التراث، وفيما يتعلق بنقد القراءات الماركسية واليسارية عمومًا والعلمانية للحضارة العربية والتاريخ العربي.

 

رابعًا- حالة الارتباك والإرباك المقصود من جانب طوائف مختلفة تحركها أهداف وأيدلوجيات متنوعة في الداخل العربي، ولا سيما إذ عرفنا أن هذه الحالة مقصودة؛ لأنها بمثابة المحراث أو آلة التجريف التي تتقدم أمام الجيوش العسكرية والاقتصادية.

 

ومن هنا فإن سؤال الثقافة أو الملف الثقافي يمثل نقطة مهمة جدًّا في هذا السياق ويقتضي لها تفكيرًا لمواجهة هذه الأزمات أن يتسم بما يلي:

 

أولاً- الوعي بطبيعة الخريطة الملغومة لواقع المؤسسات الثقافية في الداخل وهو واقع ملغوم لاعتبارات كثيرة من أهمها:

 

1 – حالة الفساد المستشرية في قطاعات الإدارة العليا تعيينًا في هذه المؤسسات، وهي حالات فساد مالي وأخلاقي في أسوأ صورة.

 

2- تترس هذه المؤسسات خلف أيدلوجيات بقايا الروح الاستعمارية المرتبطة حقيقة بعدد من اللغات والثقافات الغربية .

 

3- تجذُّر حالات الفساد وتنوعه في مستويات متوالية تشكل سلاسل متصلة ومتشعبة بحيث يتوقع تدويخ من يتصدي لها ولآثارها وهو ما لا يصلح معه منهج واحد للمواجهة.

 

والحق أن هناك ملامح إيجابية على الرغم من سوء صورة المشهد، وهذه الملامح الإيجابية تتبدي في تمدد الفعل الثقافي المعبر عن هوية مصر وتعاطف الجماهير معها ومع وجود تراكمات متنوعة في قطاعات العمل الثقافي في مصر، وهو الأمر الذي يبشر بالخير عند إحسان استثماره فلدى المؤسسة الثقافية الرسمية أمور كثيرة تبعث على التفاؤل النسبي في القطاعات التالية:

 

أولاً- استقرار عريق في عدد من المؤسسات الثقافية ناتج اتساع البنية التحتية لهذه المؤسسات من مكتبات عامة وقصور ثقافة وبيوت ثقافة ومسارح متنوعة وفرق شعبية مسرحية وغنائية واستعراضية وكوادر بشرية ممتازة في كل قطاعات الفنون الغنائية والتمثيلية والتشكيلية إلخ.

 

انيًا- وجود فريق من المخلصين الوطنيين المذهلين في الهياكل الإدارية ومنها العليا تمثل جناحًا إصلاحيًّا يمكن الاعتماد عليه في عمليات إعادة توجيه المؤسسة الثقافية المصرية.

 

ثالثًا- استقرار مجموعة من القوانين والقواعد التشغيلية تتعلق باللجوء إلي أساتذة الجامعات والشخصيات العامة والشعراء والأدباء لتنفيذ البرامج الثقافية ميدانيًّا، وهو ما يعني إمكان توسيع دوائر التشغيل للإبداع باستثمار العقل الثقافي في خدمة القضايا الوطنية.

 

إن مصر تمتلك رصيدًا ثقافيًّا رائعًا يمكن أن تبني على إنجازاته، وأن تواصل استثمار نجاحاته وأن ترصد إخفاقاته وانسداد لكي تعالجها وتتجاوزها ومن المهم جدًّا أن ندعو إلي مؤتمر عالمي جاد لوضع آليات لمناقشة هذه الإخفاقات والانسدادات ودراسة إجراءات تفعيل الثقافة ونهضة الوطن.

 

لقد تبدت مجموعة علامات حيوية تبعث على الأمل بما هو طاقة روحية تعلق القلوب بالمحبوب في المستقبل والكتابة والمؤتمرات الحقيقية الجادة والاشتباك مع الواقع واستثمار تجمعات الناس وخلق أهداف وطنية كبرى تعزز الشعور القومي والوطني يمكن أن تجعل العقل الثقافي قائدًا لقاطرة التنمية نحو مصر التي علمت الدنيا.

 

---------------

 

* كلية الآداب جامعة المنوفية