تتحرك سلطة الانقلاب بوتيرة متسارعة لتمرير دستورها بأي طريقة حتى لو اقتضى الأمر حشد ضباط وجنود القوات المسلحة والشرطة وأسرهم للتصويت لستر عورة الغياب الشعبي المتوقع عن اللجان.

وبينما كانت لجنة المخمسين تسابق الزمن لتمرير النصوص- رغم انتهاء مدتها المقررة سلقًا- كانت جموع الطلاب تحتشد في ميدان التحرير لأول مرة بكثافة كبيرة (سبق أن وصلت بعض الأعداد القليلة من قبل مرتين)، وكان اقتحام الطلاب للتحرير انتصارًا في حد ذاته بعد أن اعتبرته سلطة الاحتلال قدس أقداسها التي لا تسمح لأنصار الشرعية بدخوله مهما كلف ذلك من ثمن، كما كان هذا الاقتحام دهسًا لما يوصف بالدستور الجديد قبل أن يعرض على الاستفتاء الوهمي.

ومع تأكيد رفض هذه الوثيقة من حيث المبدأ، لكونها إحد إفرازات الانقلاب على الشرعية، وعلى الإرادة الشعبية التي أقرت من قبل دستور 2012 بأغلبية تقارب الثلثين، ومع الإدراك لخطورة الانجرار إلى أحاديث تفصيلية في نصوص هذه الوثيقة غير الشرعية، فإنني أسمح لنفسي بإطلالة سريعة على بعض نصوصها التي تكشف إلى أين وصلت مصر في عهد الانقلابيين بطمس هويتها العربية الإسلامية التي أكدها الدستور الشرعي، وشارك في صياغتها كل ممثلي المجتمع بمن فيهم القوى الليبرالية واليسارية والمسيحية قبل انسحابهم من الجمعية التأسيسية للدستور الشرعي.

لقد جاء المنتج النهائي للجنة المخمسين ليؤكد الانتصار التاريخي لممثلي الكنائس المصرية وحلفائههم العلمانيين؛ الذيين مثلوا الغالبية الكاسحة لأعضاء اللجنة في مواجهة هزيمة مروعة لممثلي الأزهر وحزب النورالذين ظلوا سندًا للانقلاب حتى اللحظة، ولم يتمعر وجه أحدهم لحذف الكثير من مواد الهوية والشريعة التي لم ينضموا إلى اللجنة إلا لحمايتها إن لم يكن تعزيزها!!.

دخل ممثلو الكنائس وحلفائهم العلمانيون إلى هذه العملية بقناعة لا تحتمل الشكوك أنهم هم الذين نزلوا يوم 30 يونيو ومهدوا لهذا الانقلاب العسكري، وبالتالي فمن حقهم وحدهم أن يجنوا ثمار جهدهم، وهو ما ظهر فعلاً في روح ونصوص المسودة الأخيرة التي أقرتها لجنة الخمسين وقبل ذلك في الديباجة التي أحلت ما وصفته بثورة 25 يناير- 30 يونيو بدلاً من ثورة 25 يناير فقط.

وبينما سادت البهجة الكنائس المصرية والبارات العلمانية كان غريبًا أن يعلن المتحدث الإعلامي باسم حزب النور عن موافقة ورضا الحزب عن مشروع الدستور في مجمله، ويؤكد أن مواده التي تم الاتفاق عليها ترضي الحزب في مجملها، كما أنها ترضي التوافق العام الذي ساد لجنة الخمسين بعد الاتفاق على المواد المختلف عليها في مواد الهوية وغيرها!!!.

في الوقت الذي تهاوت فيه مواد الهوية والشريعة الواحدة تلو الأخرى بضغوط القوى العلمانية والكنسية، راح ممثلو تلك القوى يسجلون المكاسب تلو المكاسب حتى اللحظة الأخيرة لإقرار المواد في الجلسة العامة والتي أرجأت التصويت على بعض المواد انتظارًا لتعديلها وفقًا لهوى تلك القوى كما حدث في إضافة نصين جديدين في آخر لحظة أحدهما (المادة 235) التي تفرض على مجلس النواب في أول دور انعقاد له اصدار قانون لتنظيم بناء وترميم الكنائس بما يكفل حرية ممارسة المسيحييين لشعائرهم الدينية، وهو طلب أصرت عليه الكنيسة كثيرا ولم تقبل فيه أي شفاعة حتى تمكنت من تحقيقه في اللحظة الأخيرة.

المكسب الثاني الذي حققته الكنيسة في آخر لحظة أيضًا هو الحصول على تمييز إيجابي للمسيحيين في أول انتخابات لمجلس النواب مع فئات أخرى (المادة 244) وهو نص جرى حوله نقاش واسع في الجلسات الفرعية والعامة وخرجت المسودة النهائية بدونه، لكن ممثلي الكنيسة أصروا على وضعه في الثواني الأخيرة.

لا يقتصر الأمر على هذين النصين اللذين اختطفهما ممثلو الكنائس في الثواني الأخيرة، ولكنهم حققوا العديد من المكاسب من قبل وأهمها إلغاء المادة 219 المفسرة للشريعة الإسلامية، والتي كانت أم القضايا لحزب النور، سواء في الجمعية التاسيسية السابقة أو في لجنة الخمسين والتي أعلن الحزب أن مشاركته في الانقلاب هي لحماية هذه المادة تحديدًا إضافة لغيرها من مواد الهوية، والغريب أن حزب النور الذي كان يعتبر هذه المادة مقدسة من قبل لم يعتبرهها كذلك (حسب تصريحات ياسر برهامي) بعد انسحاقه أمام العلمانيين وممثلي الكنيسة، بل قبل ما هو أسوأ وهو تفسير  المحكمة الدستورية للشريعة، وهو التفسير الذي يحشر الشريعة في أضيق نطاق، وهو ذاته التفسير الذي دفع حزب النور من قبل لاقتراح المادة 219 التي شاركه في صياغتها الأزهر.

وللتذكير فان الكنيسة المصرية قبلت من قبل خلال الجمعية التاسيسية لوضع دستور 2012 ومن خلال ممثلها الأبرز الأنبا بولا الذي يمثلها أيضًا في لجنة الخمسين للمادة 219 وذلك مقابل وضع مادة خاصة بالمسيحيين واليهود وهي المادة الثالثة من دستور 2012 "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية"، ورغم حذف المادة 219 الطرف الأول في تلك الصفقة، إلا أن المادة الثالثة نقلت وبرقمها إلى الوثيقة الجديدة بفضل إصرار ممثلي الكنيسة، وكان ينبغي أن تلغى مع المادة 219.

وكان الضلع الثالث المكمل للمادتين السابقتين هي المادة الرابعة الخاصة بالأزهر والتي تم تفريغها من جزء كبير من مضمونها خاصةً أخذ رأي هيئة كبار العلماء  في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، كما تراجعت المادة في ترتيبها إلى رقم 7 وتم نقلها من الباب الأول الخاص بالدولة إلى الباب الثاني الخاص بالمقومات دون اعتراض من ممثلي الأزهر الذين بدا بعضهم أكثر علمانية من العلمانيين التقليديين.

لقد كانت بداية التغيير في الهوية من المادة الأولى التي تنص في الدستور الشرعي على أن جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة، والشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية......"؛ ليأتي المقترح الجديد ناصًّا على أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية منكرًا وجود أمة إسلامية (ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من موضع) مكتفيًا بوصفها بالعالم الإسلامي، وقد تكرر العدوان على الهوية في المادة السادسة التي تنص في الدستور الشرعي على "يقوم النظام السياسي على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة ....... ولايجوز قيام أحزاب على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين" لتلغي في المسودة الجديدة كلمة الشورى التي لا تروق للعلمانيين وممثلي الكنيسة والتي لم يستطع الدفاع عنها ممثلو الأزهر وحزب النور، ثم يأتي النص الجديد الخاص بتكوين الأحزاب في المادة 74 ليمنع قيام الأحزاب على أساس ديني كما كان الوضع في دستور 1971 وبالتالي يفتح الباب لحل الأحزاب الإسلامية بما فيها حزب النور نفسه الذي شارك في صياغة هذه الوثيقة.

لم يقتصر الأمر على حذف بعض الفقرات اوالكلمات بل تعداه إلى حذف نصوص بأكملها دون تعويضها بنصوص بديلة، فقد حذفت المادة 11 من الدستور الشرعي ونصها: "ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية والثقافة العربية والتراث التاريخي والحضاري للشعب.."، والمادة 12 ونصها: "تحمي الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف" والماددة 204 الخاصة بالمفوضية الوطنية لمكافحة الفساد"، والمادة 212 الخاصة بانشاء هيئة عليا لشئون الوقف تقوم على تنظيم مؤسساته العامة والخاصة وإن أبقت الوثيقة الجديدة على مادة الوقف نفسها.

كان واضحًا أن الهدف الأساسي للانقلابيين أعضاء لجنة الخمسين هو طمس هوية مصر الحضارية العربية الإسلامية ليحلوا محلها هوية "مسخ" "سمك لبن تمر هندي" على شاكلتهم، وكانت الفرصة متاحة أمام ممثلي حزب النور والأزهر حتى آخر لحظة للانسحاب وتبرئة أنفسهم من تلك الفعلة، لكنهم أبوا إلا البقاء حتى آخر ثانية، وحسابهم أمام الله في الآخرة وأمام الشعب في الدنيا.