لعلها ليستْ مصادفةً أن أبدأ حديثي بكلام لـ(رينيه ويج) أستاذ سيكولوجية الفنون التشكيلية في الكوليج دي فرانس؛ حيث يقول: "ليس الفن لهوًا أو مجرد ترفٍ، مهما يكن هذا الترف رفيعًا، بل الفن ضرورة ملحة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها. فإذا صح القولُ ألاَّ فن بلا إنسان فينبغي القول كذلك ألاَّ إنسان بلا فن."(1)

 

الفن إذن ضرورة، وهو أساسيٌ كي تستقيم حياة الإنسان وتستمر على نحو متزنٍ، وأهمية الفن ترجع إلى أنه يضيف إلى خبرات الإنسان ما يستطيع به أن يعمِّق من واقعه الثقافي والمعرفي ويثري وجدانه، ويجعل منظومته الشعورية أكثر رهافةً وحساسيةً، وهذه قيم ومبادئ متأصلة في ألوان الفنون بصفة عامة- على اختلافها وتنوعها- وفي فن السينما بصفة خاصة، "فإذا كان الفن هو موقف أو وجهة نظر تجاه المجتمع والحياة والكون، وإذا كانت وظيفة الفن هي تزويدنا بالمعرفة والمتعة، فإن ذلك ينطبق على الفيلم أيضًا، ومن ثم تتحدد قيمته باعتباره تعبيرًا عن موقف ما، وتبقى الحرفة السينمائية هي وسيلة الفنان لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه شأنها شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية، واللغة بالطبع ليست مستهدفةً لذاتها، بل لما تسهم في توصيله إلى القارئ".(2)

 

غيبة الذائقة الجمالية

على أن المتأمل في المشهد السينمائي اليوم وما تقدمه دور العرض السينمائية على شاشاتها يدرك تمام الإدراك أن السينما اليوم تعاني ضعفًا شديدًا وتراجعًا واضحًا، وأنا هنا لا أتحدث عن عدد الأفلام المُنْتَجَةِ، فالكم لا يعنيني بقدر ما يعنيني الكيف الذي أُنْتِجَت به ووفقًا له هذه الأفلام، فثمة تفككٌ في السيناريوهات وضحالةٌ في الأفكار المقدمة، مرورًا بالمونتاج المضطرب غير الواعي والأداء السقيم البارد للممثلين الكبار (النجوم)، فضلاً عن الوجوه الجديدة التي تفتقر للحد الأدنى من الإجادة والمعايشة، وانتهاءً بالرؤية الإخراجية المهزوزة غير المحكمة وغير المثقفة في آنٍ، ففيلم مثل فيلم (مهمة في فيلم قديم) بطولة فيفي عبده، يفتقر إلى الحرفية، فالسيناريو ساذج "دون وجود معنى أو سياقٍ  لأي شيء" والقصة سطحيةٌ تقوم بتمثيلها شخصياتٌ مضطربةُ الملامحِ، كثيرًا ما تفقد السيطرةَ على أدائها التعبيري وتتحرك وفق كلامٍ مرصوصٍ على الورق، لا وفق بناءٍ دراميٍّ محكمٍ قائمٍ على ترابطٍ وتسلسلٍ منطقيٍّ يحكم نمو الشخصيات وتطور الأحداث على نحوٍ متناغمٍ ومتسقٍ، فثمة حوارٌ مبعثرٌ يُلْقَى على مسامع المُشَاهِد بطريقةٍ آليةٍ باردةٍ استظرافيةٍ لا حياة فيها ولا روح، وأخطر ما في الموضوع أن شخصيات الفيلم شخصياتٌ هائمةٌ تنمو دراميًّا وفق هواها وهوى المخرج، بعيدًا عن النمو الدرامي المنطقي والطبيعي الذي تمليه طبيعةُ الشخصيةِ ذاتها والظروفُ الحياتيةُ التي تحيط بها وتعيش فيها، وهو ما نجده في الأعمال الفنية الجادة، أما فيلمنا هذا، فلا شيء فيه من ذلك، وهو بالجملة فيلمٌ يخلو من عمقٍ.أما فيلم (جيم أوفر) بطولة يسرا ومي عز الدين فهو فيلمٌ مفككٌ يستخف بالجمهور، ولا يُقدِّم كوميديا حقيقيةً كما كان يأمل صانعوه، بل يُقدِّم مواقفَ مفتعلةً، وشخصياتٍ تتعمد الاستظراف، أو هي تحاول بمبالغاتها الحركية (شقلبات وقفزات وصراخ هستيري وعض وصفع وسقوط) أن تضحكنا رغمًا عنَّا، أو هي في الحقيقة تدغدغ أجنابنا بسكينٍ لكي نضحك، وهو عمومًا فيلمٌ ضعيفٌ يقدم كوميديا حركيةً مفتعلةً، مُجَسِّدًا أسوأ ما قدمته يسرا من أعمال، "بعد أن فهمتْ على نحو خاطئ أن مجرد الجري والتشقلب والسقوط يطلق الضحك بصورةٍ ميكانيكيةٍ، ودون أن تعلم أن هذه المشاهد التي أدتها في هذا الفيلم لا بد أن تُبنى بدقةٍ وبذكاءٍ، وبدرجةٍ عاليةٍ من الابتكار، حتى تحقق الأثر المطلوب".(3)

 

وهناك (عبده موتة) وهو فيلم تظهر عليه بوضوح البصمة السُّبْكيَّة أو بالأصح أنت تجد به خلطة السُّبكي التجارية المعروفة من:

 

غاني العشوائيات والموالد وبعض المشاهد الساخنة وشوية أكشن، ولا يوجد مانعٌ، بل من الضروري إضافة عددٍ من الإفيهات المبتذلة والرقصات الخليعة.

 

أما فيلم (ريكلام) بطولة غادة عبد الرازق ورانيا يوسف فيكفي أنك تستحي أن تشاهده مع أسرتك وأطفالك، فقصة الفيلم تدور حول سرد حيوات أربع ساقطاتٍ (عاهراتٍ) من البداية وحتى النهاية، إلى أن أصبحن محترفاتٍ في عالم الدعارة واللحم الرخيص، ولك أن تتخيَّل ما قدمه الفيلم من مشاهدَ ولقطاتٍ وألفاظٍ كي يرسم هذه اللوحة الجنسيَّة المقززة على الشاشة السينمائية.

 

جذور المشكلة وتجليات الكارثة

هناك الكثير والكثير من الأفلام الركيكة التي لا يتسع المجال للحديث عنها أو بالأصح لا تستحق الحديث عنها، والتي تَحَكَّم فيها رأسُ المالِ الشرهُ الجاهلُ، وحركةُ التسويقِ العمياء التي لا تعترف بغير مبدأ البيع والشراء، والمكسب والخسارة، وفي وسط هذا السُّعار المادي ضاع الفنُ وأصبح حالُ السينما كما نراه الآن: إسفافًا وابتذالاً، سطحيةً وغيبةً للعمق، والمال مقابل أي شيء.

 

"إن صيحة الفن للفن التي نادى بها الشاعر العظيم (بودلير) هي احتجاجٌ على الموقف النفعي الصارخ والاهتمامات العملية الكئيبة للرأسمالية، إنها نشأت من تصميم الفنان على ألا يُنْتِج سلعًا، وذلك في عالَم أصبح كل ما فيه سلعةً للبيع".(4)

 

لقد وقعتْ أفلامُنا السينمائيةُ فريسةً لآلة المال الجهنمية وتحقيق الثروات بشكلٍ ميكانيكيٍّ بحت، وراح القائمون على صناعتها- مزكومين برائحة الدولارات- يتخمونها بما يجعلها أكثر قدرةً على ابتزاز جيوب الجمهور، وهذا يفسر لنا السيل الكاسح من الأفلام التي تعج بمشاهد غرف النوم واللقطات الساخنة وقعدات البانجو والحشيش والبيرة والمزاج، ومعارك الدم والبلطجة والرقص والأغاني الشعبية الهابطة والإفيهات الرخيصة والنكات البذيئة والتلميحات الجنسية المبتذلة، إلى آخره من الملامح القبيحة التي أصبحت سمة معظم الأفلام التي تزخر بها الساحة السينمائية اليوم، وتُصَدِّرها لنا دورُ العرضِ السينمائيةُ.

 

لقد غاب عن أذهان وضمائر المتمددين على آرائك صناعة السينما أن السينما وإن كانت تجارةً مربحةً تدر المال "فهي أيضًا زادٌ ثقافيٌ وترفيهيٌ لجماهيرَ عريضةٍ على مستوى العالم كله، وهي بحكم كونها فنًّا سمعيًّا بصريًّا تصل إلى المستويات الثقافية والاجتماعية، لذا فهي أيضًا أداةٌ مهمةٌ من أدوات التغيير الاجتماعي وتنمية الوعي الثقافي أو العكس طبعًا، فيمكن استخدامها بوصفها سلاحًا مدمرًا وأداةً طيعةً في يد الإعلام غير الصادق، وتصبح قوةً خطيرةً ومضللةً، تعمل على غرس مشاعرَ ومعاييرَ سلوكيةٍ تحارب الجهود الرامية إلى التخلص من النواقص الاجتماعية وإرساء القيم الإنسانية النبيلة".(5)

 

وهنا تكمن الكارثة، فالأفلام التي تحدتنا عنها وغيرها كثير مما تزدحم به دور السينما الآن لا نستطيع، بل من المستحيل أن نعده إبداعًا فنيًّا أصيلاً يُقدِّم منفعةً أو يُرَسِّخ قيمةً، لأنه في واقع الأمر يتعمَّد الإسفاف، ويستهدف الهلس والعنف الأهوج.

 

مسئولية الفنان والبحث عن حل

وأذكر أن المخرج خالد يوسف قدَّم أحد أفلامه، وهو تحديدًا فيلم (حين ميسرة) معتذرًا عما به من مشاهد، فهمتُ أنها جارحة لعين المشاهد وشعوره معًا، ولكنه رغم ذلك عرضها بحجة أنها مأخوذةٌ أو موجودةٌ في المجتمع المصري الذي يكتظ بما هو أسوأ من ذلك وأشد قسوةً.

 

وهنا نقول إنه صحيح أن المجتمع قد تكون به بعض هذه النماذج السيئة المُقَدَّمة في هذه النوعية من الأفلام، ولكنه صحيحٌ أيضًا أن "العمل الفني يمتلك المتفرجين لا عن طريق المطابقة السلبية بينهم وبينه، بل عن طريق مخاطبة العقل ودفعه إلى اتخاذ مواقفَ وقراراتٍ"(6)، "فالفنُ لا يمكن أن يكون وصفًا تقريريًّا للواقع: إن وظيفته دائمًا أن يُحرك الإنسان في مجموعه، أن يمكِّن (الأنا) من الاتحاد بالآخرين، ويضع في متناول يدها ما لم تَكُنه ويمكن أن تكونه"(7)، وهذا لن يتأتى إلا بإعادة النظر فيما يُقدَّم من موضوعات وسيناريوهات، فيجب التخلِّي عما هو سطحي ومبتذل والتوجه الجاد والمسئول نحو ما هو عميقٌ وراقٍ، "لأن اختيار الموضوع يعتبر جزءًا أصيلاً من الفن ذاته، باعتبار أن كلَ فنٍ اختيارٌ، وأن الفنان الحق هو الذي يُحسن الاختيارَ ويُحس بعقله المرهف ما يُحسن اختياره وما يثير اهتمام الناس، ويُحرِّك عواطفهم وتفكيرهم، كما أن اختيار الموضوع يحدد في الغالب الهدف الذي يرمي إليه الكاتبُ أو الفنانُ. والأهدافُ متفاوتةٌ ولها سلمٌ في القيم"(8)، فهل نأمل أن يأتي اليوم الذي يُدرك فيه القائمون على صناعة السينما أن السينما بجانب كونها تجارةً وصناعةً فهي أيضًا فنٌ وإرساءٌ للقيم النبيلة؟.... أرجو ذلك.

-------------

الهوامش:

1- د. عز الدين إسماعيل: الفن والإنسان، مكتبة الأسرة، الأعمال الفكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003م، ص:9.

2- علي أبو شادي: سحر السينما، مكتبة الأسرة، سلسلة الفنون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م، ص: 11.

3- انظر مقال محمود عبد الشكور: "جيم أوفر.. مرحبًا بكم في فيلم يسرا"، مجلة "عين على السينما"، 6 يوليو2012م.

4- راجع: إرنست فيشر: ضرورة الفن، ترجمة: أسعد حليم، مكتبة الأسرة، الأعمال الفكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998

، ص: 96.

5- علي أبو شادي: سحر السينما، ص:14.

6- إرنست فيشر: ضرورة الفن، ص:17.

7- نفسه.

8- د. محمد مندور: قضايا جديدة في أدبنا الحديث، سلسلة ذاكرة الكتابة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص:10،9.