أصبَح للإسلام جمهورٌ وأتباع ليسوا قليلين في المجتمع الأمريكي، لا سيما بعد أحداث سبتمبر الكارثية التي دعت الكثيرين منهم إلى معرفة الإسلام والبحث عنه، فلا يقلّ عدد المسلمين اليوم عن ستة ملايين مسلم يحملون الجنسية الأمريكية، ويزداد هذا العدد يومًا بعد يوم لعوامل عديدة، منها: التكاثر الطبيعي، والهجرة، واعتناق الدين، وغير ذلك، ويشكل هذا العدد جزءًا مهمًّا من الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع الأمريكي.

ونتيجةً للاختلاف العقائدي، وتبايُن الموروث الثقافي بين المسلمين وغيرهم، وسيادة قوانين قد تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فقد ينشأ عن ذلك مشكلات متعددة.. اجتماعية، وسياسية، وتربوية، واقتصادية، وغير ذلك مما يعطل مسيرتهم في الحياة، ويهدِّد وجودهم في هذا المجتمع.
ومن أبرز المشكلات الشرعية السياسية التي تواجههم في أمريكا، ويعقدون الندوات والحوارات حولها مشكلة مشاركة المسلمين في الحياة السياسية في هذا المجتمع، ومن أهمّ التساؤلات المطروحة: هل يجوز للمسلم أن يشارك في الإدارة الأمريكية؟ وإذا جازت المشاركة فهل لها ضوابط معينة؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور الآتية.

أهمية الموضوع:

وقبل الحديث عن هذه القضية ينبغي أن نقرر حقائق موجودة في المجتمع الأمريكي:
أولاً: إن الدستور الأمريكي والقوانين المتفرعة عنه تمنع التمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو العِرق، كما تمنع إصدار أيّ قانون من شأنه محاباة أيّ منشأة دينية، أو تقييد لممارسة الحرية الدينية، وحقّ الإنسان في الخطابة والتعبير عما يعتنقه ويعتقده، ولا تشترط مرور المرشح باختبار ديني للتأهيل لعضوية أيّ منصب عام في الولايات المتحدة (المادة السادسة من الدستور).

  The Constitution of the United State of America, p.p *

ثانيًا: إن المجتمع الأمريكي تختلف مكوناته عن مكونات أيّ شعب آخر، فهو شعب يتكون من عرقيات وأديان وأجناس من مختلف أنحاء العالم، ونشوء هذا الشعب ليس له جذور تاريخية بعيدة، إنما هم مجموعة من المهاجرين اتفقوا على قيام مجتمع ذات سيادة يكفل لهم العيش الكريم، وهذا يجعل المسلمين كغيرهم في الحقوق والواجبات.

ولا شكَّ أن هذا الأمر يتيح للمسلمين الأمريكيين العيش في جوٍّ آمن، وحرية واسعة، وفي نسبة عالية من التسامح والهدوء؛ مما يكفل لهم ممارسة الشعائر والشرائع بحرية وانفتاح.
ثالثًا: إن أمريكا تُعد الآن القوة الكبرى الوحيدة في العالم التي تؤثر بقراراتها وسياساتها الخارجية على العالم كله، ولجماعات الضغط الفاعلة أثرٌ في هذه القرارات، فإذا أمكن للمسلمين هناك أن يشكِّلوا جماعةَ ضغط فاعلة فإنه سيكون لذلك أثره على المسلمين في المجتمع الأمريكي وخارجه في كل بلاد العالم.

كل هذه الأمور تجعل دراسة هذا الموضوع ذا أهمية بالغة؛ وذلك لتوضيح معالمه وآفاقه، وما يجوز وما لا يجوز؛ حتى يتحقق للمسلمين أمنهم، ويحافظوا على كيانهم ووجودهم في المجتمع الأمريكي.

دراسات السابقين:

وقد تعرَّض لدراسة هذا الموضوع كثير من الباحثين، لكن من نواحٍ مختلفة،
فمنهم من تحدَّث عن حكْم المشاركة في الإدارات والسياسات في الأنظمة العربية في البلاد الإسلامية، باعتبارها أنظمةً تتحاكم إلى غير شريعة الله، ومن هذه الدراسات:
 دراسة "محمد أبو فارس" عن (المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية)، ودراسة "عمر سليمان الأشقر" عن (حكم المشاركة بالوزارة والمجالس النيابية).

ومنهم من تناول حكم المشاركة في ظل أنظمة غير إسلامية في غير البلاد الإسلامية، ومن هذه الدراسات:
 دراسة الشيخ "خالد عبد القادر" في كتابه: (فقه الأقليات المسلمة)، ودراسة "توبولياك" في كتابه: (الأحكام السياسية للأقليات الإسلامية)، الصادرة عن عمادة الدراسات العليا في الجامعة الأردنية، وغير ذلك من دراسات.

وواضح أن أحدًا من هذه الدراسات لم يتعرض على وجه الخصوص بالحديث المفصل عن المجتمع الأمريكي، إنما جاءت أحكام هذه الدراسات في ضوء العموميات.

تعريف (السياسة الشرعية) وعلاقتها بالمصلحة:

ولا بد في البداية من ذكر معنى السياسة الشرعية وعلاقتها بالمصلحة، يقول "ابن منظور": "السِّياسةُ: القـيامُ علـى الشيء بما يُصْلِـحه، السياسةُ: فعل السائس، يقال هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام علـيها وراضَها" (لسان العرب: 6/108)، ومعنى ذلك أنَّ السياسة في اللغة تقوم على الإصلاح والتدبير والتربية.

أما في الاصطلاح فتأتي لمعنيين:
الأول: معنى عام يتصل بالدولة، والسلطة، فهي بهذا المعنى: "العِلم الذي يعرف منه أنواع الرياسات، والسياسات الاجتماعية والمدنية وأحوالها: من أحوال السلاطين والملوك والأمراء، وأهل الاحتساب والقضاء والعلماء، وزعماء الأموال، ووكلاء بيت المال، ومن يجري مجراهم".
الثاني: يتصل بالعقوبة، وهو أن السياسة: "فعل شيء من الحاكم لمصلحةٍ يراها، وإن لم يَرِدْ بذلك الفعل دليل جزئي" (انظر الموسوعة الفقهية الكويتية: 25/295-296)
والسياسة- كما هو واضح- لها صلة وثيقة بتحقيق مصالح الخلق، وتدبير أمورهم، بحفظ ضرورياتهم (الدين والعرض والنفس والعقل والنسل والمال)، وحاجياتهم وتحسيناتهم، وهو عينُ تعريف المصلحة في الاصطلاح الشرعي، كما قال الدكتور "البوطي" مُعَرِّفًا المصلحة: "هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، طبْق ترتيب معين فيما بينها" (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: 13- مطبعة السعادة- مصر- ط أولى 1983م)
فالسياسة الشرعية تُعتبر سياسةً بحكم القائمين عليها، وتدبير أمور الناس بما يُصلحهم، وهي شرعية باعتبارها تطبيقًا لأحكام الشرع فيما ورد فيه نصٌّ، أو فيما يستند إلى عمومات النصوص وكليات المقاصد فيما لا نص فيه.

دفع المفسدة وجلْب المصلحة أساسُ الاجتهاد في المسألة:

وبالنَّظر في آراء الفقهاء الذين تناولوا هذه المسألة قديمًا وحديثًا- لا سيما المُجيزين- وجدنا أن أكبر الأُسس التي يعتمدون عليها في إصدار حكم لهذه المسألة هو مبدأ "دفع المفسدة وجلب المصلحة"، بالإضافة- طبعًا- إلى النصوص الواردة في القرآن والسنة.

فالمصلحة إذا كانت غالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكْم الاعتياد أو العُرف فهي المقصودة شرعًا، ويطلب الشارع من العباد تحصيلها، وإن تبعتها مفسدة مرجوحة؛ لأنها غير مقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه، وإذا كانت المفسدة هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد أو العرف السائد فدرؤها هو المقصود شرعًا؛ ولأجله يقع النهي من الشارع، وإن تبعتها مصلحة فليست هي المقصودة في النهي، ولابد من اختلاط المصلحة بالمفسدة والمفسدة بالمصلحة في كل أمر من أمور السياسة الشرعية، فمن الصعب أن تجد أمرًا مَصلَحيًا خالصًا أو أمرًا مفسديًا خالصًا، إنما مدار الأمر على الغالب فيه.

ولهذا قال الإمام "الشاطبي": "لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى، فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تُفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفًا؛ ولذلك كان الفعل - ذو الوجهين- منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله" (الموافقات: 2/26- بشرح الشيخ "دراز"- دار المعرفة بيروت)
وقال سلطان العلماء: "لما كان الغالب صدق الظنون بُنيَت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب، خوفًا من وقوع مفاسد كذبها النادر، ولا شكَّ أن مصالح الدنيا والآخرة مبنيَّةٌ على الظنون" (قواعد الأحكام: 2/21-22، دار الكتب العلمية- بيروت)
وبناءً على هذا المبدأ فإن مشاركة المسلمين في السياسات الأمريكية- وتشمل الرئاسة والوزارة وما يتصل بالحكومة- تخضع لهذه الموازنة، فإذا غلبت المصلحة كانت المشاركة مشروعة، وإذا غلبت المفسدة كانت المشاركة محظورة.

ومن الجدير بالذكر أن المصلحة التي نعنيها هي المصلحة التي يُعتدّ بها شرعًا، ويترتب عليها مقتضاها، لا المصلحة الجارية على مجرَّد العقل والهوى وشهوات الناس؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون:71)
قال "الشيرازي": "المصلحة  في الشرع لا تتعلق بما يميل إليه الطبع؛ حتى يُبنَى الأمر فيه على ما يميل الطبع إليه، بل المصلحة متعلقة بما حكَم الله- عز وجل- به، فيجب أن يطلب ذلك بالدليل" (التبصرة لـ"الشيرازي": 1/509. تحقيق "محمد حسن هيتو"- دار الفكر- دمشق. ط. أولى- 1403هـ).

 وقال "الشاطبي": "ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس؛ حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع، فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء فالشرع لمَّا جاء بيَّن هذا كله، وحمل المكلفين عليه طوعًا أو كرهًا ليُقيموا أمر دنياهم لآخرتهم" (الموافقات: 2/39).

و"الشاطبي" هنا يضيف ضابطًا للمصلحة، وهو أن تكون لإقامة الدنيا للآخرة، وعليه فالأصل هو النص، سواءٌ كان نصًّا خاصًّا جزئيًّا يخص واقعة معينة، أم نصًّا عامًّا كليًّا يصدق على أبعاضه ونظائره، فللعقل أن ينطلق إلى حيث شاء ما دام في رحاب هذا النصّ الكلي، لا يتعدى حدوده؛ ولهذا قال "الشاطبي": "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل" (الموافقات: 1/87).

آراء العلماء في المسألة:

عرض الفقهاء المتقدِّمون لهذه المسألة تحت عنوان "تولّي الرجل الفاضل من المسلمين ولايةً من الرجل الفاجر والسلطان الكافر"، ويمكن القول بأن في المسألة رأيين، (انظر بحثًا قيمًا في هذه المسألة للدكتور "علي محمد الصوَّا"- مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية العدد: 51 شوال 1423هـ):
الأول: يرى أصحابه جواز المشاركة، ومنهم "ابن عطية" و"الماوردي" و"الهراسي" و"القرطبي" و"ابن تيمية" و"الآلوسي" وغيرهم، واشترطوا ما يلي:
1ـ أن يكون المتولِّي قادرًا على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، ويمكن ذلك في الواقع.
2ـ أن يُفوَّض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء.
3ـ أن يعلم المتولِّي ألاَّ سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به.
4ـ أن يترتب عليه إيصال النفع للمستحقين ودفع الضرر عنهم.
ولا شكَّ أن هذه الشروط كلها موانع من تولِّي أمرًا في ظل السلطان الفاجر أو الحاكم الكافر؛ لأن الواقع يوجب الالتزام بالقوانين واللوائح النافذة في الدولة، وعليه يمكن إلحاق هذا الرأي برأي المانعين.

الرأي الثاني: يرى أصحابه عدم جواز تولّي ولاية الرجل الفاجر أو السلطان الكافر، وهذا القول ذكره "القرطبي" في تفسيره، ولم يذكر قائله، ورجَّح القول الأول. (انظر تفسير "القرطبي": 9/215. طبعة دار الشعب)
أما الفقهاء المعاصرون فقد تناولوا المسألة من حيث المشاركة في الوزارة في ظلّ أنظمة علمانية، أو أنظمة لا تحكم بشريعة الله، بل تحكم بأنظمة وضعية لا تستمد قواعدها من شريعة الله، وانصبَّ بحثهم على المشاركة في الأنظمة القائمة في البلاد العربية والإسلامية، ويمكن القول بأن هناك رأيين أيضًا عند الفقهاء المعاصرين في أصل المسألة:
الأول: يرى أصحابه أن الأصل هو الحرمة، ومنهم "محمد أبو فارس" و"عمر الأشقر" و"عزام التميمي" و"محمد قطب" و"راشد الغنوشي" و"سليمان توبولياك".
وأصحاب هذا الرأي فريقان:
الأول يرى جواز المشاركة استثناءً من الأصل للضرورة، ومنهم: "أبو فارس" و"قطب" (انظر المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية: 25. مطبعة النور- 1991م، وواقعنا المعاصر: 508-509. مؤسسة المدينة للصحافة والنشر. ط2- 1988م).
والفريق الثاني: يرى جواز المشاركة في الوزارة استثناءً من الأصل للمصلحة، ومنهم: "عمر الأشقر"، و"راشد الغنوشي"، و"سليمان توبولياك" (انظر "عمر الأشقر" حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية: 29. دار النفائس. عمان. 1992م، وانظر مشاركة الإسلاميين في السلطة لـ"عزام التميمي": 13، 15. والأحكام السياسية للأقليات الإسلامية لـ"توبولياك": 98. رسالة ماجستير بالجامعة الأردنية)
والرأي الثاني: ذهب أصحابه إلى أن الأصل جواز المشاركة في الوزارة للمصلحة، في ظلّ حكومة لا تحكم بشريعة الله تعالى، ومنهم "يونس الأسطل"، و"علي محمد الصوَّا" (انظر: ميزان الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة: 202. رسالة دكتوراه في الجامعة الأردنية- وانظر: "علي محمد الصوا"- مرجع سابق).
ويرى الدكتور "علي محمد الصوَّا" أن الفريق الثاني من أهل الرأْي الأول الذين يرون الحرمة ويجيزونها استثناءً من الأصل للمصلحة، يلتقي في النتيجة مع أصحاب الرأي الثاني؛ لأن كلاًّ منهما يقول بالجواز مع اختلاف منطلق كل منهما، دون وجود اختلاف يترتب عليه شيء عملي (انظر د. "علي محمد الصوَّا"- مرجع سابق).

أدلة المانعين:

يمكن تقسيم أدلة المانعين من تولّي ولاية أو مشاركة حكومة لا تحكم بشريعة الله- سواءٌ كان الحاكم مسلمًا ظالمًا أم كافرًا- إلى قسمين: أدلة نصِّيَّة، وأُخرى اجتهادية قائمة على فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد (اعتمدت في هذا التقسيم على بحث الدكتور "الصَّوّا" في مجلة الشريعة لمذكور آنفًا: 367-376 من المجلة).
أولا: الأدلة النَّصيَّة:

- النصوص القاضية بالكفر والظلم والفسق على من لم يحكم بما أنزل الله. (سورة المائدة:44،45،47).
- النصوص التي تجعل الحكم لله وحده كقوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (يوسف: 40).
- النهي عن الاحتكام إلى غير شريعة الله، وجعْل ذلك منافيًا لمقتضيات الإيمان كقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65)
- الآيات التي تنهى عن الركون إلى الظالمين أو اتخاذهم أولياء كقوله: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (هود: 113).
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51).
- إن طاعة الحكام الظالمين فيما يشرِّعون يعني اتخاذهم أربابًا من دون الله، وقد بين الرسول-عليه السلام- لـ"عدي بن حاتم" أن هذا هو معنى الاتخاذ أربابًا من دون الله.

فدلالة النصوص السابقة تقطع بالحرمة في الاقتراب من الظالمين بتولّي شيء من ولاياتهم، أو تنفيذ تشريعاتهم، أو الرضا بها، فإنَّ ذلك كله يعرض الإنسان إلى مخالفة مقتضيات الإيمان، ويقترب به من الخروج عن الملة.

ثانيا: الأدلة الاجتهادية:

- إن المشاركة في الوزارة وتولِّيْها من الظالمين أو الكافرين هو اعتداء على حق الله تعالى في أن يكون له الحكم والأمر، وهي مفسدة تتعلق بالدين الذي يُعَدُّ حفظه من الضروريات.
- الركون إلى الظَّالمين يعرض صاحبه للوقوع في الوعيد، وفي هذا تضييع لمصالح الآخرة.
- إن في تولية الوزارة لهم لتزكيةً لفعلهم، وصبغ أفعالهم بصبغة شرعية، وهو تزييف وغش نهى عنه الشرع.

- إن في مشاركة الصالحين للظالمين في الحكم فقدانًا لثقة الجماهير في أهل الفضل والدعوة؛ لأنهم بهذه المشاركة سوف تضعهم الجماهير مع الظالمين أو الكافرين في خندق الكراهية، وقد يكون ذلك مقصودًا لتصفية الوجود الصالح.

أدلة المُجيزين:

وأدلتهم نوعان أيضًا: أدلَّة نَصيَّة، وأدلة اجتهادية.
أولاً: الأدلة النصية:
تنحصر الأدلة النصيَّة لهذا لرأي في دليلين: واحد من القرآن، والآخر من السنة، الأول قوله تعالى حكايةً عن يوسف- عليه السلام-: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 55-56).

فالآية دليل على أن يوسف- عليه السلام- طلب الولاية والمشاركة في مجتمع مشرك لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام، ولا يُعترض هنا بالآيات التي تمنع من تزكية النفس، ولا الأحاديث التي تنهى عن طلب الإمارة، ويوضح "القرطبي" ذلك بأن يوسف- عليه السلام- إنما طلب الولاية؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره- وهكذا الحكم اليوم- لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعيَّن ذلك عليه، ووجب أن يتولاَّها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك..... وأنه- يعني يوسف- لم يقل إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"، ولا قال إني جميل مليح، إنما قال إني حفيظ عليم، فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال (القرطبي: 9/216).

وقد كان للملك نظام وقانون معين بدلالة قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ (يوسف:76)، كما كان المجتمع مشركًا لا يزال على شركه حتى بعد يوسف- عليه السلام- بدليل قوله: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ (غافر:34).
يقول الدكتور "الأشقر": "بناءً على ذلك كلِّه يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي- من خلال عرض قصة يوسف عليه السلام- إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى، أو دفع شرّ مستطير، ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يغيّر في الأوضاع تغييرًا جذريًّا" ("عمر الأشقر" مرجع سابق:32)
ولا يقال إن هذه الآية لا تصلح للاستدلال؛ لأن يوسف لم يشارك في الحكم الجاهلي، إنما كان الأمر مفوضًا إليه، بدليل مخاطبة إخوته له بقولهم "يا أيها العزيز"؛ لأنه يرده قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ وهو دليل على أن نظام الملك قائم وحاكم، وأيضًا يرده قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾، و"مِن" في الآية للتبعيض؛ لأنه لم يكن مستقلاًّ في الحكم، وكذلك لا يقال إن ذلك خاص بـ"يوسف" لا يتعدى غيره؛ لأن النصَّ عام، وفي تخصيصه نوع تحكُّم، وشرْع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ما ينسخه، كما هو مقرر في كتب الأصول.
والدليل الثاني من السنة، ويتلخص في موقف "النجاشي" الذي ظلَّ حاكمًا على نظام يحكم بغير شريعة الله بعد إسلامه، ومع ذلك اعتبره النبي- عليه السلام- رجلاً صالحًا، وصلَّى عليه بعد موته، ولم يُخَطِّئه في فعله، فعن جابر-رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- حين مات "النجاشي": "مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلّوا على أخيكم أصحَمة" (رواه البخاري- كتاب فضائل الصحابة- باب موت "النجاشي")، وهو حديث يُحتج به في تأكيد إسلام "النجاشي".
ومما يدل على أن "النجاشي" لم يحكم في قومه بشريعة الإسلام بعد إسلامه نصُّ الرسالة التي أرسلها إلى النبي- عليه السلام-، ومما قاله فيها: "...فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك بابني "أرها ابن الأصحم بن أبجر"، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئْت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق" (تاريخ الطبري: 2/132. دار الكتب العلمية. بيروت. ط أولى. 1407هـ).
ويقول شيخ الإسلام "ابن تيمية": "والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها..... فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها" (مجموع الفتاوى: 19/218-219).
ثانيًا: الأدلة الاجتهادية:
أما الأدلَّة غير النصية لهذا الرأي فهي تدور حول تحقيق المصلحة المشروعة، وما يتفرع عنها من قواعد وموازنات، وإن اختلفت أنظارهم في كونها أصلاً للقول بجواز المشاركة، أو دليلاً للعدول عن الأصل العام، الذي يمنع المشاركة في نظام يحكم بغير شريعة الله تعالى.

الترجيح والرأي المختار:

لا يختلف أحد من الفقهاء قاطبة في أن الحكم بغير شريعة الله كفر وظلم وفسق، وخروج عما يقتضيه الإيمان، ولا في حرمة التحاكم إلى غير شريعة الله تعالى، وكذا موالاة الكفار والظالمين والركون إليهم، وجميع المناقشات التي أوردناها انصبَّت على إنزال ذلك الحكم على المشاركة في حكومة تحكم بغير شريعة الإسلام، لكن هل يُعتبر المسلم الفاضل- إذا شارك في وزارة الظالم أو الكافر- حاكمًا بغير ما أنزل الله، ومواليًا للكافرين والظالمين وركونًا إليهم؟
المانعون من المشاركة يعتبرون ذلك حكمًا بغير ما أنزل الله وتحاكمًا إلى غير شريعة الله، وموالاةً للكافرين والظالمين، وركونًا إليهم، واعتبروا قول المجيزين قولاً بالرأي في مواجهة النصّ، واعتبارًا للمصلحة المحضة في مقابل إعمال النص، وتأولوا قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ﴾- وما اتصل بها- بأنه طلب خاص بتخزين القمح، وتدبير التوزيع في السنوات الخصبة بما يتناسب مع ما سيأتي من سنوات جدب، فأعجب الملك برأيه وأطلق يده فيه.

وذهب هذا الفريق إلى أن الحكم في النهاية آلَ إلى يوسف- عليه السلام- بعد أن أظهر عدلاً وبراعةً في تدبير الأمور، ومما يشير إلى ذلك قول إخوته له: ﴿يَآأيُّهَا الْعَزيْز﴾، وقوله هو: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾، وقول الله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾، كلَّ هذا يشير إلى أنَّ الأمر صارَ إليه في النهاية. (انظر: الدعوة إلى الإسلام لـ"أحمد المحمود": 257-258، 252،255. دار الأمة للطباعة بيروت. ط 1. 1995م، و"أبو فارس" مصدر سابق: 44-47)
كما ردوا أدلتهم العقلية التي تتعلق بالمصلحة، وقالوا إن تحديد المصلحة من اختصاص الشارع، فما طلب الشارع فعله هو المصلحة، وما نهى عنه هو المفسدة.

والذي يطمئن إليه القلب أن الأدلة التي ساقها المانعون والمجيزون ليست واردة على المسألة محل النزاع؛ لأن الذي يشارك في وزارات أو حكومات تحكم بغير شريعة الله لا يقصد- والأعمال بالنيات- الركون إلى الكافرين وموالاتهم، أو تشجيع تحكيم غير شريعة الله، أو الرضا بعدم تحكيم أوامره، إنما هو تطبيق لتعاليم الله فيما توخَّاه من إقامة الحق والعدل؛ لأنه مكلَّف من قِبَل الشرع بما يستطيع وما تطيقه نفسه كما قال "ابن تيمية"، وحين طلب "يوسف"- عليه السلام- الولاية كان يعلم أنه أهل لها؛ بما تمتع به من حفظ وحكمة وعلم، وأنه لا يوجد من يقوم بما سيقوم به من إقامة العدل والصلاح؛ وعليه ذهب "القرطبي" إلى أن ذلك يتعين على المسلم الفاضل إذا توفر ذلك فيه، كما نقلنا عنه من قبل.

فالركون المنهيّ عنه، هو الموالاة والرضا بما يمليه الظلمة والكفرة من أحكام وقوانين تخالف قوانين الله وأحكامه، والسكون إليهم والميل القلبي إلى ما يشرّعون من دون الله.
إن من يشارك من الدعاة المخلصين في وزارة أو إدارة سياسية- وهو يقصد العدل والحق وتطبيق ما يمكن تطبيقه من أحكام الله؛ حتى لو كانت الولاية مشتملة على ظلم ومخالطة، فيخفف الظلم فيها، ويقضي مصالح المسلمين- فإنه لا يعد بذلك وليًّا للظالمين ولا راكنًا إليهم؛ لأنه لم يُعنهم على ظلمهم، أو يساعدهم في طغيانهم وكفرهم، إنما هو وليُّ المؤمنين، ينصرهم ويحميهم، ويطالَب بما يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.

وفي هذا الإطار نفهم قول سلطان العلماء "العز بن عبد السلام": "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولّوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله؛ جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة؛ إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها" (مصدر سابق: 1/73-74).

إذا تبين ذلك فإن مشاركة المسلم الأمريكي في الحكومة الأمريكية والحياة السياسية عمومًا جائزة، لا سيما أن القانون أو الدستور الأمريكي- كما قلنا من قبل- يسمح لكل من في المجتمع بالمشاركة وِفْق ضوابط معينة، ويكفل الحرية والحركة المطلقة لكل المواطنين، وليس هناك تفريق على أساس الدين أو الجنس أو العرق وغير ذلك.

لكن ينبغي أن يتمّ ذلك عبر ضوابط وشروط:

- أن يتحقق من وراء ذلك حفظ كيان الأقلية المسلمة، وتحقيق مصالحهم الضرورية، من حفظ للدين والنفس والعقل والنسل والمال، وحاجياتهم، وتحسينياتهم، والمراد بالمصلحة هنا ليس مجرد الهوى والتشهّي، وإنما هي المصلحة التي أشرنا إلى أهم ضوابطها آنفًا.

- أن يكون من يتولَّى العمل السياسي عدلاً في نفسه، قادرًا على تحقيق المقصود من المشاركة، بعيدًا عن اتباع الهوى؛ حتى لا يخوِّل له بريقُ المنصب تحقيقَ أغراضه الشخصية.

- يضاف إلى ذلك أن يكون على درجة كافية من الإمكانات التي تؤهِّله للقيام بهذه المهمة العظيمة، وأن يكون ذا خبرة كافية، متمرسًا على معاناة السياسة، وحسن تدبير الأمور، عملاً بقوله تعالى: ﴿إِِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص:26).

وعليه فإذا كانت المشاركة في الإدارة السياسية محقِّقةً لمقصود الشارع من تحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات للمسلمين في أمريكا، والمطالبة بحقوقهم وقضاء مصالحهم وحفظ كيانهم بحسب ما يغلب على الظنّ، ووُجد القادر على القيام بأعبائها وهو القوي الأمين..، فإنها جائزة، بل قد يرتفع حكمها إلى الفرْض الكفائي أو العيني، وينبغي دعم هذه المشاركة وتشجيعها ومساعدتها ماديًّا ومعنويًّا.

أما إذا كانت وسيلة غير فعالة في تحقيق كل ما ذكرنا بحسب ما يغلب على الظنّ بحكم العُرف والعادة، أو كانت مفاسدها أكبر من مصالحها المجلوبة للمسلمين في هذا المجتمع، فإنَّ المشاركة تكونُ ممنوعةً شرعًا، ويحرم تأييدها ودعمها ماديًّا ومعنويًّا... والله أعلم.