تظل القيم النبيلة هي الأعمدة التي تحفظ بناء المجتمع، وتظل أيضًا هي ما يحفظ للإنسان إنسانيته، فالقيم النبيلة هي معشوقة النفوس الجميلة، فالإنسان القديم نسج من خياله أساطير يجسد ويمجد بها القيم النبيلة، فأساطير اليونان والرومان نسجت قيم الحب في "كيوبيد" والتضحية في "بروميثيوس" والجمال في "فينوس".

 

والعرب من قبل الإسلام نسجوا قصصًا وأساطير تنقل لنا قيمة البطولة والنبل في قصة "عنترة بن شداد" وقيمة الكرم في "حاتم الطائي" وقيمة الحب العذري في قصة "عروة وعفراء".

 

بل حفظوا وتناقلوا قيمًا احترموها وخلدوها لجيرانهم من اليهود، فتناقلوا عبر الأجيال قصة وفاء "السموأل"، الرجل اليهودي الذي ضحَّى بابنه، ورفض تسليم دروع حُفِظت عنده كوديعة، واختار أن يُقتل ابنه مقابل حفظ الأمانة.

 

فخلد "الأعشى" هذا الموقف في شعره:

كنْ كالسموأل إذْ طاف الهُمام به                 في جحفلٍ كهزيعِ الليلِ جرار
فقال: غدرٌ وثكل أنت بينهما                      فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشَكَ غيَر طويلٍ ثم قال له :                     أقتلْ أسيرَكَ إني مانع جاري .

 

هذه القيم جعلت المجتمع العربي الجاهلي يقيم "حلف الفضول" لنصرة أي وافد على مكة يتم الاعتداء عليه، وجعلت كفار قريش ينتظرون خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) خارج بيته في الهجرة ولا يقتحموا عليه داره، وجعلت "أبوجهل" يتوارى خجلاً بعد أن انفعل ولطم "أسماء بنت أبي بكر".

 

ونحن في مجتمعاتنا:

هل تذكرون أول بيت في القرية، وأول منزل في العمارة دخله التليفزيون، وكيف تحول لمضيفة لاستقبال الجيران؟

هل تذكرون ظهور الثلاجات في البيوت، وتوزيع الثلج على الجيران قبيل الإفطار في رمضان ؟

هل تذكرون مواساة أصحاب العزاء بالامتناع عن عمل كعك العيد، والاستماع للراديو والتلفاز ؟

هل تذكرون مظاهر الحب والأخوة والتكافل التي ظللت مجتمعنا بظلها، وأمدتنا بدفئها ؟

هذه هي القيم التي توارثناها جيلاً عن جيل.

 

هذه هي القيم  التي حفظت لنا مجتمعنا من العطب، وظلت هذه القيم برغم فساد الحكم تتحدى أن يمتد الفساد إلى نسيج المجتمع.

 

وعلى مدار تاريخنا كله، كان نظام الحكم يعتدل أحيانًا، ويفسد كثيرًا، ولكن ظلت قيم المجتمع راسخة حتى في ظل فساد الحكم، وكانت الأمة بخير حتى في لحظات الانكسار والهزيمة.
أما إذا وصل سوس الفساد للدرجة التي ينخر في قيم المجتمع، ويضرب بعضه ببعض، ويحرض بعضه على بعض، فأنت هنا تتحدث عن خطر يهدد السفينة بالغرق.

 

وإن لم يفق المجتمع قبل فوات الأوان للخطر الذي يمثله ثلة من المفسدين الذين يتاجرون بعقول وعواطف الناس، وينتبه المجتمع لمخطط ضرب النسيج الاجتماعي للوطن فسيكتوي الجميع بالنار، و سيكون كل مشارك، أو ساكت عن هذه الجريمة شريكًا في تحمل وزرها.