لمع في صفحة الحياة كما يلمع الشهاب في صفحة السماء، غير أن بينه وبين الشهاب بونًا شاسعًا ومفارقة عجيبة، لا يلبث الشهاب أن يبرق حتى ينطفئ، ولا يظهر حتى يختفي ويتبدد ضوؤه في الفضاء الرحيب، ولا يخلف وراءه إلا بقية من رماد، أو كتلة صماء من حجر النيزك، يلقيها إلى الأرض فتقع كجثة هامدة لا حراك لها ولا أثر فيها للحياة، أما حسن البنا وإن لم يزد إشراقه على هذه الحياة عن واحد وأربعين سنة وثلاثة أشهر ميلادية فإنه ترك أثرًا لا تمحوه الليالي، ولا يبلى على كر الدهور؛ ذلك أنه لم يخلف حجرًا أصم، ولا رمادًا تذروه الرياح، ولكنه أوقد شعلة لا تنطفئ، وبعث روحًا جديدة تسري في جسد هذه الأمة فتحييه بالقرآن، واستنبت شجرة عظيمة ارتوت من ينابيع الهداية الربانية والسنة المحمدية، ودماء الشهادة الذكية، حتى أضحت جذورها أعمق من قاع المحيط، وأرسخ من جذور الجبال الشم، وامتدت فروعها باسقة في عنان السماء، وألقت بظلالها الوارفة على أرجاء الأرض، وأثمرت ثمارًا يانعةً تسر الناظرين، وكانت مع الناس كلما رموها بالحجر ردت عليهم بحلو الثمر، وستبقى بإذن الله ما بقي الزمان " تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا " (إبراهيم: 25). لقد تدفق نهر الخير وهيهات هيهات أن توقفه أو تغير مساره أكوام من التبن أو أطنان من القش هنا أوهناك "الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" (الرعد: 17).      

                       

لم يفعل حسن البنا شيئًا غير أنه وصل القرن الرابع عشر للهجرة بقرنها الأول، وحشد الملايين خلف محمد بن عبد اللاه، يقتفون أثره ويهتفون بزعامته ويبشرون بدعوته، وأزاح الركام عن كنوز الإسلام، وقدمه للناس نظامًا شاملاً "يتناول مظاهر الحياة جميعًا" كما نادي به رسول الله على جبل الصفا، ودعا إليه في وديان مكة، وهتف به في طرقات الطائف، وطبقه في جنبات المدينة المنورة، وسارت به رسله إلى كسرى وقيصر: عقيدةً وشريعة، وريادةً وعبادةً، وقرآنًا وسنةً، وعقلاً وعاطفةً، وحقًا تحرسه زمنًا طويلاً، وأفهمهم الإسلام طقوسًا وشعائر، وعزلة عن الحياة، وبعدًا عن مباهجها الحلال، وميادينها الفاعلة. أعاد حسن البنا إلى المسلمين الذاكرة المفقودة، وأشعل في قلوبهم مراجل الشوق والحنين إلى أمجاد الأجداد، وأوقد في نفوسهم جذوة الأمل بعد أن كاد اليأس يحيلها إلى كومة من الرماد، وعلم الشباب عشق الجهاد، وحب الاستشهاد، ووجههم إلى الميدان الصحيح: في مواجهة المحتل الغاصب على ضفاف القناة الأبية، وفي ربوع فلسطين الحبيبة السليبة، وعلمهم أن دم المسلم حرام كحرمة الكعبة المشرفة، وأن دماء المسلمين متكافئة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، وغرس في سويداء قلوبهم أن حب الأوطان من الإيمان، وأن المؤمنين إخوة مهما توزعتهم الأقطار، وفرقتهم الأمصار، وتناءت بهم الديار، وأحيا في الناس إحساسهم بالأخوة الإنسانية العامة" كلكم لآدم وآدم من تراب"، وأنزل الدنيا من عرشها الذي تربعت عليه طويلاً في حنايا القلوب؛ فأخذ الشباب يهتف خلفه" الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والجهاد عدتنا، والموت في سبيل الله أسمي أمانينا".

 

عاش حسن البنا للناس ولم يعش لنفسه؛ فبقي حيًّا في قلوبهم، حاضرًا في عقولهم، ماثلاً في ضمائرهم، محفورًا في ذاكرتهم، بعد أن غيبته يد الظلم غيلة في ظلام الليل البهيم، أبى حسن البنا أن يرحل عن دنيا الناس قبل أن يغرس حبه في شغاف قلوب المخالطين له عن قرب، المعايشين له عن كثب، بل في قلوب الأجيال التي عرفت حسن البنا سيرة تروى، ثم أينع هذا الغراس وأزهر وأثمر إذ ارتوى بدمائه الذكية، وتشعبت جذوره وتشبثت بالقلوب حتى استحالت على المحو، واستعصت على الإزالة، وورثتها أجيال في إثر أجيال.

 

إنني لم أسعد بلقاء الإمام الشهيد؛ فقد انسلخ عقدان بين استشهاده ومولدي، فكيف أكتب عنه على هذا النحو؟!!!!. لا عجب؛ فقد رأيت بعض تلاميذه، وعايشت بعض تلاميذ تلاميذه؛ فرأيت من أخلاقهم قبسات من أخلاق النبوة، رأيت فيهم طهارة النفس، وعفة اللسان، ونبل المقاصد، والشجاعة في الحق، والإنصاف من النفس، والترفع عن الدنايا، والتورع عن الشبهات، والخوف من الله، والشفقة على عباد الله: طائعهم وعاصيهم، قاصيهم ودانيهم، رأيت فيهم إيثار الأنصار وعفة المهاجرين، وإيثار الفضل على العدل والتراضي على التقاضي، وإيثار العمل على الكلام والإقبال عند الفزع، رأيت فيهم "العقل الذكي، والقلب التقي، والوجدان النقي، والخلق الرضي، والعزم الفتي، والرأس العلي، والأنف الحمي، والحماس القوي"، والموقف الأبي، والفقه العمري، والكرم الحاتمي، رأيت شبابًا يتسابق إلى الجنة وكهولة يلهث خلفها الشباب، رأيت قوةً في غير ضعف، ولينًا في غير عنف، ونبلاً في غير تكلف، وتواضعًا في غير مهانة، وعزة لا يخالطها بطر ولا كبر، ووفاءً لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحيةً بالنفس والنفيس لا يحول بينها طمع ولا بخل، وعطاءً بلا حدود لا يتبعه منٌ ولا أذى، رأيت العلم في ثياب التقوى، وحضور الآخرة دائمًا في صخب الحياة وضجيجها.

 

نقيب المعلمين بسوهاج