(1) مدخل: نحو بلاغة جديدة للبناء
مثلت مصر الحقيقة البارزة في الوجدان المعاصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011م بعد سنوات طويلة من المهانة والخيانة والفساد!
وبما أن الشعراء هم طلائع الاستبصار نحو المستقبل بموجب ما يملكونه من مواهب بلاغة البصيرة فإن المأمول أن يمثل صوت الشعر رافدًا مهمًا ولازمًا علي طريق ترقية مصر، وخدمة ما تأمله وتنشده من رفعة وتقدم وازدهار.
لقد ظل الشعراء المنتمون على امتداد حقبة ما قبل الثورة يبكون على أطلال مجد انهار على أيدي سياسات إجرامية فاسدة، وبمقدار تنامي الفساد تنامى صوت البكاء.
واستثمرت تقنيات كثيرة في بناء الأعمال الأدبية عمومًا والشعرية خصوصًا، فخلقت رموز جديدة، وتذرعت هذه الأعمال بأقنعة كثيرة حرصًا على استمرار الصوت الشعري، ومنعًا من إسكاته، ونما بشكل متزايد استعمال العامية لأغراض الالتحام مع الجماهير؛ إيمانًا بأن للشعر وظائف تتوجه نحو خدمة الجماهير، ولا سيما في أوقات الأزمات القومية.
وقد كان الأمر مفهومًا وله ما يسوغه في الإطارين: الفني والموضوعي، وتسامح النقد المنتمي كذلك واتسع صدره لكثير مما لا يروقه أو يعجبه تحت ضغط مطالب الالتحام مع الجماهير.
ولكن هذه المرحلة تطمح إلى حالة من الشعرية الجديدة التي تسعى نحو البناء، في إطار من الإمتاع الفني والجمالي المعين على تحقيق جاذبية خاصة لمطالب مصر بعد الثورة.
(2) قدرات هائلة وضمائر متوهجة
يستثمر أحمد جمال في عمله (أغاني العفاريت) واحدة من عناصر منتشرة في المزاج المصري العام، يعبر بالعفاريت مجازيًّا عن القدرات الهائلة التي يتمتع بها بعض الناس، وهو ما يعني أن شيئًا من المراوغة وصناعة التشوف والتشويق كامن وراء استعمال (العفاريت) في عنوان هذا العمل الشعري.
وتتأخر لحظة التنوير بعض الشيء حتى تضيئه قصيدة (العفاريت) لينكشف الغطاء عن مراد العمل بالعفاريت عندما يقول أجمد جمال في (العفاريت):
§ في ميدان مفروش أطهر عفاريت
§ وشباب معجون مية عفاريت
§ داهنين هواها ماشيين ع الحيط
§ راسمينها هناك أجمل صورة
§ عفاريت بتثور خلف الغضبان
وهو ما يعني تلبس الديوان بأمرين جامعين يشكلان عمود الصورة للقضية التي يطمح إلى معالجتها، وهما:
أولاً- قضية التأريخ للثورة على أرض الميدان، واقتناص ملامح الثورة، وصناعة حالة شعرية منها.
ثانيًا- بيان المحددات الصانعة للمستقبل، والتعاطي معها شعريًا.
وفي هذا السياق بدت ملامح شعرية الانتماء ظاهرة جدًا، يخدمها الشاعر على مستويين مركزيين هما:
أ- المستوى الموضوعي؛ حيث اشتبك الشاعر مع قضية التعامل السلبي مع محددات الانتماء للمرجعية الأصيلة للأمة في (النبي زعلان/ وح تشفع لي/ وصيحة صلاح (الدين الأيوبي)/ مفتاح الكعبة/ آلام عزة) وهي عنوانات كما نرى تنطلق من محدد المرجعية المنتمية.
ومن جهة أخرى تظهر في عنوانات عدد آخر من عناصر عمله الشعري علامات المحدد الوطني الذي يرعى الوطن/ بما هو ركيزة أساسية تستهدفها كل عمليات البناء كما تكشف عنها العنوانات التالية (أجمل سفينة هي مصر/ وصحيت مصر/ حلم الصورة/ على الماكنة/ كفاية سفر/ العفاريت/ مجروح وطن).
ومن مجموع هذين المحددين الموضوعيين يدعو الديوان إلى إنقاذ مصر/ الوطن باستفزاز المرجعية المنتمية وبآليات متضافرة من استنفار المجد القديم، واستثمار الطاقة الإنسانية الوطنية بإيقاف نزيف هجرة العقول والأيدي إلى الخارج، وحفز طاقات العمل والإنتاج، واستلهام روح الثورة القادرة على التغيير.
ب- المستوي الفني والجمالي؛ حيث بدا الشاعر واعيًا بتقنيات بناء القصيدة المعاصرة المنتمية المتلبسة بروح رومانسية جديدة؛ مدعومة بعناصر فنية مناسبة للطرح الموضوعي، كان أهم تجلياتها:
أ-المعجم الشعري الرومانسي المنتمي الجديد؛ حيث تعانقت الحقول الدلالية الدالة على البناء واليقظة بالحقول الدلالية الدالة على المرجعية المقصود استحياؤها في الناس.
فعلى المستوى الموضوعي المتعلق بالمرجعية والهوية تتجلى المفردات التالية؛ لتشكل حقلاً واسعًا قائمًا بذاته(النبي /نتوضى /السما /تشفع /طريق الله /أتوب /ساجد /أحمد /مآذن /رسول /الكعبة /التسبيح...إلخ).
وعلى المستوى الموضوعي المتعلق ببناء مصر والسعي في طريق تقدمها يتشكل حقل دلالي موسع عماده المفردات التالية: (النيل /مصر /صحيت/ فاس /ساقية/ الغيطان /فلاح /الماكنة /الساري /الغيطان /زهر المزارع... إلخ).
ب- التصوير الفني؛ حيث جاءت كثير من الصور خادمة لهذين البعدين الموضوعيين بشكل واضح.
ومن ذلك:
§ قوم يلا نتوضى
§ من سنة الأحباب
ففي هذه الصورة مع الإقرار بقدر من تقليديتها– لكنها تغذي قضية الهوية بما هي واحدة من ركيزتين يؤسس لهما الديوان، ويقول:
§ أنا النيل اللي يرويكي
وهذا التماهي بين الذات الشاعرة وظواهر الطبيعة، وإن كان من خصائص الشعرية الرومانسية، فإنها خدمت هنا المستوى الموضوعي المتعلق بقضية الوطن وانتعاشه.
ج-الحوار.. حيث استعار أحمد جمال هذه التقنية الفنية ليصنع بها حالة من حوارية تقصد إلى تعضيد بعد اجتماعي إنساني يتمثل في صناعة اجتماع إنساني يرقى بمصر، وتنتشر على صفحات هذا العمل الشعري علامات صانعة للحوار من مثل:
§ وشوشت ديوان الوجع
§ قال لي: النبي زعلان
§ وسألني: ما لك يا قمر؟
§ قال لي: النبي زعلان
ولعل حالة طغيان ظهور الذات الشاعرة من خلال إحصاء ظهور ضمير المتكلم(أنا) يمكن أن يفسر جماليًّا في اتجاهين يخدمان روح المسئولية الفردية من جانب، وروح الفرار من الوحدة والتفتت!
د-التناص؛ حيث استدعى الشاعر أحمد جمال مجموعة من العناصر الفنية التراثية؛ ليوظفها في طريق خدمة البعدين الموضوعيين في الديوان من مثل:
1- استدعاء الشخصيات التاريخية دينية/وقومية، من مثل: النبي الكريم صلي الله عليه وسلم /دابة رسول /الكعبة /وعنتر / وصلاح الدين وغيرها.
2- معارضة نماذج شعرية وطنية، من مثل معارضته لبعض قصائد صلاح جاهين(صورة) المتعلقة بالانتصارات الوطنية المعاصرة في (حلم الصورة).
(3) الطريق ما تزال طويلة
إن الشاعر أحمد جمال وإن كان يملك عددًا من المحددات الشعرية، فإنني أقرر في حقه أن طريق استوائه شعريًّا ما تزال طويلة، وسأحاول أن أقف أمام مجموعة من منجزه في هذا العمل تكشف عما أريد أن أقدمه له:
أولاً- المعجم الشعري:
يمثل المعجم الشعري المادة الأساسية لبناء شاعرية الشاعر وبقدر تمكنه واستيعابه في هذا المجال تظهر الطاقات الشعرية، ولي بعض الملاحظ على بعض ما جاء في هذا السياق.
ففي قوله:
§ قوم يلا نتوضى
§ من سنة الأحباب
كنت أود أن تكون (من سيرة الأحباب) لاعتبارات إيقاعية، وفكرية.
وفي قوله:
§ ح تشفع لي
كنت أود أن يستعمل حرف (الهاء) ذلك أن الثقافة الشعبية عندما تتجلى لغويًّا يصبح استعمال الشافع في معجمها هو الركيزة المعول عليها، ومن ثم فإن استعمال (الهاء) "مورفيما" للدلالة على المستقبل هو الشائع.
وفي قوله:
§ ما بين المرسى والضفة
كنت أود أن يبحث عن لفظ آخر؛ لأنهما جاءا وقد دخلا في علاقة شبه ترادف؛ إذ ما الفارق بينهما دلاليًّا؟
وأعتقد أن تصميم القافية جنى سلبيًّا على هذا الاختيار.
ثانيًا- التراكيب اللغوية:
والتراكيب الشعرية بما هي عصب العمل الشعري الذي يحمل طاقاته إلى المتلقين تحتاج إلى وعي شديد، ومن هنا فإن ثمة ملاحظ سلبية منها، يقول:
§ أنا عاصي صحيح يمكن.
وأقترح حذف (يمكن) واستعمال (لكن)؛ ذلك أن (يمكن) أضعفت القناعة بالاعتراف بالضعف الإنساني، ومقام التذلل في هذا المجال النبيل، مما يقلل بدوره من مطالب التعاطف الإنساني معه.
ويقول:
§ نسينا المصاطب/ نسينا السهر
صحيح أن الشاعر يريد أن يكني عن راحة البال في سبيل الإقناع بالعدول عن فكرة الهجرة والسفر إلي الخارج، وهو أمر نبيل لكن السبيل إليه سلكت طريقًا هازلة كشفت عن عدم جدية.
ويقول:
§ دي يلعن أبوها أراضي الخليج
ولا أدري ما مسوغ لعنة هذه الأرض موضوعيًّا وجماليًّا، أنا أفهم أن صرف الناس عن الاغتراب بما هي فكرة فلسفية وإنسانية لا علاقة لها بلعن الأرض، ذلك أن كل أرض هي وطن لأصحابها، ومن ثم فإن طريق الإقناع بعدم جدوى الغربة لا يكون هذا سبيله.
ثالثًا- التصوير:
فقد جاء التصوير تقليديًّا مع جلال القضية التي يشتبك معها العمل الأدبي هنا.
ومن ذلك هذا الإلحاح على استعمال التشبيهات التقليدية مع توافر الفرصة للإبداع في التصوير:
§ أنا الموجة وأنا الطوفان
§ أنا بحر الهوى الميَّال
§ وأنا البركان
فهذا التكثيف في استعمال التشبيهات وإن ارتفع بمقام التحمس للقضية فإنه رجع برتبة التصوير العيني.
رابعًا- الموسيقى والإيقاع
أحمد جمال في حاجة كبيرة لاستكمال أدواته في هذا المجال وعليه خدمة المسارات التالية:
أ- مراجعة قدراته العروضية.
ب- التدريب المستمر على الفرار من الأضرار التي تصنعها قيود القوافي بما يسمى الآثار السلبية للقافية.
ج- مراجعة برامج البديع وما يمكن أن تقدمه المحسنات البديعية اللفظية خدمة لقضايا الإيقاع والموسيقى.
نحن أمام حالة يمكن بعد مجهود صادق أن توجد لنفسها قدمًا على الساحة الأدبية والشعرية.
---------------
* كلية الآداب- جامعة المنوفية