هل تعرفون مسرح الجرن؟ إنه من المسميات المنقرضة والرومانسيات الجانحة في الخيال المسرحي فقط، ولا يوجد له أساس على أرض الواقع اليوم! فلم يعد في مصر كلها ما يسمى بالجرن، ولم تعد الأجيال الجديدة تعرف ما هو الجرن كما لم تعد تعرف "النورج" مثلاً. والنورج هو أحد آلات الحصاد المنقرضة ولا يعرفها إلا الفلاحين القدامى، وكانت تشبه العجلات الحربية وتجرها الماشية، وتستخدم في فصل القمح عن التبن في ساحة الجرن الذي غاب من حياتنا!

 

 في السابق كان الجرن المكان المثالي الذي تقام فيه أعراس الحصاد، وفيه تتم الكثير من مناسبات القرية، كالأفراح والمناسبات السعيدة، وفيه يتجمع الأهالي عند النوائب والشدائد، وفيه ينتظرون الغائب، وفيه يقيمون سرادقات العزاء!

 

لو بقي هذا الجرن على صورته السابقة لكان أفضل مكان للعروض المسرحية، ولكان جديرًا بمشروع "مسرح الجرن" الذي تقدر ميزانيته الحالية بـ250 ألف جنيه، يصرف منها مبلغ زهيد على كتيبات الأنشطة وخامات بسيطة والباقي يذهب لجيوب أصحاب النصيب!

 

وأذكر أن المخرج هناء عبد الفتاح كانت له تجربة فريدة مع الجرن في فترة الستينيات، حين ذهب لإحدى القرى ومعه نص مسرحي فقط، وأقام في مبنى الإصلاح الزراعي لمدة ثلاثة أشهر؛ كوّن خلالها فريقًا مسرحيًّا من شباب الفلاحين، وعرضه مسرحيته في جرن البلدة والبلاد المجاورة.

 

كانت تجربة لها أثرها البالغ وقتها، تلتها عدة تجارب ناجحة، توافرت فيها خصوصية ومذاق القرية، لا سيما أن الجرن كان موجودًا، ولم تغتاله ناطحات السحاب التي صارت تطارد أي بقعة خضراء، ولم ترحم قرية أو مدينة، ولم تبق للجرن على أثر!

 

وبالرغم من غياب تلك البقاع الحبيبة – الأجران- من أراض القرية المصرية، فقد رأينا وزير الثقافة يتبنى إحياء هذا المشروع بعدما أوقفته أو سعت لإيقافه هيئة قصور الثقافة، نظرًا لتكاليفه الكبيرة وفوائده القليلة أو المعدومة.

 

ولا نعرف عن أي جرن تحدث وزير الثقافة مع دعاة المشروع والمستفيدين المباشرين منه، وهل بلغهم خبر القرية المصرية وما حصل فيها من تغير، ألم يعرفوا أن القرية أصبحت كائنًا بين بين ليست قرية وليست مدينة، وأن الأرض تباع فيها بالسنتيمتر تمامًا كالمدن، وأن سعر المتر في بعض القرى أضعاف سعره في بعض المدن.

 

قلنا لهم: الجرن مات، الأسمنت والخرسانة أكلت الأجران كلها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وبدأت في الزحف على المزارع، فقالوا فيما يشبه حوار الطرشان: الجرن جميل! الجرن ملتقى ضروري لتنمية التفكير الديمقراطي، ولا بد من وصول الثقافة وروافدها المختلفة إلى المهمشين والغلابة في القرى! الذين جلسوا حول المائدة المستديرة بالمجلس الأعلى للثقافة، وفي حضور وزير الثقافة الدكتور صابر عرب لاستعادة مسرح الجرن؛ إما أنهم لا يعرفون واقع القرية المصرية وأن الجرن لم يعد موجودًا، أو أنهم يعرفون هذا جيدًا ويأتي هذا الكرم الفياض - لأنه ليس من جيوبهم- في إطار المجاملات لأصحاب المشروع الذين يرتزقون منه!

 

لو صدق المتباكون على مسرح الجرن لسعوا إلى تنشيط مشاريع موجودة بالفعل داخل الهيئة العامة لقصور الثقافة وتتوجه للقرية بشكل مباشر وتقوم بما يقوم به مسرح الجرن في فكرته الحالية التي تكلف الدولة مبالغ طائلة، فالهيئة بها أسابيع ثقافية مخصصة للقرية، وبها الإدارة العامة للقرية، وإدارة الطفل، وإدارة الفنون التشكيلية، بالإضافة إلى عربات القوافل الثقافية.

 

لو صدق هؤلاء لطالبوا بتوزيع المبلغ الذي يحصلون عليه نظير مشروع خيالي ليس له أساس على أرض الواقع إلى عدد من المواقع الثقافية القائمة بالفعل والمحرومة من أي نشاط، فالهيئة كيان كبير منتشر في كل ربوع مصر، ولو تم توزيع الـ 250 ألف جنيه على المواقع القائمة بالفعل لكان لها مردود على الناشئة، ولقامت بما يدعو إليه أصحاب مسرح الجرن الذين لا يمكلون غير 6 مواقع فقط على مستوى الجمهورية، ينفقون عليها الفتات والباقي يذهب لجيوبهم!