* التناحر والشجار أصبح سمة للأحاديث الجانبية

 

* غياب الأمن أصاب المجتمع بآفة "أخد حقي بدراعي"

 

* المصريين يحتاجون للحرية المقرونة بالضوابط والمعايير

 

تحقيق: الزهراء عامر

 

"الخلاف بدلاً من التآلف، التخوين أصبح اللغة السائدة عوضًا عن الثقة والانتماء، الأنانية وحب الذات بدلاً من الإيثار، الفوضى والتخريب لمحاربة الاستقرار، والاستغلال والإحراق للحصول على أكبر منفعة ممكنة، والتعصب، السلبية والفردية..." آفات وأمراض اجتماعية أصابت قيم وأخلاق الشعب المصري الأصيلة بعدما غاب القانون الداخلي الإنساني وهو "الضمير" وظهرت بعدما انتهت الروح الثورية من المجتمع، وعاد الجميع إلى سابق عهدهم قبل ثورتهم البيضاء التي استطاعت في 18 يومًا بوحدة الشعب وتماسكه هدم دولة الفساد، وتمكن المصريون من إقامة مدينتهم الفاضلة في الميادين، فالشعب الذي هب وانتفض لإسقاط الفساد من أجل رفعة الدولة، عاد من جديد يبحث عن مصالحه الشخصية والفئوية.

 

ومن المؤسف أن هناك من أساء استخدام الحرية، وقطع الخيط الرفيع بينها وبين الفوضى ليكون الحصاد النهائي بعد مرور عامين على الثورة أن أخلاق المصريين محلك سر، ولم تتغير، والتغييرات الايجابية التي طرأت على سلوكه خلال ثورة يناير تغييرات وقتية، انتهت بسقوط النظام السابق بل ظهرت آفات جديدة.

 

"الشيء وضده" كان شعار المصريين خلال العامين الماضيين حتى أصبح أسلوب حياتهم، فهم يرفضون الفوضى المرورية ويختنقون من الزحام وفي نفس الوقت يهوى البعض منهم السير عكس الاتجاه بالإضافة إلى التزاحم على المواقف العشوائية التي تحدد أماكنها وفقًا للأعداد الموجودة في الشارع علاوة على المخالفات المرورية التي يتنافس الجميع على حصدها دون اكتراث بتبعات المخالفة لأنها "على الورق" فقط كما يزعم البعض، ويلقون القمامة يوميًّا في الشوارع ويحلمون بـ"وطن نظيف"، وكذلك يرفضون ممارسات الباعة الجائلين ووجودهم في الشوارع وداخل مترو الأنفاق ويشترون منهم. بل ويسهمون بقدر كبير في تحويل أي تجمع لبعض الباعة إلى سوق كبيرة مثلما يحدث في معظم ميادين العاصمة.

 

فعندما تصبح الفوضى والسلبية هما السمة الأساسية لتصرفات رجل الشارع اليومية، بالرغم من الحاجة الماسة لـ"نقطة نظام" لتفسير هذه الظاهرة التي تجعل من معظم المصريين يريدون تغيير الواقع ومع ذلك هم أهم الأسباب لبقائه على ما هو عليه.

 

مشاهد وسلوكيات أصبحت معتادة في الشارع رغم أنها مثال صارخ لخرق القانون وتحديه بشكل علني في تجاهل واضح للقواعد التي فرضت علينا. ورغم أنها مشاهد تحمل عناوين مختلفة لكن يجمعها "اللا نظام" وغياب الرقابة الذي تستغله شريحة عريضة من المواطنين.

 

فأولى هذه المشاهد هي الاستغلال الخاطئ للحياة الثورية، حيث كثرت التظاهرات الفئوية وأعمال بلطجة وسرقات سيارات وتحطيمها، وعصيان، وإضرابات عن العمل في بعض القطاعات الهامة والحيوية للدولة، ومساعدة عناصر الثورة المضادة والبلطجية المأجورين في تنفيذ مخطط إسقاط مصر واقتصادها في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة للعمل وتكاتف أفرادها حتى تعود لها الحياة مرة أخرى.

 

التناحر والشجار

 

يأتي بعد ذلك تعاملات الناس مع بعضها البعض، فعندما تصعد إلى أي وسيلة من وسائل المواصلات تجد بعض ممن لا يستوعبون آراء الغير فتحدث مشاجرات ومشادات وتطاول يصل لحد التراشق بالألفاظ والضرب بالأيدي لمجرد فتح المجال للمناقشة والحديث عن أي موضوع سياسي دائر في المجتمع.

 

ثم بعد ذلك يأتي دور غياب الضمير الإنساني، والتنصل من المسئولية الاجتماعية وكل فرد يلقي بالمسئولية على الآخر أو على النظام السابق أو الحالي، فمثلاً مشكلة القمامة بعد حملة وطن نظيف وقيام الدولة بتوفير بعض الوسائل للقضاء على أكوام القمامة التي تمتلئ بها الشوارع، إلا أن المواطنين ساهموا بسلوكياتهم الخاطئة في زيادة هذه الأزمة.

 

"حقي بدراعي"

 

ومن أخطر الآفات التي ظهرت مؤخرًا في الشارع المصري بعد غياب الشرطة وتقاعسها عن أداء دورها في حماية المواطنين، هي أخذ الحقوق بالأيدي، فالشعب أصبح يحكم على المخطئ أو الخارج عن القانون وينفذ الحكم عليه دون الرجوع للقانون، بأبشع الطرق متمثلة في التمثيل بجثة البلطجي بعدة طرق، "كتقطيع جثمانه وحرقه وتعليقه على الشجر ليكون عبرة، أو سحله في مكان الجريمة، حيث إن هذه الظاهرة هي الأكثر بشاعة وتسمى قتل المقتول" مثلما حدث أكثر من مرة في محافظة الشرقية وكفر الشيخ، وكأن المجتمع أصبح غابة.

 

ولعل أبرز الأمراض المجتمعية التي يعاني منها المجتمع هي عدم اتباع الإرشادات العامة وتعريض المواطنين أنفسهم للخطر، فعلي سبيل المثال ركوب المواطنين بين عربات القطار وفوق الجرارات، وكذلك عبور المزلقانات بعد إغلاقها لمرور القطارات، وكذلك كسر إشارة المرور.

 

مافيا الميكروباص

 

زحام وتكدس، بلطجة وفوضى، هي الشعار الذي اتخذته أمبراطورية الميكروباص في مصر، فالسيارات تقف في منتصف الطريق لتحميل ركاب، وتقف في مطالع الكباري ومنازلها، تحدد لنفسها مسارات حسب ما يري السائق، سيطر السائقون على الكباري واتخذوها "مواقف" لهم، وضعوا أيديهم على المناطق المجاورة لمحطات المترو وأمامها وحولوها لمواقف عشوائية، يتعاملون مع الركاب باستخفاف شديد، ويضاعفون الأجرة ويقسمون المسافات، تحولوا إلى أمبراطورية من البلطجة والإجرام، ولم ينجح رجال المرور في إلزامها بالانضباط.

 

الباعة الجائلون

 

المشهد الآخر هو فوضى انتشار الباعة الجائلين واحتلالهم الأرصفة يمينًا ويسارًا واختيارهم الميادين والشوارع العامة أماكن ليفترشوها، ضاربين بعرض الحائط قواعد الأمن والنظام وكأن الأرصفة أصبحت محلات مرخصة على مرأى ومسمع رجال المرافق الذين أصبحوا مشاهدين فقط لا يملكون أي سلطة في إقصائهم عن الأرصفة فقد وصل الأمر إلى قيام بعض البلطجية بتأجير الأرصفة والميادين علي حسب أهوائهم ويتقاضون عنها إيجارًا يوميًّا لهذا أصبح البلطجية يرفعون شعار "فوضى مقننة".

 

هذه الظاهرة أصبحت مشكلة تؤرق المجتمع المصري بأكمله وتهدد استقرار الأمن مما أدى إلى حدوث تكدسات مرورية في معظم الميادين الهامة والشوارع الرئيسية.

 

واختفت الصورة التي كانت موجودة قبل الثورة فوجود رجال الشرطة خاصة شرطة المرافق في الماضي كانوا يفرون هربًا عندما يشاهدون ضابط الشرطة والآن أصبحوا جنبًا إلى جنب وأصبح الضابط هو الذي يهرب خوفًا من بطش البلطجية مما أدى إلى عدم السيطرة على هؤلاء الباعة سواء في تصرفاتهم مع الزبائن من خلافات تصل إلى الضرب والاعتداء عليهم أو أصحاب المحلات الذين سمحوا لهم بافتراش بضاعتهم أمامهم.

 

ثورة السلوكيات

 

ألقى الخبراء بمسئولية عدم حدوث تغيير جذري في سلوكيات المصريين وعودة بعضهم لممارسة السلوكيات السلبية يمارسها التي كان قبل الثورة على الدولة التي ساهمت باستمرار البيئة الخصبة لانتشار الفساد، بسبب التفاوت الرهيب في الأجور والارتفاع الجنوني في الأسعار، وعدم توفير مشروع قومي يلتف حوله المصريون يسهم في القضاء على شبح البطالة، مؤكدين أن تحقيق العدالة الاجتماعية أحد أهم وأبرز مطالب ثورة يناير يعيد للمصريين أخلاقهم الحقيقية وسلوكياتهم الايجابية

 

ومن جانبه يوضح الدكتور عماد مخيمر أستاذ علم النفس بجامعة الزقازيق أنه إذا كانت هناك ثورة حدثت بالفعل وأسقطت النظام السابق، إلا أن المصريين لم يقوموا بثورة على سلوكهم السلبي والقيم السلبية، مبينًا أن هناك نوعين من القانون يحكمون الفرد وهو القانون الداخلي "الضمير"، وقانون خارجي وهو قوانين الدولة التي تحكم من بدون ضمير، وهناك بعض الأشخاص لديهم استعداد كبير للفوضى والانحراف.

 

ويرى أن الأنظمة الحاكمة عقب الثورات تستخدم أسلوب التعامل باللين مع الشعب، وأحيانًا الشعب المصري يحتاج إلى استخدام أسلوب الشدة عندما تغيب قواعد ومعايير التي تحكم المجتمع، موضحًا أن هناك أشخاصًا لديهم انتهازية وطمع عندما رأوا اهتمام الدولة بأكثر من نشاط في وقت واحد.

 

ويرى أنه لعلاج هذه الآفات والأمراض الاجتماعية، لا بد تدعيم وترسيخ قيمة الانتماء للوطن والمحافظة عليه، بجانب أن تكون قبضته القانون قوية وتطبق على الجميع ولا تفرق بين فرد وآخر، ولا بد أن ينصاع الكل للقانون، منتقدًا الظاهرة الخطيرة التي طرأت على المجتمع في ظل غياب الأمن وهي أخذ الحقوق باليد وفقًا للقانون الغابة.

 

ويلفت د. مخيمر إلى أن الجوهر الحقيقي لمعنى الحرية هو تحمل المسئولية، مؤكدًا أن الشعب المصري يحتاج للحرية المقترنة بالضوابط والمتابعة من الدولة للقضاء على ظواهر الفوضى والإهمال وعدم تحمل المسئولية.

 

ويؤكد أنه بالرغم من وجود سلبيات وأمراض مجتمعية، إلا أن غالبية الشعب المصري واعية، وهذه الظواهر غير محكومة ومؤقتة، وستزول بعدما يستقر المجتمع وتقوى الدولة وتعطي الجميع حقوقهم.