حلوى شعبية مفعمة بعبق الماضي يتم إنتاجها محليًّا في الصعيد الأعلى من بلاد مصر المحروسة منذ عدة مئات من السنين وطالما استمتع بها الأطفال والصبية بل والكبار على تنوع طبقاتهم واختلافها ويومًا ما في ذلك الزمن البعيد كانت حلوى الجلاب بمثابة الهدية القيمة التي تتبادلها فئات المصريين في مناسباتهم الاجتماعية المختلفة، ولعل فنانيهم في تلك العصور من ماضي مصر الجميل تغنوا بها ولها. ولطالما رفع البائعون عقيرتهم بالغناء لها جلبًا للزبائن وإغراءً لهم بشرائها وتناولها. وفي قريتي كانوا أحيانًا يطلقون عليها الخلع ولعل الاسم جاء من كونها هدية سلطانية يهبها السلطان أو الوالي إلى من يبغي إكرامهم فيخلع عليهم تلك الحلوى العجيبة.

 

وتتركز صناعتها في مركزي فرشوط ونجع حمادي بمحافظة قنا حيث تجود زراعة قصب السكر الذي يمثل المادة الخام لصناعة الجلاب وهذه الصناعة يتوارثها الأبناء عن الآباء كابرًا عن كابر وأحيانًا يتوارثها التلامذة (الصبيان) عن أساتذتهم (المعلمين), لكن بقي سرها مكتومًا لا يبوحون به لأحد وبالتالي لم يلق الضوء عليها أبدًا ولم تأخذ حظها من الذيوع والانتشار إلا أنها تعاني الآن من الذبول والاندثار الأمر الذي يشي بقرب زوالها من الوجود لتكون أثرًا بعد عين مثل الصناعات الكثيرة واليدوية التي كانت في مصر ثم اختفت.

 

فمراكز الصناعة بمحافظة قنا وما حولها مثل محافظات أسوان والأقصر  وسوهاج, تكاد تكون هي المنطقة الوحيدة التي تنتشر بها تجارة هذا النوع من الحلوى اللهم إلا في بعض مناطق محدودة بالقاهرة. هذا عن الانتشار المكاني أما الانتشار الزماني فهي تظهر قبيل بداية موسم حصاد قصب السكر بحوالي شهر أو أقل قليلاً لتختفي قبل انتهائه بشهر أو أكثر قليلاً. أي أن موسم إنتاجها غالبًا ما يكون من شهر ديسمبر وحتى منتصف أبريل من كل عام.

 

وهذه الصناعة لم تنل حظها من التطوير والتحديث أو الدعاية والإعلان لذلك ظلت مخبوءة في الجزء المظلم من عالم الحلوى الشرقية أو الشعبية, فطريقة صناعتها هي.. هي التي وجدت منذ البداية نفس الأدوات وذات المعدات البدائية البسيطة وكذلك نفس طريقة التعبئة وحتى بائعوها لا يبيعون شيئًا سواها فكأنما كتب عليها الوحدة والتوحدة.

 

والآن أرى أن هذه الصناعة في مرحلة الانزواء وبالتالي فهي تواجه خطر الزوال والاندثار لأن عدد مرتاديها أو ممتهنيها يتضاءل شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن, كما ينظر إليها على أنها من الصناعات القديمة أو الرديئة التي لا تعطي لممتهنها أو صاحبها ميزة نسبية في الهيئة الاجتماعية  وبالتالي يهجرها  المعلمون والأسطوات حتى الصبية يتركونها ويبحثون عن شيء آخر فالجميع يراها موضة قديمة, فبائعوها أما تجدهم في قطار الصعيد بين محطتي نجع حمادي وقنا وهم يحملونها في مقاطف وعند شرائك لها تجده يضعها في كيس متواضع صنع من أوراق كتب وكراسات تلاميذ المدارس القديمة المختلفة الألوان والأشكال والأحجام وبالتالي لا سمة مميزة لها.

 

أما بائعوها في المدن فتراهم يعرضونها على عربات يد صغير وقد رصوها بطريقة بدائية ومكشوفة فتكون معرضة لهجوم الحشرات عليها وسقوط الأتربة على أسطحها ولمس الأيادي غير النظيفة لها مما ينفر منها الكثير من الناس فينظر إليها على أنها حلوى مكشوفة.

 

لكن قيمتها الغذائية عالية جدًّا فهي مصدر ممتاز للكربوهيدرات ومحتواها عالٍ من الأملاح المعدنية الهامة مثل الحديد والكالسيوم والماغنسيوم والبوتاسيوم غيرها وبالتالي فبالرغم من رخص ثمنها إلا أنها تمثل مصدرًا رائعًا وغنيًا لكثير من المغذيات والعناصر الهامة, ولن نقول عنها إنها ملوثة لأن طبيعة المواد السكرية تكون حافظة ومانعة إذا ما زاد تركيزها عن 69% فما بالك وهي مادة جافة فهي بالتأكيد آمنة، بالإضافة إلى طعمها الجميل وهشاشتها وسهولة بلعها وهضمها وسرعة امتصاصها وما تضيفه للجسم من مغذيات سريعة, فوق ذلك أسعارها في متناول الجميع فهي زهيدة الثمن بالمقارنة بحلويات أخرى كثيرة منتشرة في السوق المصري.

 

والآن ما العمل للحفاظ عليها من الزوال؟ سؤال هام يجب أن يوجه إلى علماء وباحثي معهدي بحوث المحاصيل السكرية ومعهد تكنولوجيا الأغذية التابعين لمركز البحوث الزراعية أيضًا أقسام التصنيع الغذائي بكليات الزراعة بالجامعات المصرية. فهذه الجهات عليها تطوير هذه الصناعة التي أراها تمثل رمزًا ثقافيًّا وحضاريًّا للشعب المصري. وحلوى رخيصة الثمن هامة للتغذية. ونمطًا من أنماط المشروعات الصغيرة التي تصلح للشباب الراغب في غشيان مجال المشروعات الصغرى والعمل الخاص. ومن جانبي فقد قمت بزيارة مواقع هذه الصناعة وسأضع في الفترة القادمة توصيفًا دقيقًا لها وخطوات الصناعة في وضعها الراهن التقليدي, وسوف أضع تصورًا لما يمكن أن يكون تطويرًا لهذه الصناعة لوضعها في القالب العصري. وأدعو كل المهتمين بالعمل معي في سبيل هذه الغاية.

 

كما أنني سوف أرسل دراسة للصندوق الاجتماعي للتنمية شارحًا لهم إمكانية إدراجها ضمن المشروعات الصغيرة التي يمولها الصندوق للشباب في مناطق انتشار زراعة قصب السكر, كما أنني على استعداد للتعاون مع أي جهة في مصر لتدشين مركز للتدريب على هذه الصناعة بالاستعانة ببعض من يعملون في هذا المجال وعدد من المتخصصين من مركز البحوث, هذا ما أراني أستطيع القيام به حيال تحديث وتطوير هذه الصناعة التراثية الهامة.

 

ومن هنا فأنني أدعو كافة المهتمين بهذا الشأن سواء علماء مراكز البحوث أو أساتذة الجامعات والجهات التمويلية والعاملين في الإعلام سواء المقروء أو المسموع أو المرئي إلى الاهتمام بها وإلقاء الضوء عليها, لإخراجها من كبوتها ونشرها والحفاظ عليها لما لها من أهمية غذائية وصحية وتراثية, والله من وراء القصد.

------------------

* وكيل معهد بحوث المحاصيل السكرية- مركز البحوث الزراعية