(1) مدخل: المسرح سبيلاً للإصلاح!

 

(2) منذ زمان بعيد جدًا من عمر ظهور التأسيس للأجناس الأدبية والأمر دائر على محوري المتعة والمنفعة، قال ذلك أرسطو وقال ذلك هوارس الروماني، وعبر عنه الكثيرون بتعابير مختلفة.

 

 ولم يختف من قوائم هذه الدراسات أمثال مصطلحات الالتزام والمسئولية وإرادة التطهير، وقد كان الهدف عند هؤلاء جميعًا صناعة الترقي الإنساني من خلال الخلق الجمالي والفني.

 

 لقد استقر منذ نظرية المحاكاة استعمال المسرح طريقًا للتغيير والارتقاء والتهذيب والتطهير، وفزعت إليه الأنظمة الحاكمة على امتداد التاريخ في بيئات جغرافية متنوعة لتطوير الحياةّ!

 

 والمأمول أن يسهم المسرح في هذه المرحلة التاريخية الفارقة من عمر مصر في خدمة قضاياه الوطنية، مشكلاتها القومية في إطار فني وجمالي يمتع ويثقف ويعين على التطور الإيجابي.

 

(2) ملامح للبهجة!

 

 لقد دعاني الصديق العزيز الأستاذ علي الغريب مدير فرقة (يناير تياترو) إلى مشاهدة مسرحية (كفر الأخضر)

 

 والحق أقول لكم إن عددًا متوافرًا من العلامات الإيجابية تبدت من الدعوة والمشاهدة، أرجو أن يتأملها القارئ الكريم، قبل الخوض في القراءة النقدية للمسرحية نصًا وفكرة وتمثيلاً فيما يلي:

 

أولاً: إن الانتماء الإسلامي "لعلي الغريب" يفتح بابًا مهمًا للاقتناع بالتطور الإيجابي للحركة الإسلامية المعاصرة في وجه شغب كثير ضدها ولاسيما فيما يتعلق بالفنون والآداب إن وجود فرقة مسرحية منتمية للتيار الفكري الإسلامي، وإن كانت له سوابق في التاريخ المسرحي المعاصر، كما يحكي التاريخ الأدبي للإخوان المسلمين، على مستوى الكتابة المسرحية، وعلى مستوى التمثيل– شيء مثير جدًا يعكس تراكمات مورس ضدها كثير من التعتيم والإهمال والدرس التاريخي على الأقل.

 

ثانيا: ثم إن كتابة مسرحية بعيدًا عن أجواء التمصير، أو الأخذ من حدث تاريخي والتمصير والأخذ عمليتان معروفتان في تاريخ الكتابة للمسرح مرتبطتان دائمًا بالبدايات- تعكس ملمحًا فنيًّا إيجابيًّا يشير إلى وجود كتاب مسرحيين حقيقيين قادرين على الإبداع في ميادان الكتابة المسرحية المتطورة.

 

ثالثا: ثم إن وجود عناصر فنية منتمية للتيار الإسلامي تغطي مساحات العمل الفني كاملة (نصًا، وإعدادا للمسرح، وتمثيلاً، وديكورًا، وملابس، وموسيقى، ورقصات، وإضاءة، وإخراج) أمر آخر جدير بالتأمل والتوقف والفحص الذي يعكس إيجابيات متوافرة.

 

رابعا: يضاف إلى ذلك هذا التجاوز المدهش لإشكالات نظرية كثيرة من مثل المشاركة النسائية في التمثيل المسرحي، من دون تنازلات من وجهة نظر الشريعة الغراء.

 

(3) المسرحية خادمة للوطن!

 

 تتشبك مسرحية (كفر الأخضر) لعلي غريب، وفرقة: يناير تياترو، مع القضايا الوطنية الحقيقية؛ حيث تعانق قضية الهوس بالهجرة إلى الخارج وتفتح آفاقًا ظاهرة الأهمية إلى قدرة المشروعات القومية، إن وجدت، على استيعاب حجم مرعب من الأيدي العاملة( قضية المشروع القومي لتعمير مصر)

 

 وتشتبك المسرحية بقضية عانت طويلاً من التهميش والإهمال إلى درجة وصلت أحيانا إلى حد الخيانة للوطن، وهى قضية تعمير سيناء بما تمثله من عمق إستراتيجي سياسي واقتصادي يقع في القلب من قضية الأمن القومي لمصر.

 

 والحلم بتحويل صحاري مصر وفي مقدمتها سيناء إلى (كفر الأخضر) بما تحمله دلالة اللون الأخضر الرمزية على النهضة الزراعية المأمولة والمنشودة-حلم وطني بامتياز يعيد التذكير بما يمكن أن تحققه المشروعات القومية الكبرى من حل لكثير من المشكلات المزمنة المتوارثة في مصر بسبب من امتداد فترات الفساد السياسي في مصر قبل ثورة 25 يناير.

 

 إن حلم: كفر الأخضر بما هو مشروع قومي بامتياز يطرح أسئلة عميقة، ويفتح آفاقًا جديرة بالتأمل حول مشكلات من نوع:

 

1- الأمن القومي المصري المأزوم والمهدد من قبل الكيان الصهيوني على امتداد جزء من البوابة الشرقية لمصر.

 

2- المشكلة الغذائية المصرية، ولاسيما فيما يتعلق بالمحاصيل الإستراتيجية (القمح مثلاً)

 

3- مشكلة الانتماء لشعب سيناء العزيزة، وإدماج أبنائها في النسيج الوطني المصري، وتقدير إسهام الوطني في حماية أمن مصر، بما هم حراس مصر الرابطون على بوابتها الشرقية.

 

4- الاشتباك الفعال لمشكلات البطالة، والهجرة الشرعية وغير الشرعية للعمالة المصرية، ومخاطره على تجريف المهارات المهنية المصرية العريقة والممتدة في جذور التاريخ.

 

5- تخفيف العبء السكاني على المدن والقرى القديمة، وصناعة امتداد جغرافي بإعادة التوزيع السكاني.

 

 هذا نموذج لما يمكن أن يقدم المسرح المصري، فكرًا واشتباكًا مع المشكلات الوطنية.

 

 ومن أجل هذا عبر الناقد المسرحي الكبير الدكتور أسامة أبو طالب في تعليقه على هذا العرض قائلاً: "من هنا تبدأ نهضة المسرح" وهذا صوت مهني محترم برئ من تهمة الانحياز!

 

(4) الفكرة النبيلة عندما تسكنها المتعة

 

أنا أعلم أن النص المسرحي مع تقديرنا أهميته ليس هو كل شيء، بل لا يحكم له إلا بعد أدائه على المسرح.

 

والذين شاهدوا المسرحية سيخرجون بشعور حقيقي من المتعة الفنية والجمالية فجرته مجموعة من الإيجابيات المتعاونة من عناصر العمل الفني يمكن الوقوف أما عدد منها فيما يلي:

 

أولاً: كان أداء عدد كبير من الممثلين مقنعًا وممتعًا في الحركة، والأداء والاستعمال اللغوي، وفي هذا السياق بدا(الحاج حامد) الفلاح المصري الأصيل الذي استطاع أن يعبر بحركته وأدائه اللغوي عن حكمة المصري، وأصالته، ووعيه بقضايا الوطن الحقيقية، وتفوق (شندويل) و(بريزة) على الرغم من أنهما شخصيتان نمطيتان للفلاح البسيط، والمجذوب- بشكل ظاهر جدًا وجاء بعدهما أداء (حسين) و(سامية) و(حمدان الراشد)، وبدت (كريمة)= سماح إبراهيم مقنعة وإن بدت مبالغة في الأداء في أحيان كثيرة لم تكن في حاجة إلى هذه المبالغة.

 

 ومع ذلك فقد بدت بعض العيوب تتعلق بالاضطراب في نطق بعض الأصوات على لسان الشخصية نفسها، وهو ما بدا في التردد في نطق (القاف) على لسان عبده كيميائي: مرة بالجيم القاهرة، ومرة بالهمزة!

 

ثانيا: اجتهدت المسرحية على مستوى الديكور أن تعمق حالة الإيهام في محاولة لتحقيق توحد الجمهور مع العمل الفني، ولكنه مع تقديره إجمالاً وقع في بعض ما قلل من الإيهام من مثل الكرسيين الملفوفين بخيش للإيهام المتفرجين بأنهما مقاعد صخرية، ولكن جاء الخيش شفافًا خفيفًا أظهر حقيقة الكرسيين من تحتهما.

 

كما جاءت الخلفية غير المستوعبة لعرض خشبة المسرح غير مقنعة وغير خالقة للإيهام شبه الكامل.

 

ثالثا: واستطاعت الموسيقى أن تؤثر في جمهور المشاهدين، نظرًا إلى تنوعها ولاسيما في مشاهد الإيقاع الحزين، وجاءت كلمات الأغاني التي أبدعتها الشاعرة صفاء البيلي خادمة للعمل، غير منفصلة عنه.

 

 صحيح أن بعض هذه الأغنيات تناصت واستدعت بعض الموروث الغنائي وخدمة لحنيًّا باستعارة ألحان شائعة، وهو أمر كنت أحب أن تفر منه ألحان محمد عزت ولاسيما في مطلع أغنيته:

 

جينا جينا جينا.

 

رابعا: مع تقدير النص والحوار المصنوع بعناية وحرفية جيدة، فإن عددًا من الملاحظ السلبية أرجو أن يتنبه إليها من مثل:

 

- استعمال عدد من التعابير سابقة التجهيز لغير دواع فنية من مثل ما جاء على لسان(كريمة): يا صفايح الجبنة السايحة.

 

- استعمال تعابير بدت غير مناسبة للموقف من مثل: تعليق حسن على شخصية بريزة بأنه (طول النهار بيسأل الناس) وهو يقصد أنه يمارس التسول، وكان الأليق أن يعبر بالفعل المتداول (يشحت)!

 

 لكن الحق قاض بأن أقرر أن النص في مجمله عبر عن الشخصيات تعبيرًا موفقًا، وبرزت فنياته في بعض مفاصل العمل، ولعل العبارات التالية كان ممتعًا جدًا بسبب من احتملته من إبداع مكتنز من مثل:

 

- عبارة الحاج حامد (وهو يحكي عن أحلام المصريين مع سيناء: عايز الحق الموت)! و( الجري ورا الموت عبادة)

 

خامسا: وقد جاءت الملابس في مجملها مقنعة خادمة للشخصيات وإن بدت مجموعة من الملاحظ أرجو التنبه إليها من مثل:

 

2- سراويل الفلاحين مختلفة عما في الواقع.

 

2- المبالغة في زى كريمة.

 

3-حذاء حمدان (أو شبشبه) من غير إصبع، وهو النموذج الشائع في المجتمع السعودي.

 

 إن مسرحية (كفر الأخضر) وأداء فرقة يناير تبادر وتفتح الباب أمام إعادة تقييم ذات أبعاد إيجابية لموقف الإخوان من الفن والمسرح، ولاسيما وأنا أعلم أن الفرقة تعمل في روف قاسية جدًا.

 

 مصر قادرة على أن تعود هذا هو الصوت الفني الذي أعلنته مسرحية قدمت فنًا حقيقيًّا ساعة أعلن الجميع وهم يخاطبون مصر:

 

 اربطي جروحك وقومي.

------------

* كلية الآداب ـ جامعة المنوفية