رسالة من الإخوان المسلمين


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.


نبدأ بتهنئة المصريين جميعًا بذكرى النصر العظيم الذي حققه– بفضل الله– جيش الشعب، وكان الشعب له داعمًا ونصيرًا.


تُنشئ الدول جيوشها لتحمي نفسها وحدودها من أي عدوان خارجي، وتقدم المجتمعات زهرة شبابها ونفيس أموالها وإنتاج مصانعها لتكوين جيش وطني قوي يوفر لها الأمان، ويرهب الراغبين في العدوان.


ولما كان هذا العصر يؤمن بالتخصص– بل بالتخصص الدقيق– في كل مجال، فالأطباء يمارسون علاج المرضى بل إن هناك عشرات التخصصات في هذا المجال، والمهندسون يباشرون الهندسة والإعمار وكذلك هناك عشرات التخصصات في إطار الأعمال الهندسية، وقس على هذا كل المهن والحرف والتخصصات، ولو عمل الأطباء بالهندسة والمهندسون بالطب لفسدت البلاد وخربت المجتمعات.


فإن التخصص العسكري ليس استثناء من هذه القاعدة فكلما تفرغ العسكريون لمهتمهم وتعمقوا في تخصصاتهم، وبالغوا في تدريباتهم واستيعابهم لأسلحتهم ومعداتهم؛ كلما قوي الجيش وأصبحت حدود الدولة حراما على الأعداء، وأمنت المجتمعات، والعكس صحيح.


ولقد مر الجيش المصري بعدة أطوار أثبتت على أرض الواقع صدق هذه الحقيقة، فبعد ثورة 1952 التي قام بها الجيش، وجعل من أهم مبادئها وأهدافها "إنشاء جيش وطني قوي" تمت عسكرة الدولة، فمعظم الوزراء والمحافظين ضباط ورؤساء معظم المؤسسات ضباط، وانصرف عدد كبير منهم إلى السياسة وإدارة الدولة المدنية، وتم تعيين القائد العام للجيش من ضباط الثورة بعد ترقيته من رتبة رائد إلى رتبة لواء ثم إلى مشير دون أي دراسة أو تأهيل، واختار هو أتباعه لرئاسة الأسلحة والأفرع وتصرف في الجيش كما لو كان ضيعة يملكها أو مؤسسة ورثها، وانغمس هو في السياسة، فرأس لجنة تصفية الإقطاع، وطارد المعارضين السياسيين، وانغمسوا جميعا في الشهوات مع الفنانين والفنانات، وانشغل بعضهم برئاسة الأندية الرياضية والمنافسات بينها، وحين جد الجد، وهدد الصهاينة حدودنا في سنة 1967 تم حشد الجنود بطريقة لا علم فيها ولا خبرة ولا خطة، وعندما بدأت المعركة انتهت بعد ست ساعات بقرار بالانسحاب من كامل سيناء، وهزيمة مروعة فقدنا فيها سيناء والجولان وباقي أرض فلسطين في كارثة لا تقل عن نكبة 1948 ولا نزال نعيش في آثارها حتى اليوم.


وحوكم عدد من هؤلاء القادة المُفرِّطِين في حق وطنهم وشعبهم ووظيفتهم، وقُضي بسجنهم، ولكن ماذا يُغني سجنهم جيشا فقد سمعته وكرامته، وشعبا فقد أبناءه وأرضه، وأمة فقدت مكانتها بين الأمم؟! وبالطبع فإن التاريخ سيسجل هؤلاء القادة في أشد صفحاته سوادًا.


بعدها انخلع الجيش من إدارة الحياة المدنية وتفرغ للعسكرية وتولى القيادة قادة جدد يؤمنون بالتخصص ويعيدون إنشاء الجيش على أسس عسكرية بحتة، ومناهج علمية، وتدريبات شاقة في ظروف في غاية القسوة، حتى إذا بلغنا عام 1973 وبدأ النداء المقدس بالجهاد في سبيل الله لتحرير الأرض في 6 أكتوبر الموافق 10 رمضان؛ عبر الجنود قناة السويس وشعارهم "الله أكبر"، وحطموا خط بارليف أقوى خط دفاع عسكري في العالم، بعدما حاول صحفي النكبة أن ييأسهم من إمكانية تحطيمه مدعيا أنه يحتاج إلى قنبلة نووية لتحطيمه، فإذا بسواعد الرجال تهيله بخراطيم المياة وعزيمة المجاهدين، وتُحقق أكبر نصر لمصر والعرب في العصر الحديث، وتأكدت الحقيقة أن الجيش إن تفرغ لمهمته وأخلص لها جهده نصره الله وسعد به شعبه، وحفظ التاريخ في أنصع صفحاته أسماء قادة عظام بعد أن حفظتهم قلوب المصريين حبًا، ولهجت بأسمائهم ألسنتهم مدحًا ودعاءً؛ المشير أحمد إسماعيل على، والمشير الجمسي، والفريق سعد الدين الشاذلي، واللواء عبدالمنعم واصل، واللواء عزيز غالي، واللواء أحمد حمدي، ومن قبلهم الفريق عبدالمنعم رياض، وغيرهم كثير.


وتولى الرئيس المخلوع الحكم؛ ونظرا لخلفيته العسكرية التي تقوم على دكتاتورية الأمر والنهي، والتي تتناقض مع الديمقراطية وسيادة الشعب، ظل يحكم في ظل حالة الطوارئ لمدة ثلاثين عامًا، يعتقل ويسجن ويعذب رجال أمنه والمواطنين، ويزور الانتخابات، ويمنع قيام الأحزاب الحقيقية ويمنع التعبير، ويصادر الصحف، ويجثم هو وحزبه على صدر الشعب، وينهب هو وبطانته ثروات الأمة ويهربونها للخارج، ويمهد لتوريث الحكم لابنه، وفي نفس الوقت يدينون بالتبعية الكاملة للسياسة الأمريكية والصهيونية، وفي هذا المناخ أسس العسكريون مؤسسات اقتصادية ضخمة حققوا من ورائها مزايا ضخمة؛ خصوصًا للقادة وذوي الرتب الكبيرة.


وحينما قامت ثورة 25 يناير 2011 – الثورة الشعبية السلمية – وأسقطت رأس النظام ومؤسساته، وراحت تعمل على تحقيق سيادة الشعب وحريته وكرامته، والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، شعر كثيرون بالخطر على مصالحهم التي يقدمونها – للأسف الشديد – على مصلحة الشعب والوطن، وكلما سارت الثورة على طريق التحول الديمقراطي أو محاربة الفساد وجدت مقاومة عنيفة من الثورة المضادة تبغي إجهاضها وإسقاطها، وتعاونت على ذلك قوى كثيرة في الداخل؛ الفلول والسياسيون الذين فشلوا في كل الانتخابات الديمقراطية التي أجريت، والدولة العميقة في مؤسسات الدولة ومنها الشرطة والجيش، إضافة لدول عربية وإقليمية ودول أجنبية.


وكانت قد تمت انتخابات برلمانية فاز فيها الإسلاميون والإخوان على رأسهم، وانتخابات رئاسية فاز فيها الدكتور محمد مرسي وهو إسلامي من الإخوان، ووضع دستور وافق عليه الشعب بنسبة 64%، وبعد حل مجلس الشعب بدأ الاستعداد لانتخابات مجلس آخر لتتم منظومة المؤسسات الدستورية.


إلا أن قادة الجيش تآمروا مع القوى الكارهة للثورة، والكارهة للإسلاميين، والكارهة لسيادة الشعب وحريته، والرافضة للديمقراطية، والخائفة من صناديق الانتخاب؛ واستغلوا غضب قطاع من الشعب من بعض الأزمات في المواد المعيشية مثل الوقود والكهرباء، وكانت أزمات مفتعلة، وكان هذا القطاع يطالب بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة فقط، لكن الجيش استخدمهم في القيام بانقلاب عسكري عزل فيه الرئيس واختطفه إلى مكان مجهول حتى الآن، وعطل الدستور المستفتي عليه، ثم تم حل مجلس الشورى، وقام وزير الدفاع بتعيين رئيس للجمهورية مؤقت، واقترح خارطة للمستقبل هي بالضبط ما اقترحه الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي لعلاج الأزمة السياسية في البلاد. إذًا فقد كان غرضهم وغرض من تآمروا معهم هو عزل الرئيس الشرعي وتعطيل الدستور.


وهذا الانقلاب إنما هو انقلاب على الشرعية وإرادة الشعب، وهو خيانة للأمانة ونقض للعهد ونكب باليمين، فقد أقسم وزير الدفاع بالله أن يحافظ على النظام وأن يحترم الدستور والقانون فضلاً عن إطاعة القائد الأعلى للجيش وهو رئيس الجمهورية المنتخب.


وفي نفس اليوم أغلق القنوات الفضائية التي توقع أن تعارض الانقلاب، واعتقل مسئوليها، إضافة إلى القيام بحملة اعتقالات واسعة وإسباغ شكل قانوني عليها بتلفيق تهم باطلة، هذه الحملة طالت وزراء ومحافظين سابقين، ورؤساء جامعات ونوابهم، وأساتذة جامعات، وأعضاء مجلس شعب وشورى، وأطباء ومهندسين ومحامين ومهنيين، وطلابًا وعمالاً وفلاحين، بل طالت نساءً وفتيات، بلغ عددهم حوالي عشرة آلاف.


ولكن المصيبة الأكبر أن هؤلاء الانقلابيون كشفوا عن وجوه دموية إرهابية قتلت المواطنين العزل في الشوارع والميادين، واستخدموا للأسف الشديد أبناء الشعب في الجيش والشرطة في القيام بمذابح تشيب لهولها الولدان، ولم يعرفها المصريون في العصر الحديث، والأدهى أن يقوم بها جنود الجيش المكلف بحماية الشعب، وباسلحة من أموال الشعب، فقاموا بمجزرة الحرس الجمهوري، ثم المنصة، ثم فض اعتصامي رابعة والنهضة، ثم مذبحة رمسيس، وميدان محمود، وغيرها في الإسكندرية، وغيرها من المدن. ولم يكتفوا بقتل الناس بالقناصة؛ وإنما قتلوا بعضهم بالحرق أحياء، وأجهزوا على الجرحى، وحرقوا عددًا من الجثث، وجرفوا البعض الآخر بالجرافات، ودفنوها في أماكن مجهولة، حتى بلغ عدد الشهداء حوالي خمسة آلاف إضافة إلى ألف من المفقودين إضافة لعشرة آلاف مصاب، كما حرقوا المساجد والمصاحف.


وهذه أول مرة في التاريخ يقاتل الجيش المصري شعبه ويقتل منه الكثير، الأمر الذي أحدث شرخًا في جدار الوطنية المصرية لدى الجيش، وشرخًا عميقًا في العلاقة بين الشعب والجيش؛ كما قام هؤلاء الانقلابيون بتحريض الإعلام التابع لهم والمنفرد بالساحة على شن حملة من الأكاذيب والافتراءات على الإخوان المسلمين لا تمت إلى الحقيقة ولا إلى العقل والمنطق بصلة، من أجل تمزيق نسيج المجتمع المصري، حتى قال مطربهم "إحنا شعب وانتو شعب".


ثم استعرض هؤلاء الانقلابيون قوتهم باقتحام مدن وقرى مصرية في الصعيد بالدبابات والمجنزرات والطائرات والقناصة والقوات الخاصة، في دلجا وكرداسة وناهيا والعياط، للقبض على المعارضين للانقلاب، ولا ندري أي بطولة أو شجاعة أو رجولة في اقتحام المدن والقرى المسالمة وغزوها، وترويع الآمنين فيها واعتقال الأبرياء؟


إن انتشار قوات الجيش في الميادين والشوارع والمدن والقرى تقطع بأن الانقلابيين يشعرون بالضعف وفقدان الشرعية، ويستعيضون عن ذلك بنشر الأسلحة والجنود.


والسؤال: هل هذه مهمة الجيش، هل التدخل في السياسة والسيطرة على الحكم، وقمع الناس وإرهابهم، هو دور الجيش، ومن إذا للحدود يحميها والبلاد يدافع عنها ضد الأعداء، وليس للعدوان على الشعب الأعزل؟


إن هذا ما أسعد "دان حالوتس" رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق فقال: "إن انغماس الجيش المصري في السياسة سيضعفه على المدى الطويل"، وقال الجنرال "رؤفين بيدهتسور" رئيس هيئة أركان سلاح الجو الإسرائيلي سابقًا: "إن ما فعله السيسي سيتيح تفوقًا كاسحًا لإسرائيل على العرب لزمن طويل".


ولماذا نذهب بعيدا؛ ألم يقل السيسي نفسه إن الجيش لو نزل إلى الشارع فلا يتكلم أحد عن مصر 30 أو 40 سنة؟! أي أنها ستتخلف 30 أو 40 سنة إضافية؟
فماذا نسمي ما فعله بانقلابه الدموي الإجرامي؟!


إذا كان التاريخ يذكر قادة 1973 في أنصع صفحاته، فلا ريب أنه سيذكر قادة الانقلاب الدمويين القاتلين لإخوانهم المصريين مع نيرون وهولاكو وهتلر.


ورغم هذه الصورة القاتمة فإن هناك صورة مبهرة وهي صورة الشعب المصري العظيم الذي يقاوم هذا الانقلاب الدموي مقاومة سلمية، بصدوره العارية، وأيديه الفارغة، وحناجره الجاهرة كل يوم، وفي معظم محافظات ومدن وقرى وميادين مصر، في مظاهرات حاشدة يشترك فيها الرجال والنساء والشباب والفتيات. ولقد تحمل شباب المدارس والجامعات معهم الآن مسئولية الاستمرار في هذه الفعاليات التي امتدت لثلاثة أشهر متواصلة، حتى إسقاط الانقلاب وعودة العسكر إلى ثكناتهم، وعودة الشرعية وتحقيق سيادة الشعب وحريته، وكل أهداف ثورة 25 يناير 2011.


إننا اليوم في ذكرى نصر 6 أكتوبر 1973 نحتاج إلى نصر جديد؛ نصر يحققه الشعب – للأسف الشديد – على من انقلبوا عليه لمصالحهم الشخصية، وكان يدخرهم لنصرته وحمايته، أو يثوب الانقلابيون إلى رشدهم ويعودون إلى ثكناتهم ويحترمون إرادة شعبهم.


وإننا لندعو الشعب المصري الصامد الكريم أن يستوعب الغالبية من جيشه، فهم أبناؤه وإخوانه، ويقيننا أن الأغلبية يرفضون خيانة أهلهم وشعبهم، ويرفضون أن يحسبوا مع الانقلابيين السفاحين.


 (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)


وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


القاهرة في: 27 من ذي القعدة 1434هـ 3 من أكتوبر 2013م