مرَّ يوم الأحد السادس عشر من سبتمبر دون أن يتوقف عنده أحدٌ في إعلامنا العربي إلا من رحم ربي، ففي هذا اليوم قبل ثلاثين عامًا (16/9/1982م) توقف التاريخ ليسجل واحدةً من أخزى المجازر التي عرفتها البشرية في مخيم "صبرا وشاتيلا" في بيروت.. وفي مثل هذا اليوم، توقف التاريخ أيضًا قبل واحد وثمانين عامًا (16/9/1931م) عند ساحة الإعدام؛ حيث وقف المجاهد الكبير "عمر المختار" شامخًا تحت حبل مشنقة الاحتلال الإيطالي ليقدِّم روحه فداء لحرية ليبيا.

 

الحدثان كبيران وجديران بالتوقف والتذكر والاحترام من العالم العربي والإسلامي، فهما يمثلان مشهدًا من مشاهد تقديم النفس رخيصة من أجل حرية الوطن، وهي مشاهد حري بنا أن نستحضرها، خاصةً في زمن الثورات على الأنظمة الظالمة لتحرير البلاد منها، وتحريرها من التبعية للاستعمار الحديث.

 

ف"عمر المختار" (20/8/1861-16/9/1931م) الملقب ب"شيخ المجاهدين" أو "أسد الصحراء" قاد الشعب الليبي في ملحمة جهادية على امتداد عشرين عامًا متواصلة وسطرها التاريخ بأحرف من نور ضد الاستعمار الإيطالي منذ اقتحامه للوطن الليبي 1911م، وكما هو معروف فقد كان جهاد «المختار» وقواته بأسلحة وإمكانات بدائية وقليلة في مواجهة آلة عسكرية متطورة ومتوافرة، إلا أن ثقة «عمر المختار» في الله سبحانه وتعالى وإرادته التي كسرت كل مدافع الطغيان، جعلته يواصل الجهاد لمدة عشرين عامًا متواصلة (1911م - 1931م)، وقد بدأ مشوار جهاده وقيادته للمجاهدين وهو ابن الحادية والخمسين، ولم يتوقف إلا عند تعليقه على المشنقة في 16/9/1931م، خاض خلالها أكثر من ألف معركة، وقد صرح القائد الإيطالي «أن المعارك التي حصلت بين جيوشه وبين «عمر المختار» 263 معركة، في مدة لا تتجاوز 20 شهرًا فقط»، واستشهد «عمر المختار» لتحيا ليبيا، وتنال حريتها، ويخرج الاستعمار ولو بعد حين، ومازالت كلماته التي دوت بهدوء وهو يصعد إلى حبل المشنقة موجهًا كلامه لقادة الاحتلال: «إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح، نحن لن نستسلم.. ننتصر أو نموت، سوف تأتي أجيال من بعدي تُقاتلكم، أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي». لقد توقفت طويلاً خلال زيارة لي للمتحف القومي في مدينة طرابلس أمام بندقية «عمر المختار» المتواضعة، ونظارته ومصحفه ولباسه المعروف، وكلها أدوات بسيطة في مواجهة قوة المحتل العاتية، لكن السر في الانتصار يأتي دائمًا من الإرادة القوية والعزيمة التي لا تلين، ومن قبل الثقة في الله سبحانه وتعالى.  أما مذبحة «صابرا وشاتيلا»، فقد ارتكبها كما هو معلوم الجيش الصهيوني بقيادة «شارون» و«رافائيل أيتان»، ومساعدة جيش لبنان الجنوبي بقيادة المنشق «أنطوان لحد»، و«حزب الكتائب» اللبناني بقيادة «سمير جعجع» أو ما يلقبونه ب«حكيم»، وهو «حكيم» محمد أبوحامد، عضو البرلمان المصري، الذي أعلن أنه يستلهم الحكمة من «جعجع»! وللتذكير فقط، فقد تواصلت المذبحة ثلاثة أيام متتالية، سقط خلالها بين 3500 و5000 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل.. وقد قضيت وقتًا غير قليل متجولاً في ذلك المخيم الذي مازالت مبانيه تشهد على واحدة من أبشع جرائم العصر.. مساكن بالية، وأزقة تسير فيها بصعوبة، ومساكن فقدت كل مقومات الحياة، ومع ذلك مازال الناس يعيشون.. يتجرعون المرار كل يوم.  في سوق المخيم غاصت مقبرة شهداء «صابرا وشاتيلا»، فقد نصب الباعة بضائعهم على أسوارها، وأحاطوها من كل جانب، وفي داخل السور ساحة فارغة يرقد تحت ترابها خمسة آلاف شهيد، يجأرون لرب العباد ظلم الصهاينة.. ليس هناك ما يدل على مقبرة سوى صور الشهداء المنتشرة على جنبات السور من الداخل، فليس من حق الفلسطينيين امتلاك مقابر خاصة بهم في لبنان، كما ليس من حقهم العمل حتى ولو كانوا أطباء!  وعند «صابرا وشاتيلا» يتذكر المرء سجلاً إجراميًا متخمًا بالمذابح لأهلنا في فلسطين، الذين حوَّلهم الصهاينة إلى وليمة يلتهمون فيها لحوم الأطفال، ويعبّون من دماء النساء والشيوخ إشباعًا لتلك النفسية اللئيمة التي تقتات على لحوم ودماء الأبرياء، بدءًا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحتى مجزرة غزة الصابرة الصامدة.

 

سجلات التاريخ هي خزينة الذاكرة لمن أراد أن يتذكر أو يتّعظ أو يستعد لقادم الأيام.. وتشهد الأرقام والوثائق بأن اليهود ارتكبوا في فلسطين أكثر من مائتين وخمسين مجزرة منذ عام 1937م حتى اليوم (مجزرة غزة).. وفي لبنان ارتكبوا منذ عام 1948م حتى عام 1996م عشرين مجزرة، ومازالت الأنقاض تخبئ أخبارًا مفجعة عن مذابح يشيب لها الولدان.. أكاد أرى «غزة المذبوحة» ترتمي في أحضان «جنين»، و«دير ياسين»، ليلتقي الجميع عند «قانا» اللبنانية فتتعانق صرخاتهم.. وسط تدفق شلال الدم الهادر على امتداد أكثر من نصف قرن.. جريح يشد من أزر ذبيح ويبعث فيه الأمل.. وذبيح يقاوم الموت الغادر ويصر على الحياة. ويبقى السؤال: لماذا يغطي النسيان تلك الأحداث الجليلة.. لماذا نفقد ذاكرتنا إلى هذا الحد؟!

 

------------

* [email protected]