لما حصل الشاب حسن البنا، مؤسس الجماعة، على دبلوم دار العلوم العليا سنة 1927م، وكان أول دفعته، عين معلمًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية، ولما استقر به المقام بالإسماعيلية أثر في نفسه ما رآه من الاستعمار العسكري المتمثل في المعسكرات الإنجليزية بالقناة، والاستعمار الاقتصادي المتمثل في شركة قناة السويس.

ثم ساءه أن يعرف أن المسلمين في البلد منقسمين شيعًا وأحزابًا؛ نتيجة تعصب كل فريق لرأيه، فاعتزل جمهور المساجد، ولجأ إلى جماهير المقاهي، فصار يجمّع ولا يفرّق، ويبشر ولا يعسر، فانجذب الناس إليه وأعطوه مسامعهم وقلوبهم.. فما زال كذلك حتى كان يوم إعلان تلك الدعوة المباركة في 22 من مارس 1928م، إذ زار الإمام الشهيد في ذلك اليوم ستة من إخوانه هم: حافظ عبد الحميد، أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، وزكي المغربي، وهم ممن تأثروا بدروسه ومحاضراته، وقد جلسوا يتحدثون إليه وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا: ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين؟! ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا، وكل الذي نريده أن نقول لك ما نملك؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله وتكون أنت المسئول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل.

كان لهذا القول المخلص أثره البالغ في نفس الأستاذ البنا، ولم يستطع أن يتنصل من هذه التبعة، وقال في تأثر عميق: "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضى الله وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن وعزة الأمة".. وكانت بيعة، وكان قسمًا: أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام، ونجاهد في سبيله..

وقال قائلهم: بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية، أو ناديًا، أو طريقة، أو نقابة؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟ فرد الأستاذ البنا قائلاً: لا هذا ولا ذاك، دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه: الفكرة والمعنويات والعمليات، ونحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذًا "الإخوان المسلمون" وجاءت بغتة.. وذهبت مثلاً.. وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة وبهذه التسمية.

ولبث الأستاذ البنا يعمل لدعوته صامتًا، فكسبت دعوته- كل يوم- مزيدًا من الأنصار والجنود، بفضل إخلاصه العميق، وفهمه الدقيق للفكرة، وأهدافها.
ولاقت دعوته نجاحًا كبيرًا أغراه على مواصلة الكفاح، ودفعه الإيمان بالفكرة والحماسة لها إلى مضاعفة الجهد في سبيل نشرها، وإلى توسيع نطاق البيئة التي يعمل فيها، فلم يترك قرية، ولا بلدة، ولا كفرًا إلا زاره، واجتمع بالناس فيها، في مساجدهم، وفي بيوتهم.. وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية، وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية يزور البلاد البعيدة. وهكذا استمر الأستاذ البنا في نشر دعوته في كل مكان يصل إليه في أسفاره البعيدة أو القريبة.

وقد أثمرت أسفاره بعد سنتين شعبة في كل من "أبو صوير" و"بورسعيد" و"البلاح"، وبعد ثلاث سنوات شعبة أخرى في السويس، وبعد أربع سنوات نحوًا من عشرة فروع.
ثم انتقلت الفكرة إلى القاهرة بعد تأسيسها في الإسماعيلية بنحو خمس سنوات، إثر نقل مؤسسها إلى العاصمة عام 1933م، وقد دخلت الدعوة مرحلة جديدة، إذ لاقت نجاحًا أكثر مما لاقته في الإسماعيلية، فقد انتشرت فيما يزيد على خمسين بلدًا من بلدان القطر المصري، وقد قامت في كل بلد من هذه البلدان تقريبًا بمشروع نافع أو مؤسسة مفيدة.. ولم تأت الحرب العالمية الثانية إلا وقد سادت فكرة الإسلام كنظام حياة بديل للفلسفات الغربية والنعرات القومية.. لقد انتشرت هذه الأفكار بين المتعلمين من الشباب، وسرعان ما سرت في العامة في المدن والأقاليم، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية وقد غزت الدعوة قطاعات المجتمع جميعها، فأقامت المستوصفات ودور العلاج، وأسست المتاجر والمنشآت، وكان لها دورها الذي لا يُستهان به في محو الأمية ومعالجة المرضى وكفالة الفقراء.

وفي هذه الفترة اقتحم الإخوان الميدان السياسي، فبدأ الأستاذ البنا في إلقاء أحاديث دينية واجتماعية بالإذاعة والأندية، وفي إرسال رسائل إلى رؤساء الوزارات المصرية المتعاقبة، كان محور هذه الرسائل: الدعوة إلى الإصلاح الداخلي على أساس النظام الإسلامي، وكان بها إشادة بذلك النظام الإلهي الكفيل باستنقاذ العالم مما هو فيه من جهل ومرض وتخلف.
باختصار.. صارت الدعوة وصاحبها خطرًا على المستعمر، والأحزاب، وأنظمة الحكم.. فكان منطقيًّا أن تتألب هذه القوى على الإخوان، وأن تكيد لهم، وأن تصطنع معهم حروبًا، كل على شاكلته.. فلم يتركوا اتهامًا إلا ألصقوه بالجماعة، ولم يتركوا مجالاً دخل فيه الإخوان إلا ضيقوه عليهم.. لقد اتهموهم بالعمالة، وبالحزبية، وبالسعي إلى الحكم، وبالإرهاب، وبالعمل بالسياسة!!.. وهي تهم- كما نرى- متناقضة!!.