1- عبقرية شعب!


توشك الكلمة السحرية التي كشفت عنها ثورة 25 يناير أن تقول أن الشعب المصري شعب عبقري، بمحددات الجينات الوراثية المتآلفة المنسربة في الدم المصري جميعًا على ما أكدته البحوث العلمية، وبمحددات ما تراكم في شخصيته من عناصر الحضارة الممتدة خلال التاريخ الطويل وبمحددات الجغرافيا المنبسطة، وبمحددات الارتباط الدائم بالسماء في النسخ المختلفة للوحي الذي اختتم بالقرآن الكريم بكل آفاقه الرحبة المتسامحة الجليلة.


ولم تكن عبقرية المكان هي المحدد الوحيد في التحليل المتأني لما صكَّه جمال حمدان عنوانًا على كتابه الأشهر: شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان؛ ذلك أن عبقرية الشعب عن هذه العبقرية التي صبغت الجغرافيا، واستثمرتها واستلهمتها.


بدت عبقرية الشعب في عدد وافر من الملامح والمظاهر التي أسقطت واحدًا من أكثر الأنظمة الحاكمة استبدادًا وظلمًا وفسادًا واستهانةً بمحددات عبقرية الشعب وتبدت ملامح هذه العبقرية فيما يلي:


أولاً: تنامي الفعل الثوري الذي بدا هبة ثم توسع ليكون انتفاضة ليستقر في نهاية المطاف ثورة تغير، وهذا التنامي ليستقر في نهاية المطاف ثورة  تغير، وهذا التنامي للفعل الثوري هو استجابة واعية من شعب ذكي لعلامات النجاح التي كانت تظهر ساعة بعد ساعة على أرض الوراقع في ميادين مصر المختلفة.


ثانيًا: إعادة إحياء كل ما من شأنه دعم الثورة؛ فقد استلهم الثوار أسماء الميادين كما في التحرير، واستثمروا التخطيط لتوسيع دائرة المد الثوري واستدعاء الأغنية لإلهاب المشاعر ودعم نفسية الجماهير.


ثالثًا: استفزاز الخبرات المتراكمة، لقد كانت ثورة 25 يناير امتدادًا ناضجًا إلى حد كبير لعدد متتابع من الثورات والانتفاضات.


رابعًا: الاستجابة لمرونة الأفكار، وتحطم أصنام الاختلافات.


خامسًا: استثمار المشترك الثقافي المبهر في تناغم العناصر الإنسانية؛ مما أنتج الانسجام بين أبناء الشعب على اختلاف الدين بدعم المشترك الديني وعلى اختلاف الانتماء الطبقي باستثمار فكرة المساواة الأصلية وعلى اختلاف المستوى التعليمي باستدعاء العناصر الثقافية الحضارية الحكيمة التي صبغت الشخصية المصرية.


2- ماذا يتبقى من ثورة 25 يناير؟


هذا سؤال أرجو ألا يبدو صادمًا؛ لأن الناس دأبت على طرحه في سياق تقادم حادثة من الحادثات، ولكننا هنا نبحث عندما نطرحه عن النقاط الإيجابية التي ينبغي استبقاؤها والحرص على تنميتها وهي مركزة فيما يلي:


أولاً: استبقاء مصادر القور الكامنة للثورة في النفس المصرية؛ فلقد كشف التحليل لثورة 25 يناير عن مصادر للقوة الكامنة غذت استمرارها وزودتها بوقود يحافظ على شعلتها من مثل:


أ‌- المحددات الدينية؛ ذلك أن الإسلام في عدد كبير من طقوسه يدعم قضية مواجهة الاستبداد ويدعم المطالبة بالحقوق، وهي محددات سكنت النصوص الإسلامية، وسكنت الفصل التاريخي الإسلامي في عصر النبوةو الخلافة الراشدة؛ حتى طالت الشهادة من دوافع دون ماله وعرضه  ثورة 25 يناير في واحد من أشكال تكييفها مواجهة نبيلة في وجه لصوص وماجنين باسم الحكم.


ب- المحددات الثقافية، وذلك أن الثقافة المصرية بروافدها المتنوعة والمتراكمة كشفت عن رصيد هائل يغذي ثقة الشخصية  المصرية في نفسها ووعيها بموقعها في حركة التاريخ وموقعها من محيطها الإقليمي والعالمي.


وهذا الوعي هو أحد الروافد التي دعمت حركة الجماهير ضد النظام السابق، رغم كل محاولات امتصاص انتفاضته، وطورها حتى استقرت ثورة عظيمة جليلة ألهمت شعوب العالم.


ثانيًا: استبقاء وحدة عناصر الأمة المصرية: لقد كشفت فعاليات ثورة 25 يناير عن تناغم عجيب وانسجام شعبي فريد وتبدت علاماته العبقرية في الملامح التالية:


أ- تجاوز الاختلاف في الدين اتسع الميدان للصلاة والقداس.


ب‌- التعاون في ظل الاختلاف حماية المصلين من قبل المسيحيين وتوقف الفعاليات تهيئة للطقوس المسيحية.


ج- الاستيعاب الاقتصادي تبادل الطعام والأغطية.


ثالثًا: ترجمة الفعل الحضاري المتراكم في الشخصية المصرية:


لم يكن عبثًا الفزع إلى حصن التراكم الحضاري المنسرب في النفس المصرية عند الأزمات  كشف هذا الإلحاخ على هذه النقطة المعرفية أن شيئًا مهمًّا وخطيرًا كشفت عنه ثورة 25 يناير، وهو استقرار البعد الصانع الحضاري في الشخصية المصرية، حتى غدا هذا البعد جناحًا من أجنحة الهوية المصرية، وهو ما تبدَّى في العلامات التالية:


أ-الترقي الأخلاقي الذي ظهر في النماذج الضيقة المستثمرة والمستدعاة والشعارات الثورية التي لم تظهر انحرافًا أخلاقيًّا والذي ظهر في احترام مبهر للجسد الأنثوي وحياطته بما لا يخدش حياء الأنثى في أصعب مواقف التزاحم.


ب- الحفاظ علي نظافة الميدان وتخليته من كل ما يتخلف عن استعمالات الثوار الطبيعية اليومية.


ج- إرادة الحياة والاستجابة لمطالب الوضع الجديد؛ ذلك أن الثوار في سعيهم لإرادة الحياة تعاملة مع الميدان  بما هو مقر حياة جديدة ربما طالت مدة الإقامة فظهرت الابتكارات المختلفة تلبية لحاجات الميدان من مثل: إقامة دورات مياة ميدانية بجهود ذاتية وأدوات متاحة، وإقامة مستشفيات ميدانية، واستعمال أدوات للدفاع عن النفس من بيئة الميدان.


3- بعد عامين هل من منجز؟


 لقد كشف تنافي الفعل الثوري مع كل محاولات الإعاقة التي يصنعها أبطال الثورة المضادة من بقايا النظام السابق الممتدة في أنحاء البلاد؛ فحقق على أرض الواقع مكاسب جبارة يأتي قي مقدمتها:


أولاً: استعادة المصريين لوطنهم حقيقة؛ بحيث بدا أن جميع المصريين يتعاونون اليوم على خدمة مصر والارتقاء بها. لقد تجاورت التيارات الوطنية الإسلامية والليبرالية واليسارية والعلمانية لتحمي الوطن.


ثانيًا: وجود رئيس دولة منتخب وغير متغلب ينتمي إلى ثقافتها الأصلية وناتج تكوين طبيعي شعبي، وخارج من رحم الثورة وممتلئ باستحقاقاتها.


ثالثًا: السعي نحو دستور من أعظم دساتير مصر في حدود المسودة النهائية المقترحة تضمنت حقوقًا وحريات فريدة ومعبرة عن وضعية حضضارية، وترعى مطالب الثورة في الحرية والعيش والكرامة والعدالة الاجتماعية.


رابعًا: إعادة افتتاح الطريق الذي طمرته ممارسات النظام السابق، نحو استعادة مصر لمكانتها الإقليمية في المحيطين العربي والإفريقي، ولعل رعاية تفاهمات الهدنة بين المقاومة الإسلامية في غزة والكيان الصهيوني أكبر دليل على ذلك حتي اضطر أشد المناوئين للرئاسة المصرية إلى أن يعترف بأن ما حدث يعد فتحًا للدولة المصرية.


خامسًا: اكتشاف  مصر لهويتها الإسلامية والعربية والإفريقية وترجمتها سياسيًّا بإعادة القوة للخريطة العربية بالتقارب المصري/ التركي /السعودي.


4- مسارات المستقبل بعد عامين من ثورة 25 يناير:


إن تأمل الوضع بعد عامين من ثورة 25 يناير يحمل على الإعلان عما ينبغي السير فيه من المسارات المتممة لنجاحات الثورة، وأعتقد أن ثمة مسارات مهمة جدًّا يلزم سلوكها وهي:


أولاً: استكمال مسيرة استقلال القرار الوطني.


ثانيًا: توسيع دائة الديمقراطية وترسيخ ممارساتها.


ثالثًا: السعي الجاد في تطهير مصر من الفساد والبيروقراطية.


رابعًا: الدعم الجاد لمحددات وحدة الأمة ومحاصرة عناصر تهديد السلام الاجتماعي وتهديد الوحدة الوطنية بشكل علمي وقانوني.


خامسًا: الإسراع في عمليات العدالة الاجتماعية على المستويات المختلفة.


سادسًا: عدم المساس تحت أي ظرف بالحريات الخاصة والعامة.


إن مصر وهي تفتح السنة الثالثة بعد ثورة 25 يناير مدعومة إلى استدعاء روح الميدان الإنسانية والحضارية والمستثمرة للمشترك الثقافي والأخلاقي والقيمي لكي تستعيد مكانتها وتحقق التنمية.


إن اليقين جارف يعمر القلب في أن الذي هيأ الأجواء لهذه الثورة العظيمة قادر على أن يلهم هؤلاء المصريين العظام أن يتجاوزوا محنة اللحظة الراهنة منطلقين نحو مصر التي مثلت علي امتداد التاريخ الحلم الأبيض الملهم للحضارة الإنسانية.


-------
كلية الآداب- جامعة المنوفية.