بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...
فقد مضى الشهيد "إسماعيل أبو شَنَب" إلى ربه، واحدًا من ركب الأبرار الأطهار، الذين اصطفاهم الله للشهادة في سبيله، من شعبنا الفلسطينيّ المجاهد؛ ليُرافق إخوانه الذين سبقوه على دَرْب الشهادة، ولا نزكِّيْهم على الله، فهو حسيبهم... "يحيى عيَّاش" و"محمود أبو هنود" و"إبراهيم المقادمة"، وغيرهم كثيرون لا يعلمهم كثير من الناس، وليس ذلك بضارهم شيئًا، إذْ عرفهم الرحمن- جلَّ وعَلا-، وزفَّتْهم الملائكة في أعراس السماء... ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).
ولنْ يَكُون "أبوشنب" آخِرَ شهدائِنا الذين يرسمون بدمائهم الزكية خيوط فجر النصر للإسلام القادم- لا محالة- بإذن الله، لن يكون آخرهم... ما دام هتافُنا الدائم- "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"- يتجاوب مع نداء الحق سبحانه... ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية111)، ونداء رسوله الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ، ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ"، وقد علَّمتنا حكمةُ التاريخ أن دماءَ الشهداءِ لا تذهب سُدىً في دنيا الناس، وأنه ما انتصرت أمةٌ نصرًا عزيزًا إلا بتضحيات أبنائها، مهما كان دينها أو حضارتها أو جنسها...
وللحريةِ الحمراءِ بابٌ  ****  بكل يدٍ مُضرجة يدقُ
ولسنا نرى سبيلاً لتحقيق النصر لأمتنا- وانتزاع حقوقها السليبة في فلسطين والمسجد الأقصى المبارك- إلا بالجهاد في سبيل الله، وهذا ما أكَّده المنْهج الرباني والواقع المُعاش على السواء، وقد كانت هذه قناعتنا منذ بدء المشروع الصهيوني، وطالما ذكَّرْنا أمَّتنا بذلك؛ كيْلا تُخدِّرها دعاوى السلام الزائف، ووعوده الكاذبة مع عدو نعلم من قرآننا أنَّه لا يحفظ عهدًا، ولا يرعَى ميثاقًا، ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة:100) حتَّى مع الأنبياء والمرسلين ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ (البقرة: من الآية 87)، ونعلم من خبرة التاريخ أنه لم ينفِّذ يومًا معاهدةً أبْرمَها، أو اتفاقًا عقده، وأنه يُجيد الخداع والمناورة، ولا يفهم إلا لغة القوة!!، وأين مواثيق (كامب ديفيد) و(واي ريفر) وأخيًرا (خارطة الطريق) التي وضع الكيان الصهيوني عليها أربعةَ عشر تحفظًا أفرغتها من مضمونها الهزيل أصلاً، وأعلنت أمريكا أنها تتفهَّم تخوّفات الكيان الصهيوني وتحفظاته، في الوقت الذي مارست فيه أقصى الضغوط على العرب والفلسطينيين فغَدَت السلطة الفلسطينية مهدَّدةً- إنْ لم تُفكِّك البنية التحتية للفصائل الفلسطينية المجاهدة- أن تتعرض لمزيد من الضغط والتضييق والحصار، فضلاً عن عدم الاعتراف، وكان ذلك مما يهدد الوحدة الوطنية الفلسطينية التي هي الضمان الأكيد لاستمرار الوجود والجهاد معًا، ومن هُنا قَبِل المجاهدون في (حماس) والمنظمات الفلسطينية الأخرى هُدنةً مشروطةً لتفويت الفرصة على المَكْر اليهودي- الأمريكي، وليتضح للعالم- الذي غزَته الدعاية الصهيونية- أنَّنا لسْنا دُعاةَ حرْبٍ لمجرَّد الحرب، وأن الكيان الصهيوني لن يحفظَ عهدًا، رغْم ذلك، فكانت الهُدنة مشروطةً أن تكون (تبادلية) مع المغتَصِب الصهيوني، وأن يَكفَّ عن سياسة الاعتقال، والاغتيال، والهدم، وبناء السور العنصري، الذي يلتهم ما تبقَّى من أرض فلسطين، ويبدّد الحلم الفلسطيني والوعد الدولي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

الكيان الصهيوني هو الذي نقض الهدنة:
فهل وفَّى الكيان الصهيوني بشيء من ذلك؟!
الإجابة يعرفها الكافة...! لقد واصل الكيان الصهيوني كل جرائمه، وصمَتَت أمريكا، وغدَا دأبهم هو المطالبة بتقويض البنية التحتية للمنظمات الفلسطينية المجاهدة؛ ليخسَر المفاوض الفلسطيني الورقة الأخيرة الصالحة للضغط واستخلاص الحقوق، وإذا كان لم يحقق شيئًا بالتفاوض- وهو يمتلك القوة المسلحة وإمكان استعمالها- فماذا سوف يحقق وهو صفر اليدين، يُعاني الاحتراب الداخلي واختلال الصف وشبح الحرب الأهلية؟!


الهدف الأصيل لهم استبعاد الإسلام من ساحة الصراع:
إن الهدف الأصيل للكيان الصهيوني منذ بداية الصراع هو استبعاد الإسلام من ساحة المواجهة، فهْمًا وتنْظيرًا وعملاً وتنفيذًا، وقد عبَّر عن ذلك أركان النظام الصهيوني منذ بداياته على لسان أول رئيس وزراء لهم "بن جوريون"، حيث قال: "نحن لا نخشى خطرًا في المنطقة سوى الإسلام"، وما قاله رئيس وزراء آخر لهم من (الحمائم المزعومة)- "شيمون بيريز"-: "إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة مادام الإسلام شاهرًا سيفه، ولن نطمئِنَّ على مستقبلنا حتَّى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد"!

وقد أحسَّ الكيان الصهيوني طوال الخمسين عامًا الماضية بصدْق الرؤية الإسلامية المجاهدة في إدارة ذلك الصراع أو المشاركة فيه، منذ لاقى كتائب (الإخوان المسلمين) في فلسطين سنة 1948م، وعلت صيحةُ (الله أكبر) بالعبور التاريخي العظيم في حرب أكتوبر سنة 1973م، حتى ظهرت كتائب (عز الدين القسام) وإخوانها من المجاهدين من شتَّى الفصائل الإسلامية الصامدة، وقد أصبح المسلمون اليوم مستهدفِين في كثير من بقاع الأرض، متّهَمين مع ذلك بالإرهاب والدموية، وإنَّ ذلك الوضع مما يوجب علينا تصحيح التصور لما يحدث على الساحة العالمية، ويجعل الجهاد في فلسطين- وهو دفاع عن النفس والمال والعرض والأرض- مشروعًا وِفْق كل المعايير الدولية والشرائع السماوية.


الجهاد فرض على الأمة كلها:
وإنَّ واجب الأمة اليوم- حُكامًا وشعوبًا- هو دعم إخواننا وأهلينا في فلسطين، وهو واجب ديني، وفرض عين على كل مسلم مادامت أرضه قد استُبِيْحَت، وإنَّنا نُطالب حكام المسلمين في ذلك الوقت العصيب أن يقوموا بدورهم، ويضطّلعوا بمسئولياتهم أمام الله، ثم أمام شعوبهم.

إنَّ الاكتفاء بموقع المتفرج أمام جنازات الشهداء اليومية، ونكبةِ شعب عربي مسلم يُعاني الحصار والتجويع والتشريد والمصادرة أمرٌ لا يمكن قَبوله أو الرضا به، وإنَّ شعوبَنا المسلمة مطالَبَةٌ بالقيام بواجبها في تفهُّم طبيعة ذلك الصراع الدائر على أرض الإسراء والمعراج وحول جنَبات الأقصى، وفي دعْمِ جهاد المسلمين هناك ماديًّا ومعنويًّا، وتشجيع ومواصلة المقاطعة الكاملة لكل منتجات العدو الصهيوني والأمريكي، مع الدعاء الدائم الخاشع لله تعالى أن يحقق لنا العِزة والحرية، ولأرضنا السلامة والاستقلال.

وغيرُ خفيٍّ مَدَى ما تتعرض له السلطة الفلسطينية من ضغوط وعنَت لضرب البنية التحتية للفصائل الفلسطينية، ومصادرة سلاحها، وحرمانها من وسائل الجهاد العسكري، وفي ذلك ما فيه من خطر جسيم يُهدد الصفَّ الفلسطيني المتماسك حتَّى الآن، الذي يُثير- بتماسكه- الإعجاب، ويعطي الدرس.

ولا ريب أن أي إضعاف للمقاومة الفلسطينية هو إضعاف للسلطة نفسها، يعرّضها لخطر الانعزال عن شعبها وأمَّتها، ويوقِفُها أمام الغَدر الصهيوني المعتاد بغير ظُلْفٍ ولا ناب، وهي سلطة مستهدَفة للعدوان، وهاهم أولاء حكام الكيان الصهيوني يضعون "ياسر عرفات" على رأس قوائم المطلوبين للاغتيال والتصفية الجسدية ضمْن عديدٍ من رموز المجتمع الفلسطيني، الذين صاروا في عُرف الصهاينة أرقامًا على أوراق اللعب، كما فعل حلفاؤهم الأمريكيون في العراق، وفضلاً عمَّا يتعرَّض له "عرفات" من الحصار، فإن "محمود عباس" (أبو مازن) ليس بعيدًا عن الخطر، وها هم أُولاء بعض زعماء الصهاينة ينادون بطرده مع "عرفات" من فلسطين.


الحل ليس في يد أمريكا الآن:
ولعل دماءَ شهدائنا البرَرَة تُورث فيْنا اللجوء إلى الله تعالى وحده، والاستنْصار الصادق به سبحانه، والتحرُّر من أباطيل الشيطان وأضاليل النفس، حين ينتابها الضعف والخذلان، فتوحي إلى بعضنا بالتماس العدل الأمريكي، والطلب المُلحّ من أمريكا أن تضغط على الكيان الصهيوني للانسحاب من بعض الأراضي، أو قبول شيء من التسوية، وآنَ لنَا أن نُدرك أن أمريكا لم تكُن منذ أمدٍ بعيدٍ مهيأةً لتبنّي قضايا العدل عند شعوبنا أو إدراكها، وهي تذكِّرنا- ليل نهار- أن الكيان الصهيوني هو الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهو الآن أشدُّ بعدًا عن إدراك أماني الشعوب العربية في الاستقلال والحرية.

إنَّ أمريكا الآن تعاني مرارةَ المستنقع العراقي الذي أقحمَت نفسها فيه- بالرغم من معارضة المجتمع الدولي- فغَدَت سلطةَ احتلال، تمارس كل جرائمِه ضد شعبنا في العراق، فهل يُرجى من سلطة احتلال أن تؤاخِذ الكيان الصهيوني على احتلاله أرضنا في فلسطين؟ وإنَّ أمريكا لتَنظر إلى المقاومة العراقية ضدَّها على أنها (إرهاب)!، فهل يدفعها ذلك إلى انتقاد تصرُّف الكيان الصهيوني ضدّ المقاومة الفلسطينية؟ وإن أمريكا لتُمارِس العنصرية ضد العرب والمسلمين بأبشع صورها، فهي تَرى أن المواطن الأمريكي الذي ذهب ضحية حادثة (لوكيربي) مستحقٌ للتعويض المادي بملايين الدولارات، ولا تَرى ثمنًا لدمائنا المُهراقة في فلسطين والعراق وأفغانستان.
إنَّ الحل لمشكلاتنا يأتي من داخلنا نحن ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية11)، وإننا لَعَلى يقينٍ من موعود ربنا لنا، بنصرة الإسلام، وعزة أهله... ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة:21).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.