كيف مرَّ قرارُ الحكومة الصهيونية بالسماح للصهيونيين- وغيرِ المسلمين- بزيارة وتدنيس المسجد الأقصى المبارك، وهو الإجراء الذي توقَّف منذ بدء انتفاضة الأقصى المباركة، دون أيّ مقاومة عربية وإسلامية له، أو أيّ مظهر من مظاهر الاحتجاج عليه، وتفعيل التصدّي له، كأن الأمر لا يعنينا، أو كأنه يخص مقدسات قوم من كوكب آخر؟! فالذي حدث أنه تحت ستار الحديث عن ما يُسمَّى بـ"خريطة الطريق"، وغبار الجدل حول قضايا اللاجئين والحوار الفلسطيني- الصهيوني .. إلخ عمَدت حكومة الإرهابي "شارون" إلى العَبَث مُجدّدًا في أكثر البقاع حساسيةً لدى المسلمين؛ بسماحها رسميًا لليهود والأجانب بالصلاة داخل الحرم القدسي الشريف الذي تُصر القوى الصهيونية على تسميته بـ"جبل الهيكل‏"، في إشارة ذات مغزى، لا سيما في الحركة والتوقيت.

إذ لا يخفى أن المجرم "شارون" قد مهد لعهده الإجرامي بتدنيس ساحات الأقصى في 28 سبتمبر عام 2000م؛ مما ألهب المشاعر فانتفض الشعب الفلسطيني البطل منذ ذلك التاريخ في مواجهة هذا الانتهاك الصارخ، وكانت انتفاضة الأقصى المباركة والمقاومة الباسلة التي هزَّت نظرية الأمن الصهيوني وهزمت خطة "شارون" لسحق الفلسطينيين، وها هو اليوم يحاول أن يكمل ما قد بدأه بالأمس، ظنًا منه أن الأمة العربية والإسلامية قد ماتت فيها النخوة، وسُلبت منها الإرادة، وانكسرت فيها العزيمة، ومن ثَمَّ فسوف تسلم له بتلك الخطوة البائسة، أو أنه أراد أن يرسل رسالة مفادها أنه قد انتصر في معركته لإذلال المسلمين من خلال تدنيس مقدساتهم، سواء من خلال أقدامه الخسيسة أو أقدام غيره من الخسيسين.

والواقع أننا ينبغي أن ننظر إلى ما حدث على أنه حلقة في سلسلة منتظمة ومجموعة من الإجراءات اليهودية التي تهدف في النهاية إلى ابتلاع المسجد الأقصى المبارك، توطئةً لإرساء ما يعتبره اليهود حجر الأساس لهيكلهم المزعوم، وطبعًا فلن يتمَّ إكمال هذا المشروع الخبيث إلاَّ بهدم المسجد كما يخطِّطون ويأملون.

وتؤدي القُوى الدينية في الكيان الصهيوني دورًا محوريًا في المخطط الخبيث، وهي ترى أن هناك مشكلةً، وأنَّ حلها ضرورة الضغط على الحكومة الصهيونية لتطبيق سيادتها على الحرم القدسي الشريف، والسماح بصلاة اليهود داخله‏ فورًا،‏ وذلك لمواجهة حالة الضعف التي تتعامل بها تلك الحكومة تجاه الحكم الذاتي الإسلامي في الحرم.‏

طمع .. وحقد:
وفي تحليل الأسباب التي تدعو اليهود لهذا الاهتمام بهدم الأقصى وإقامة الهيكل يرى الدكتور "أحمد صدقي الدجَّاني" أن الحرم القدسي الشريف والمقدسات المسيحية والإسلامية في القدس القديمة هي موضوع المعركة الراهنة في الصراع العربي الصهيوني الممتدّ, مشيرًا إلى أن هدف التحالف الصهيوني الأمريكي الرئيسي في هذه المعركة هو اغتصاب الحرم القدسي الشريف، وفرض السيادة "الإسرائيلية" عليه، وأن هناك ثلاثة أسباب حقيقية وراء هذا التركيز على اغتصاب الحرم.

ويضيف أن السبب الأول اقتصاديٌّ، فالعدو الصهيوني- بمحاولة فرض سيادته على الحرم القدسي وعلى القدس القديمة داخل السور بمساجدها وكنائسها- يريد أن يتحكَّم ويسيطر على الحَجّ المسيحي إليها، وعلى زيارة المسلمين إليها لتقديس حجّهم, وهذا يعني ثروة طائلة مالية تأتي من أتباع الدين المسيحي والدين الإسلامي، فضلاً عن السياحة العالمية.

السبب الثاني سياسيٌّ، وحسبما يؤكد "الدجَّاني" فإنه يتمثَّل في جعْل القدس القديمة - بمكانها المتميز وتاريخها الممتد- العاصمة "الأبدية" التي يُتحكَّم منها في عواصم دول المنطقة جميعها.

 والسبب الثالث تاريخيٌّ متصل بالصراع الحضاري، فاغتصاب الحرم القدسي والسيادة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في بيت المقدس يرمز الى انتصار الغرب الحضاري على الحضارة العربية الإسلامية، ويلبّي- عند قوى الهيمنة الغربية- "عقدة حقد تاريخي" يحملونها في نفوسهم على هذه الحضارة، منذ هَزمت قبل ثمانية قرون الغزو الفرنجي، كما يلبّي لديهم هدفًا معاصرًا، وهو إيقاف مدّ الصحوة الحضارية العربية الإسلامية التي أقلقتهم في العِقدين الماضيَين، ودعت أمين عام حلف الأطلسي أن يصرِّح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- في مطلع التسعينيات- بأن حضارة الإسلام هي العدوّ الذي يهدد الهيمنة الغربية، وهو ما يذكّرنا بكَيْف عبّر "اللبني" البريطاني و"جورو" الفرنسي عن عقدة الحق التاريخي تلك، حين دخل الأول القدس، ودخل الآخر دمشق.

برنامج للمقاومة:
والأمر هكذا فإن على الشعوب العربية والإسلامية أن تبادر إلى التعبير عن غضبها وسخطها من القرار الصهيوني ورفضه، وإدانة القوى الدولية، خاصةً أمريكا التي تقف إلى جانب العدو، والضغط على الحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ موقف حاسم وفوريٍّ ضد حكومة "شارون" الإرهابية وقراراتها الجائرة، مع التدخُّل الفوري والقيام بكل التحرُّكات والجهود والضغوط على المستوى الإقليمي والدولي؛ من أجل منْع هذه الخطوة.

وكذلك على الدول العربية والإسلامية المبادرة إلى اتخاذ الإجراءات الفورية لإدانة هذه القرارات من المجتمع الدولي، وإعلان مقاطعة الكيان الصهيوني مقاطعةً شاملةً على مختلف المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية… إلخ، مع سرعة اتخاذ قرار سياسيّ بدعم برنامج المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني، وتفعيل برامج دعم وإسناد الشعب الفلسطيني المحاصَر، وعلى السلطة الفلسطينية أن تتحمَّل مسؤولياتِها تجاه المسْجد الأقصى المبارَك قبلةِ المسلمين الأولى.

وأخيرًا... لا بد من توخِّي أقصى درجات الحذَر من خطورة السماح لليهود بدخول الحرم بدعوى الصلاة، فهناك متطرفون مسيحيّون يعتقدون أن الخلاص مرتبط بتدين اليهود العلمانيين وببناء الهيكل اليهودي‏،‏ مثل أعضاء طائفة (القلقون) الأمريكية الذين يؤمنون بأن الانتحار فوق جبل الهيكل في الحرم الشريف وتفجيره سيؤدي لمَولد "يسوع المسيح" من جديد‏؛‏ لذلك فإنه‏ من الضروري فضْح الممارسات الإجرامية الاستفزازية للمتطرّفين اليهود الذين تحتمي خلفهم الحكومات الصهيونية المتعاقبة‏،‏ من خلال جهد إعلامي راقٍ، يخاطب الأذن الغربية بالحقائق والأدلة‏،‏ وكذلك مخاطبة الدول المسيحية عن طريق رجال الدين المسيحي الفلسطينيين؛ ليشرحوا للرأي العام ما تتعرض له الأماكن المقدسة المسيحية أيضًا من اضطهاد ومضايقات‏،‏ مع إبراز التأييد الوطني والموقف المشرف المتضامن لهم مع أشقائهم المسلمين‏.‏

إن الوضع القانوني والتاريخي للقدس ومسجدها معروف، ولا تستطيع الشرعية الدولية أن تتجاوزه، ومكانتها الدينية في القلب دائمًا، فهي أولى القبلتين؛ لذا فقد جاء دور الأمة لتهُبّ- بكل مستوياتها الرسمية والشعبية- من أجل الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك بكل الوسائل الممكنة، وأن تتحرَّك لتنفيذ كل ما يمكن من أنشطة وبرامج جماهيرية وإعلامية وحشد للقوى، والتحرُّك على جميع المستويات الشعبية والرسمية للدفع بكل الجهود؛ من أجل دعم أهلنا في فلسطين المحتلة في صمودهم ضدَّ العدو الصهيوني، وبذل كل التأييد المادي والمعنوي لهم في وجه العدوان الغادر، وتثبيتهم في مواجهاتهم ضد هذا العدو؛ دفاعًا عن المسجد الأقصى المبارك.